/محمد قواص: قاسم سليماني.. لو كنت أعلم د.خطار أبودياب: قواعد الاشتباك الجديدة والسيناريوهات بعد مقتل قاسم سليماني

183

قواعد الاشتباك الجديدة والسيناريوهات بعد مقتل قاسم سليماني
د. خطار أبودياب/العرب/06 كانون الثاني/2020

قاسم سليماني.. لو كنت أعلم!
شيء ما حصل في واشنطن لم يعلمه سليماني فاجأ النظام، بحرسه ومحافظيه ومعتدليه في طهران.
محمد قواص/ميدل إيست أونلاين/06 كانون الثاني/2020
المرشد الأعلى علي خامنئي في جنازة قاسم سليمانيفات وقت البكاء
خلال أقل من 24 ساعة تراجعت منابر إيران عن التهديد برد مزلزل ساحق انتقاما لمقتل الجنرال قاسم سليماني، وباتت تهمس برد “مدروس” قد يجري الاتفاق حوله بالرعاية المعلنة للوسيط السويسري.
وفيما تهدد وستهدد الميليشيات التابعة لإيران في العراق ولبنان واليمن بالرد الموعود، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عاجل بالإعلان عن خطط واشنطن برد ساحق داخل إيران نفسها (52 هدفا مرصودا). وعليه فإن واشنطن تستعيد برشاقة زمام المبادرة، فيما تبدو طهران متخبطة مرتبكة، تستعين بترسانتها اللغوية، علّها تعوض ما نال من هيبتها خلال الساعات الماضية.
تفوقت الولايات المتحدة على العالم في ما تمتلكه من قوة اقتصادية هائلة، تقلق دولة عظمى كالصين وتجمعا دولي كالاتحاد الأوروبي، حين تلوّح بعقوباتها الاقتصادية. ذهبت الصين إلى اتفاق تجاري مع العملاق الاقتصادي الأميركي، فيما دول حلف شمال الأطلسي تذعن لمطالب ترامب برفع نسب مساهماتها في ميزانية الحلف العسكري الغربي، وتسعى دول أوروبية لإيجاد أرضية ترفع عن منتجاتها رسوم ترامب الجمركية الصاعقة.
لم يكن باستطاعة إيران أن تواجه العقوبات الأميركية المفروضة عليها. انهارت المكابرة، وبدأت كافة منابر النظام في طهران تعترف بأن العقوبات القاسية تخنق البلد. بدا أن طهران تخسر في هذه الساحة وبدا أنها تبحث للرد والدفاع في ساحات أخرى.
عملت إيران على استجداء مواجهة عسكرية ما مع الولايات المتحدة. اعتقدت أن إسقاط طائرة مسيرة أميركية من أحدث طراز في العالم ومن أغلاها ثمنا بصاروخ بخس فوق مياه الخليج (يونيو الماضي)، سيستدرج رداً أميركيا يتيح لإيران الاستمتاع بنعمة الأزمة العسكرية مع الدولة الأكبر. كان الهدف هو تحويل السجال من جدل حول برنامجها النووي وبرنامجها للصواريخ الباليستية ونفوذها “المزعزع للاستقرار في المنطقة”، وفق التعبير الأميركي الغربي، إلى انهماك دولي في كيفية إنهاء المواجهة العسكرية الثنائية على نحو يرفع إيران إلى مستوى الندية مع الولايات المتحدة، وبالتالي الذهاب إلى طاولة المفاوضين كمقاتلين يبحثون وقفا لإطلاق النار.
حاولت إيران تحقيق الأمر في الأشهر الأخيرة من خلال هجمات متعددة قامت بها ميليشيات عراقية موالية لطهران ضد القواعد الأميركي في العراق دون أن تحظى طهران بالمواجهة الأميركية الإيرانية الموعودة. بدا أن أذرعها في سوريا ولبنان مكبّلة بقرار دولي عام (تشارك به روسيا) يتيح لإسرائيل التعامل بحزم وحسم مع أي أخطار إيرانية تظهر هناك.
ويجوز القول أن طهران كانت تسلك منهجا صحيحا متكئة به على قواعد لعبة اعتادت عليها خلال العقود المنصرمة.
منذ أزمة الدبلوماسيين الرهائن في السفارة الأميركية في طهران، مرورا بخطف الرهائن وتفجير ثكنة المارينز في بيروت، انتهاء بتمدد النفوذ الإيراني في ميادين المنطقة، كانت إيران تلاحظ بتلذذ سلوكاً أميركيا يتراوح بين الانسحاب والتراجع والصمت البناء. حتى أن الولايات المتحدة التي لطالما وُصفت بـ “الشيطان الأكبر” في أدبيات “الثورة” الإيرانية، سعت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما إلى عقد صفقة الاتفاق النووي مع إيران، والتي تشكل في خفاياها تسليماً بقدر جمهورية الولي الفقيه، وتحضّر لشراكة أميركية إيرانية لمّح إليها أوباما نفسه.
ليس ذنب قاسم سليماني أنه كان واثقا بالثوابت الأميركية التي تربى عليها منذ أن قامت الجمهورية الإسلامية عام 1979. الرجل كان يتحرك بكل حرية يرسم خرائط الصراع في اليمن وسوريا والعراق ولبنان دون أي اعتراض من واشنطن. كان أمر الصمت الأميركي يشبه الرعاية الكاملة للتمدد الإيراني في كل المنطقة. ولطالما قيل إن التواطؤ الأميركي الإيراني بات أكبر وأكثر صلابة منذ أن أفتى منظرو المحافظين الجدد بأن السنّة، بعنوانيهم المتعددة، باتوا إثر اعتداءات 11 سبتمبر منتجين للعداء الدائم للولايات المتحدة، فيما أن الشيعة، بعنوانهم الوحيد في إيران، هم حلفاء كامنون. سقط نظاما العراق وأفغانستان بالتعاون الكامل مع إيران، وهيمنت طهران على بغداد بتواطؤ كامل مع واشنطن.
بدا أن الولايات المتحدة أنهت “التعاقد” مع إيران. تغير الزمن وبات متجاوزا لحضور سليماني ومهماته. صار العالم بأجمعه يريد تجاوز “الاستثناء” الإيراني، وبالتالي تجاوز واقعة سليماني وميليشياته. يكفي تأمل مواقف الصين وروسيا، المفترض أنهما حليفان لإيران، كما تأمل موقف أوروبا، المفترض أنها متعاونة مع إيران، لنفهم أن مقتل سليماني هو قرار دولي نفذته مسيرّات أميركية.
نعم سيكون رد إيران مزلزلاً. لكن ذلك الرد سيكون مزلزلا بالنسبة لكل الحالة الإيرانية التي تمددت في المنطقة. ستذهب إيران إلى طاولة المفاوضات التي يمعن ترامب في مدّها بعد اغتيال سليماني. لا تملك إيران، بعد رفع الرعاية الأميركية الدولية لتمددها، إلا الذهاب مهرولة لعقد اتفاق مع إدارة ترامب، بالذات، صونا لنظام بدا أن تصفية سليماني تمثل أعراض تهديد لبقائه.
كانت إيران تعوّل على عامل الوقت علّ المرشح دونالد ترامب يفشل في الانتخابات الرئاسية المقبلة لصالح منافس ديمقراطي يعيد إحياء إرث أوباما و”حنانه” تجاه إيران. كانت إيران تهدد ترامب المرشح بخيار عسكري لطالما وعد ناخبيه بتجنبه. بيد أنه وفي ليلة اغتيال سليماني، بدا أن واشنطن هي التي تستدرج طهران للحرب، وبدا أن ترامب المرشح بات يعتبر أن معركته مع إيران هي حصانه الرابح داخل حملته الانتخابية.
شيء ما حصل في واشنطن لم يعلمه سليماني فاجأ النظام، بحرسه ومحافظيه ومعتدليه في طهران.هو انهيار إيراني بامتياز. ولى عصر الثورة الإيرانية. من يقتل سليماني يملك أن يقتل كافة الرؤوس التي كانت تعمل تحت إمرته في كل المنطقة. ومن يقتل أكثر الجنرالات قربا من الولي الفقيه، يبلغ طهران بأن ما زعمته واشنطن من عدم وجود خطط لاسقاط النظام قد يصبح متقادما، وأن هيبة الولايات المتحدة في صراعها الطويل الأمد مع الأخطار الاستراتيجية الكبرى، لاسيما تلك التي تمثلها الصين مثلا، يستدعي إزاحة بيدق عن رقعة اللعب الكبرى.

قواعد الاشتباك الجديدة والسيناريوهات بعد مقتل قاسم سليماني
د. خطار أبودياب/العرب/06 كانون الثاني/2020
استبدال قاسم سليماني ليس بالأمر اليسير
تحول العراق في الفترة الأخيرة بفضل قدر الجغرافيا وتطور الأحداث منذ 2003، إلى الساحة الأساسية في اختبار القوة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران. ويمكننا القول بأن عملية “البرق الأزرق” التي استهدفت قاسم سليماني (قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني) وأبومهدي المهندس (رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق) وصحبهما، تعتبر تصعيدا لا سابق له في المسلسل الطويل من التجاذب والتوتر بين واشنطن وطهران.
ومما لا شك فيه أن مصرع سليماني رمز المشروع الإمبراطوري الإيراني ومنفّذه، يضع الشرق الأوسط والخليج في عين العاصفة أكثر من أيّ وقت مضى. وهذا التجاوز للخطوط الحمراء سياسياً وأمنياً وعسكرياً وصل إلى حده الأقصى ويعقّد السيناريوهات المرتسمة، ويزيد من الاحتمال بأن يكون العام 2020 عام إيران وعام مرحلة جديدة ستسمح بتوضيح مآل مجمل المشهد الإقليمي.
قبل الوصول إلى “الضربة القاضية” في بدايات 2020، كان حصاد العام الماضي المتباين عامل التباس ربما جعل حسابات إيران خاطئة في تقييم ردة فعل ترامب عند بعض المفاصل. وازداد قلق الدوائر العليا في إيران نتيجة تزامن الاحتجاجات في داخلها مع الانتفاضات التي هزّت وتهزّ دائرة نفوذها في العراق ولبنان. في مواجهة استراتيجية “الضغط الأقصى” التي مارستها الإدارة الأميركية على طهران (منذ مايو 2018) لإرغامها على العودة إلى طاولة المفاوضات والبحث في اتفاق نووي جديد يشمل برنامجها الصاروخي وتطلعاتها الإقليمية، انتقلت إيران إلى سياسة أكثر جرأة إزاء حلفاء واشنطن في المنطقة، شملت هجمات نسبت إليها أو إلى وكلائها على ناقلات نفط.
وقد نجحت العقوبات الأميركية في إضعاف الاقتصاد الإيراني وتقليص دعم طهران لوكلائها، ولكن في غياب استراتيجية متكاملة للمواجهة، لجأت إيران إلى سياسة حافة الهاوية فانتقلت من هجوم إلى آخر أقوى، وكأنّ لا شيء أكثر تخسره. وكاد إسقاط “الحرس الثوري” طائرة تجسس أميركية مسيّرة لدى اختراقها المجال الجوي الإيراني، أن ينقل المواجهة إلى مرحلة جديدة لولا تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في اللحظة الأخيرة. لكن الهجوم على منشأتي “أرامكو” كان الأخطر إطلاقاً وشكّل الصدمة الكبرى في قطاع إنتاج النفط في 63 سنة.
ومع أن أدلة أظهرت تورطا إيرانيا مباشرا في الهجوم، لم تتخذ واشنطن أيّ إجراء عسكري لوقف طهران عند حدها. وهكذا فإنه مع تراجع ترامب عن توجيه ضربة عسكرية في يونيو 2018 إلى طهران رداً على إسقاطها الطائرة المسيرة، تأكدت طهران من أن سيد البيت الأبيض لن يذهب أبداً إلى الحرب، وأن تهديداته التي يطلقها عبر “تويتر” ليست إلا استعراضات ومن هنا كانت ضربة أرامكو وتباهي إيران بربح المواجهة وعدم ليّ ذراعها.
بيد أن تطور الأحداث من العراق إلى لبنان أعاد خلط الأوراق. وأدى خوف إيران من خسارة نفوذها في محورها لارتكاب خطأ تقديري مع استهداف قاعدة أميركية في العراق ومقتل متعاقد أميركي، وهي كانت تعتقد بأن هذه الضربة لا تخرق الخطوط الحمراء وما تعتبره نوعاً من “قواعد الاشتباك” مع واشنطن. لكن تطور المشهد بمجمله وحصول مناورات بحرية في مياه الخليج بين روسيا والصين وإيران للمرة الأولى، كان من العوامل التي دفعت بالبنتاغون لتوجيه ضربات كبيرة للحشد الشعبي العراقي والحرس الثوري الإيراني في الأنبار وعلى الحدود العراقية – السورية.
ونظراً لقساوة الخسائر وطبيعة الاستهداف، كان لا بد من رد متناسب ظنوا أن السفارة الأميركية في بغداد يمكن أن تكون هدفه المثالي للتهويل والضغط على إدارة ترامب. وهنا كان الخطأ الجسيم لأن ذلك ذكّر الرئيس الأميركي بمصير غريمته هيلاري كلينتون بعد مقتل السفير الأميركي في بنغازي، وأعاد للذاكرة قبل أربعين سنة احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية في طهران وكأن الزمن لم يغير أساليب النظام الإيراني. إزاء هذا التحدي لمجمل الوجود العسكري الأميركي في العراق وكل الإقليم، كان القرار بتصفية سليماني والمهندس وأترابهما من ضباط وقيادات الحرس والحشد وحزب الله.
إن اتخاذ القرار باغتيال “الرجل القوي” لإيران وواضع استراتيجية التمدد الإيراني في الإقليم وحول العالم، هو أول قرار من هذا النوع تتخذه واشنطن منذ أربعة عقود من الزمن، ويشكل كسبا يضع حداً لمسلسل “هوليوودي” ظنت طهران أنها ستلعبه طويلاً. خلافاً لكل الإدارات السابقة، تجرأ ترامب والبنتاغون على تغيير قواعد الاشتباك ونقل الصراع إلى مصاف جديد مع الخسائر التي لحقت بقيادات لإيران وأذرعها. والأدهى أيضا بالنسبة إلى إيران الضربة التي تلقتها هيبتها ومن الصعب ترميمها.
وهذه النقلة الأميركية مرتبطة بتصاعد الاختراق الروسي في المنطقة والصعود الصيني، والملاحظ أن ردود الفعل الروسية والصينية حيال الضربات الأميركية التي سبقت عملية “البرق الأزرق” تشي برغبة في عدم التصعيد بين ثالوث الكبار وعلى الأرجح وصولاً إلى تقاسم النفوذ. ومن الأسباب الأخرى لزيادة الاندفاع الأميركي، القلق الذي برز في واشنطن إثر الكلام عن إمكانية حوار بين طهران وبعض العواصم في الخليج العربي، وفقدان صدقية واشنطن حول الالتزام بأمن الخليج وأمن الطاقة. ومن هنا أتى التصعيد الأميركي ليضرب عدة أهداف في وقت واحد.
إزاء خسارة لا تعوض بالنسبة إلى طهران، خاصة أن استبدال قاسم سليماني ليس بالأمر اليسير لأنه لم يكن صاحب الخطط العسكرية لإنقاد النظام في دمشق فحسب، بل كان كذلك صانع السياسة الإيرانية في العراق ولبنان واليمن ومحرك الخلايا النائمة. ولذلك سيصعب على “الجمهورية الإسلامية” تحمّل خسارتها ولا بدّ لها من الردّ والأرجح ألا يكون شاملاً لأنها لا تتحمل مجابهة شاملة في ظل انهيار اقتصادي واحتجاج داخلي. والأرجح أن يكون الردّ محصوراً في العراق حيث ليس من المستبعد إعادة انتشار وانسحاب أميركي على المدى المتوسط. لكن تدحرج التصعيد يمكن أن يجعل الوضع خارجا عن السيطرة وأن يتصور البعض في طهران أن خسارة ترامب الانتخابات تمرّ عبر جرّه إلى مواجهة كبرى من دون احتساب مخاطر الردّ الأميركي الصاعق.
لكن هذا السيناريو في الردّ المحدود يرتبط كذلك بعوامل أخرى وبالعامل الإسرائيلي تحديداً، لأن قرار عدم السماح بالتمركز الإيراني في سوريا والعراق يمكن أن يفجر الموقف وصولا لاستهداف البرنامج النووي الإيراني. ولذا ستكون الأشهر القادمة حافلة بالتصعيد والمتغيرات. وتبدو كل المنطقة على صفيح ساخن حتى إشعار آخر.