د. منى فياض: جورج زريق الذي احرق نفسه لن يكون بوعزيزي لبناني

127

جورج زريق الذي احرق نفسه لن يكون بوعزيزي لبناني
د. منى فياض/09 شباط/19

اندلعت الثورات العربية انطلاقاً من جسد قام بحركة مفاجئة. جسد الشاب التونسي بو عزيزي كان مسرحها وموضعها. أضرم النار في نفسه، في جسده. تحول هذا الجسد إلى تجسيد للرفض المطلق ورمزاً له. اشتعلت النيران ملتهمة الجسد والخوف معاً، مفسحة المجال لانبثاق طاقة تجاوزت في تفجرها الرهبة والرعب القدريين. وجدت الثورة لها جسداً وصار لها موضعا انحفرت فيه هويتها ومآلها. صار لها جسد مقتحم ومشارك بقوة لن تقهر بعد الآن. في ثقافتنا نعرف طائر الفينيق الذي نتشبه به عند كل حرب جديدة نشعلها بيننا، ونقول ان لبنان ينبعث من تحت الرماد مثل فينيقنا !! والفينيق طائر أسطوري يتميز بقدرته على الولادة المتجددة بعد ان يحرق نفسه بحرارته الذاتية. وهو يرمز بهذا الى حلقتا الموت والانبعاث. وهو إذ يعيش طويلاً لكنه غير قادر على التناسل؛ لذا عندما يشعر أن نهايته قد حلّت، يهيئ عشاً من أغصان معطّرة ومن بخور ويترك نفسه للاحتراق الذاتي.. ومن رماد هذا الاشتعال، ينبعث فينيقاً جديداً يتوصل لضبط النار أكثر فأكثر عند كل اشتعال. لا يحصل إضرام الجسد للقضاء عليه، بل لكي يتمكن من الانبعاث مرة أخرى. لكي يتجدد. من هنا وجه القرابة بين فعل بوعزيزي وبين الاسطورة: وصلت الاوضاع في تونس وفي العالم العربي الى طريق مسدود، الى “زنقة” مقفلة؛ فجاء اشتعال النار في جسد بو عزيزي مؤشراً وإيذاناً بانبعاث أزمنة أخرى لأجساد جديدة.
لكن هذا كان في تونس.
اما في لبنان فامر آخر. كتب الصحافي صبحي ياغي: “وقف صديقي وسط القاعة معلنا استنكاره لقيام جورج زريق باحراق نفسه في الكورة لعدم تمكنه من دفع الاقساط المدرسية لاولاده… كل من في القاعة سمع الخبر واكمل حديثه بشكل عادي جدا …البو عزيزي في تونس الذي اشعل نفسه، اشعل ثورة بامها وابيها ، ولكن في جمهورية الطوائف وعبدة الاصنام والتماثيل والشياطين …الامر بسيط جدا .. معقول مثل هذا الخبر لا يهز الدولة لا يهز ضمائر الرؤساء ..من اي طينة انتم … يا أشباه الرجال ولا رجال ؟ “. البوعزيزي احرق نفسه بعد ان اهانته الشرطية وضربته بالكف على وجهه. جورج زريق احرق نفسه بعد ان رفضت المدرسة اعطاءه افادة مدرسية لابنته.
في الحالة الأولى الغضب للكرامة والوضع الاقتصادي.
في الحالة الثانية الغضب من الإهانة المزدوجة ومن الحاجة الاقتصادية. من الإحساس بالعجز عن تعليم الابنة، في البلد الذي انبثقت منه الابجدية التي غيرت وجه العالم؛ والشعور بالاهانة لرفض المدرسة اعطاءه حتى الإفادة التي تبرهن عن هذا العجز.
فلو خيّر جورج زريق لفضل إبقاء طفلته في مدرستها الخاصة، ولما اضطر الى نقلها خلال العام المدرسي الى المدرسة الحكومية التي فقدت مستواها الرفيع الذي تمتعت به قبل انهيار المؤسسات الحكومية على مختلف أنواعها.
لبنان لم بعد لمواطنيه، بل تملكته طبقة سياسية مع ملحقاتها وتتعامل مع سكانه كالرقيق.
نقل صديق فايسبوكي (نبيل كنعان)، ما يلي: ” لمّا قريت يللي كتبو أحد الزملاء الأطباء الْيَوْم عن يللي صار أمام مستشفى كليمنصو .. فار دمّي ..!! شقيقة وزير صار سابق من شي يومين .. بتؤمر الشوفير إنّو يصف سيارتها على مدخل المستشفى لأنها بدها تطلع تشوف حدن وترجع دغري عالسيارة. ما هي مش مجبورة تنطر السيارة لترجع ومنّها مضطرة تدفع ڤاليه پاركينغ. وأخونا الشوفير مرعوب من المدام لأنو خيّها بعبع راعب البشرية ومحطّم الأرقام القياسية بعدد سيارات المواكب تبعو .. المدام طبعاّ طلعت من السيارة مشنفخة رأسها لفوق ومناخيرها كمان كأنها شامّة ريحة مكبّ برج حمّود .. ومفتكرة حالها ماري كوري أو ڤالنتينا تريشكوڤا .. ولو .. مش خيّها الوزير الفلاني بطل الأبطال وريّس الأدغال ومحطّم قلوب العذارى ..؟ وبعد شوي بيطلّ طبيب عمبيشتغل مستشار آخر هالايام وكمان بيقرر يسكر مدخل المستشفى لأنو .. هيك .. حرّ هوّي .. ما بدو يتعذّب ..شو إنتي حريجو ..؟ بدو يصفّ محل ما بدو وما حدا خصّو .. ما هوّي مستشار لزعيم وهيدا بيخوّلو يعمل شو ما بدو .. وأنتو يا حشرات شوفو كيف بدكن تدبرو حالكن .. نشالله مفتكرين حضرتو مجبور فيكن ..! .. هيدا الزلمي حامل همّكن وأنتو مجبورين تغنّجوه وتدلّعوه وتحلمسولو لأنو بيحكي عنكن ..”.
أحاول يوميا ان افهم هذا التبلد في الاحاسيس عند اللبناني؟ والاكتفاء “بالثورات الفايسبوكية – الافتراضية!”
لا اجد إجابة واحدة مقنعة، لذا اتلمسها حتى وانا احضر فيلما بعيدا عن كل ما نعيشه. ولقد شاهدت مرة بضعة مشاهد من فيلم بالصدفة… فتى يافع يقول لجدته: لم انم امس. كنت افكر لو اننا اجتمعنا هنا من اجل جنازة بدلا عن عرس لربما شعرنا بالارتباط أكثر، الموت هو الذي يوحّد وليس الحب.
ترد الجدة هذا مثير للاشمئزاز!! انت لم تتربّى كما يجب.
يقول لماذا؟ عندما حصلت احداث ايلول 2001 ، وكنت صغيرا جدا، كانت المرة الوحيدة التي شعرت بها بالارتباط بأفراد عائلتي بعمق. ربما نحتاج الى تراجيديا كي نتوحد!!
عندما استمعت اليه فهمت ما يشعر به من رتابة عيشه. يحتاج الى مشاعر قوية تهزّه كي يشعر بوجوده وكي يشعر بارتباطه بالآخرين. لكن هذا اليافع يجهل بالمقابل ان التراجيديا يكون لها هذا التأثير القوي لأنها نادرة الحدوث.. وان من يعيش سلسلة من الأحداث التراجيدية يتعب وتفرغ مشاعره ويخفت تضامنه ويشعر بالخوف والوحدة.. السنا في تراجيديا متقلبة لا تتوقف منذ عام 2005 ووصل بنا الحال الى ما نحن عليه!؟ من التفكك التام وانحلال اللحمة وانحدار القيم الى مستوى غير مسبوق!! تحلل يشمل الاسرة والاصدقاء والجيران..الخ. بسبب الخلافات وانعكاس الصراعات السائدة. هناك فكرة موهومة عند البعض حول “عصبيتهم المذهبية التي توحدهم” وتجعلهم أقوى. الجميع ضعفاء وخائفون ولا يفكرون الا من احشائهم وغرائزهم. يوحدهم الخوف والجبن. التراجيديا عندما تصبح خبزنا اليومي تحيلنا الى اشباه بشر. فبئس الزمن الذي تطلب من جورج احراق نفسه لتأمين تعليم اولاده.