الأب سيمون عساف/دَعُوا الأَطفالَ

61

دَعُوا الأَطفالَ
الأب سيمون عساف/04 كانون الأول/2020

اروع ما يُلفت النظر في الكون، تطلُّعٌ ملائكيٌّ وديع من عيني طفل بَريئتين، تسبح فيهما وكأنك تحدِّق الى فضاءٍ سمنجونيٍّ سحريٍّ بديع. سبحان الرب الخالق! يكفي التأمَّل في العين وشبكاتها وتركيبتها وقدرتها على تمييز الألوان واستيعاب الأمور من البعيد والقريب . يمكن تلخيص وظيفتها بدخول الضوء إليها وتركّزه على شبكيتها (بالإنجليزية: Retina) التي تقع في الجزء الخلفي منها، ثم تحوّل الشبكية الإشارات الضوئية إلى نبضات كهربائية ينقلها العصب البصري (بالإنجليزية: Optic Nerve) إلى الدماغ حيث تتم معالجة الإشارات هناك وبذلك تحدث الرؤية.
انها وَسَامة في الوجه لولاها يصبح المرء جثة تتحرك وهي بالتالي قنديل سعادة الحياة.
وقد تكون العين خيِّرة ترفعك او شريرة توقعك. نوَّه يوحنا الرسول عنها بمعرض كلامه عن الشهوات الثلاث: كل ما في العالم هو شهوة المال، شهوة الجسد، وشهوة العين، (1 يو 2: 16) تقود الى فقدان النعمه اذا اعطيت نفسك مداها.
لذا قال الرب يسوع : “إِنْ لَمْ تَعُودُوا كالأَطْفَال، لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَات..” متى 18/3. الأعظم هو الطفل في الملكوت لأنه لا يعرف الخطيئة. فالطفولة هي الدرب المختصرة للوصول الى الخلاص. ثم اردف قَائلا: “دَعُوا الأَطفالَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ”. شدَّد السيد المسيح بدعوته على الرجوع الى الحالة الأُولى التي يتحلَّى بها الطفل وحده.
«دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ، لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ اللهِ.” (لو 18: 16) الى تجديد من الداخل.
لنأخذ مثل نيقوديموس اذ اعتبر صنع الآيات دليلًا على أن يسوع هو من عند الله. فقد كان الربّيون يربطون بين التقوى وعمل الآيات. ولم يكن نيقوديموس قادرًا أن يتعدى هذه الحدود ليدرك حقيقة شخص يسوع المسيح، فرآه معلمًا تقيًا، رجل الله، يتمتع بمعية الله، كما تمتع يعقوب حيث قال له الرب: “لا تخف لأني معك” (تك 26: 24). ويشوع بن نون: “كما كنت مع موسى أكون معك” (يش 1: 5) وكثير من الآباء والأنبياء لم يستطع نيقوديموس بفكره الفريسي مع تقواه أن يتعدى هذه الحدود. هذا هو ما تعلمه، وهذا هو ما كان يعيشه في الجو اليهودي.
جاء حديث السيد المسيح معه يبرز النقاط التالية:
1- الحاجة الماسة إلى ميلادٍ جديدٍ لمعاينة عالمٍ جديدٍ في داخله “ملكوت الله”. لذلك دعيت ولادة جديدة أو ولادة ثانية، كما استخدمها كثير من آباء الكنيسة الأولى، مثل القديسين جوستين واكليمنضس السكندري، وترتليان، والقديسين أغسطينوس وجيروم. وقد فهم نيقوديموس كلمات السيد المسيح أنها تدعوا إلى “ميلاد جديد”، لهذا وقف في حيرةٍ وعجز: كيف يمكن لشيخ أن يدخل بطن أمه ليولد من جديد؟
2 – أن تكون الولادة من فوق، أي سماوية.إذ هو عمل خاص بروح الله القدوس السماوي، يهب إمكانيات سماوية إلهية تتجاوز الفكر البشري.
3 – تتحقق بالعماد من الماء والروح.
4 – ولادة تحمل قوة فائقة كالريح ولا يُعرَف سرها.
كان تكرار كلمة “الحق” في الكتابات اليهودية يُحسب معادلًا لقسم له قدسيته العظمى. استخدمه السيد المسيح عندما كان يشير إلى أمرٍ له خطورته الكبرى.
في لطف ينتهره السيد المسيح معلنًا له أنه لا يكفي للشخص أن يؤمن بأن يسوع هو معلم إلهي، ولا أن يُعجب من آياته بكونها آيات صادقة وفريدة، لكن الحاجة هي إلى ولادة “من فوق”، أي سماوية، لكي يعاين ما هو سماوي. فالجنين في بطن أمه لا يقدر أن يرى العالم، ولا يحمل أية خبرات فيه، ما لم يولد من رحم أمه. هكذا لا يستطيع الإنسان أن يعاين ملكوت الله، ولا أن يحمل خبرات السماء، ما لم يولد ثانية من فوق ليرى نور العالم الجديد ويعيش فيه.
يليق بالمؤمن الحقيقي الذي يتمتع بالميلاد الجديد السماوي ليرى ملكوت الله داخله ويعيشه، أي يصير له الفكر السماوي والروح العلوية والمبادئ اللائقة بناموس السماء، وأهداف جديدة ورجاء جديد وإمكانيات جديدة.
بالميلاد الجديد يبدأ المؤمن حياة جديدة تمامًا، بِهدم القديم وبناء الجديد، إماتة الإنسان العتيق وقيامة الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه.
بميلادنا الأول أفسدتنا الخطية وشكَّلت أعماقنا حسب هواها، فصرنا جسدانيين، يسيطر علينا ناموس شهوات الجسد، وتسحبنا محبة العالم، ويتحكم فينا عدو الخير، فأصبح الميلاد الجديد ضرورة لا مفر منها. لهذا يقول السيد: “الحق الحق أقول لكم”.
ما هو ملكوت الله الذي يليق بنا أن نراه على الدوام سوى ملكوت المسيا السماوي، الساكن فينا، يقيم مملكته في داخلنا. نراه ونحيا به ونشاركه سِماته، فنصير قديسين كما هو قدوس.هذا هو ملكوت الله الحاضر في حياتنا في متناول يدنا، كما أعلن السيد المسيح نفسه: “توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات” (مت 4: 17). كما قال: قد أقبل عليكم ملكوت الله” (مت 12: 28)، وأكد لنا: “ملكوت الله داخلكم” (لو 17: 21). أما عن وضعنا في هذا الملكوت فهو أنه “جعلنا ملوكا وكهنة لله أبيه” (رؤ 1: 6، 9؛ 5: 10). يسبغ علينا هذا الملكوت شركة سمات ربنا يسوع، إذ أن ملكوت الله “ليس أكلًا وشربًا، بل هو برّ وسلام وفرح في الروح القدس” (رو 14: 17).
هذا الملكوت هو عربون الملكوت الأبدي، ينقلنا إلى السماء لنشتاق للدخول في شركة المجد العجيب يوم مجيء الرب. إنه يرفع فكرنا، ويصوب أنظارنا الداخلية نحو مجيء الرب الأخير والتمتع بالأكاليل السماوي.
* الآن كأن ما يقوله هو هكذا: “إن لم تولد من جديد، إن لم تشترك في الروح بجرن التجديد لا تستطيع أن يكون لك فكر سليم عني، لأن رأيك في جسدي لا روحي (تي 3: 5)… كلمة “من جديد” (أو من فوق) هنا يفهمها البعض بمعنى “من السماء”، ويفهمها آخرون “من الأول”. يقول المسيح:” إنه من المستحيل أن أحدًا ما لا يولد هكذا أن يرى ملكوت الله”؛ هنا يشير إلى نفسه (المسيح)، ويعلن أننا في حاجة إلى عيون أخرى بجانب العيون الطبيعية لترى المسيح.