الـيـاس الزغـبـي/استطلاع الخيارات بين عون وجعجع

243

استطلاع الخيارات 
الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن/04 تموز/15

إذا كان المسيحيّون عادوا إلى الحوار السياسي بعد ثلاثة عقود من التباعد والحروب المنزليّة، ولو بين مكوّنيْن من مكوّناتهم، فقد كان الأجدى والأجدر لهم أن يتقاربوا على ما هو أبقى وأرقى، وليس على تحديد أحجام وأوزان وترتيب لائحة الزعامات.

صحيحٌ أنّ استطلاعات الرأي من أرقى الوسائل الديمقراطيّة في العالم المتقدّم، وهي وسيلة تدغدغ مشاعر كلّ مواطن لبناني في زمن الأحاديّات الإلغائيّة وصراعات المذاهب، وتدغدغ أحلام المسيحيّين تحديداً، في تقديرهم لذواتهم كروّاد ثقافة وحريّات وحداثة. لكنّ الأصحّ أنّ المسيحيّين يتوقون إلى الارتقاء من الوسيلة إلى الأهداف، من تحديد الزعامات إلى توليد الأفكار، من لعبة التنافس على السلطات إلى بلورة الخيارات.

لقد حدث أن التقوا، أو التقيا، على ورقة ووسيلة، على نيّات واستطلاع. فكان عليهما الغوص أكثر إلى الثوابت والاتجاهات الكبرى للمسيحيّين. وبدلاً من أن يقدّموا لهم سمكاً معلّباً كان عليهم تزويدهم صنّارات وتدريبهم على الصيد.
ربّ قائل يسارع إلى القول: ولكن، مهلكم قليلاً، فما هي سوى الخطوة الأولى، وستتمّ تباعاً مراكمة الخطوات لتحقيق ما تصبون إليه.

ربّما تكون هذه هي نيّة المتلاقين المتحاورين. لكن، في الواقع، لا شيء يشي بهذا التراكم، بل ما حصل هو العكس تماماً، بحيث ضاعف أحد طرفَي الحوار (ميشال عون) التزامه السابق مع “حزب الله” وما يُعرف بمحور “الممانعة” في شكل يناقض تماماً موقف الطرف الآخر. بل ذهب بعيداً في شلّ الدولة وتفريغ الرئاسة واستخدام لغة الصدام والتفجير واللجوء إلى الشعبويّة في استعادة لتجربة سابقة كانت عواقبها وخيمة.

وليس في وارد “القوّات” تغطية هذا المنحى الانتحاري المتجدّد، ما يعني أنّ الورقة والوسيلة اللتين جمعتهما حتّى الآن لا تتعدّيان اللياقات أو المسكّنات، ولا ترتقيان إلى ما يطمح إليه المسيحيّون، واللبنانيّون عموماً.
ورقة “النيّات” جيّدة لناحية عناوينها “القوّاتيّة الـ14 آذاريّة”، كالتزام أولويّة الدولة وجيشها وقواها الشرعيّة في حفظ السيادة وبسط الأمن الشرعي على كلّ الأراضي اللبنانيّة، وكذلك إلتزام الشرعيّتين العربيّة والدوليّة وقرارات الأمم المتّحدة واتفاق الطائف. لكنّها تُغفل تحييد لبنان الذي يتضمّن لبننة سلاح “حزب الله” وسحبه من حروب المنطقة، ولا تحسم في مسألة السيادة والسياسة الخارجيّة والتورّط في المحاور الإقليميّة.

هذا التغييب للأساسيّات يشكّل أفخاخاً تجعل الورقة شيئاً من الأدبيّات والنظريّات والفولكلور.
وكان من الممكن تغطية هذا النقص (المقصود طبعاً من الطرف الأوّل) بإجراء استطلاع على القضايا المسكوت عنها في الورقة، وتحديداً قضيّة تحييد لبنان ومعالجة وظيفة سلاح “حزب الله” الخارجيّة. ومن يلتزم نتائجه يكون مرشّح المسيحيّين: مرشّح خيارات كبرى وليس طموحات صغرى.

لو جرى طرح الاستطلاع على هذا الأساس لكان المسيحيّون قدّموا نموذجاً راقياً يحذو سائر اللبنانيّين حذوه حكماً. أمّا أن يتمّ استطلاع المسيحيّين حول ترتيب نجوم زعمائهم وقياس نمرة أقدامهم واستدارة عضلاتهم، فمسألة لا تصلح كقدوة للآخرين، في أقلّ وصف أو اعتبار.

وليس خافياً أنّ صاحب طرح الاستطلاع هو ميشال عون بعدما سقطت فكرة الاستفتاء دستوريّاً، وكان تجاوب سمير جعجع من باب الاستمرار في مناخ الحوار وعدم رغبته في عرقلته، وعلى أساس أنه استمزاج طبيعي كسائر استطلاعات الرأي، غير مضر وغير مُلزِم.

ولا يمكن تجاهل الحنكة الخفيّة في القبول بالاستطلاع، لجهة كشف حقيقة الأحجام المضخّمة إعلاميّاً، والتخفيف من الشحن والحقن الشعبي حول المسألة، وتصفية الكثير من الأوهام في بعض المخيّلات السقيمة.
وقد جاءت نتائج الاستطلاعات الثلاثة التي أُجريت حديثاً، دبلوماسيّاً وكنسيّاً (بكركي)، مُحبِطة لتقديرات عون، لأنّ “غريمه” حلّ فيها أوّل بفارق بعض النقاط المرشحة للارتفاع لاحقاً بحكم الخيارات السياسيّة.

ولم يعُد مستبعداً أن يؤثّر هذا الاحباط على عزيمة صاحب المشروع، فيبحث عن مبرّرات للتخلّي عنه وتفادي عواقبه. ومن هذه المبرّرات موقف “حليفه اللدود” سليمان فرنجيّه الذي جاءه بمثابة سلّم إنقاذ لإنزاله عن الشجرة التي تسلّقها، إضافةً إلى مواقف أحزاب ومستقلّين مسيحيّين آخرين، وعدم ارتياح المكوّنات اللبنانيّة الأُخرى. وليس سرّاً أنّ ارتفاع عقيرة عون بالتهديد والوعيد انعكاس طبيعي لهذا الواقع.

شيء من الحكمة يقضي الآن بإعادة النظر في “استطلاع الأوزان والنجوم” واستبداله بـ”استطلاع الخيارات والمسارات”، أو صرف النظر عنه كليّاً.
فقد آن الأوان كي يقدّم الموارنة شيئاً عمليّاً نافعاً للبنان، يليق أوّلاً بتاريخهم وكبارهم الراحلين، ويصلح ثانياً كاختبار خلاصي للمنطقة المتخبّطة في دمائها. وليس التشرنق في عزلة قاتلة بحجّة الحقوق.