الكولونيل شربل بركات: الوضع الاستراتيجي المستجد في الشرق الأوسط اليوم (الجزء الأول)

260

الوضع الاستراتيجي المستجد في الشرق الأوسط اليوم  (الجزء الأول)
الكولونيل شربل بركات/19 نيسان/2024

بعد التصعيد الذي رأيناه من قبل محور إيران في هجوم السابع من تشرين الأول في غزة والذي أعقبه اشتراك حزب الله والحوثيين والمليشيات العراقية في منازلة اسرائيل والقوات الأميركية المتمركزة في المنطقة على حد سواء تحت شعار وحدة الساحات. وبعدما تأكد الاسرائيليون من فعالية الأوامر الإيرانية وجدية نظام الملالي بمتابعة حربه بالواسطة لزعزعة كيان الدولة العبرية. وبالتالي التفرد بالسيطرة أكثر فأكثر على الشرق الأوسط، وطرد القوات الأميركية والحليفة لها منه؛ لافساح المجال جديا لدولة المرشد بادارة هذه المنطقة التي تعتبر مفترق طرق دولي رئيسي ومركز مهم وأساسي لموارد الطاقة العالمية.

بعد كل ذلك بدأت القوات الاسرائيلية باستهداف القيادات الفعلية لمحور ما يسمى بالممانعة، خاصة قوات الحرس الثوري المتمركزة قيادتها في سوريا. من هنا رأينا تلك الهجمات المركزة على الضباط الإيرانيين هناك، واصطياد رؤوس مهمة منهم خلال الأشهر القليلة الماضية. وبالتأكيد عندما استراح الجيش الاسرائيلي من التركيز على الخطر الأقرب والمباشر في قطاع غزة، وعدم تورّط حزب الله بالحرب المفتوحة من لبنان، مكتفيا بالمناوشة، ما فهم منه بأن القرار الإيراني يسعى لحرب طويلة الأمد، ولا يريد أن يخسر قاعدته الأقرب لاسرائيل، والحماية الطبيعية لترسانته في شرق المتوسط، والتي تؤمنها جبال لبنان، وتسمح له بالسيطرة على خطوط الملاحة الدولية في هذه المنطقة من العالم عند الحاجة، كما هو حاصل مع الحوثيين في البحر الأحمر.

كما نعتقد بأن التخطيط الإيراني يشمل أيضا عرقلة الملاحة عبر مضيق جبل طارق لاحقا، ومن هنا دخولهم على خط البوليساريو في الصحراء الغربية، بين المغرب والجزائر، وتزويد هؤلاء بالمال والسلاح والعتاد والتدريب، وبنفس الوقت مقاربتهم لحكومة الجزائر والتي بدت “متفهمة” لدور إيران بالمنطقة. وقد بدأ تأثير ذلك يظهر للعلن في الأحداث الجارية في المغرب اليوم. ولا نريد استباق ما يحدث في السودان بين الجيش وقوات التدخل السريع، ولكن يلاحظ ما قامت به إيران من تزويد الجيش مؤخرا بمسيرات قد تؤدي إلى عودة تدخلهم هناك، ما كانت خسرته مع سقوط حكم البشير. كل هذه التحركات تظهر مدى توسع التخطيط الإيراني في سياسته الدولية المرتكزة على استراتيجية بعيدة الأهداف.

قرار المرشد الأعلى بالرد على الهجوم الاسرائيلي في دمشق هو بداية لاعلان التورط المباشر في الحرب الفعلية، فقد انتهى زمن التجارب والتحضيرات على ما يبدو، والعدو الرئيسي، أي الولايات المتحدة منشغلة داخليا بالانتخابات، ما سيمنعها من اتخاذ قرارات حاسمة، ويعطي النظام الفرصة المثالية للانقضاض على منافسيه القلائل المتبقين في المنطقة، سيما وأن الحصول على السلاح النووي بات أقرب بكثير مما سبق. من هنا خيار المواجهة الفعلية المباشرة، ما يفهم على صعيد المعنويات العالية لللاعبين الصغار، بالرغم من الخسائر الكبيرة التي منيوا بها في محاولة ضبط النفس على إيقاع الأوامر الكبرى، وعدم التصرف بردات فعل عشوائية تحت شعار “الصبر الاستراتيجي”.

إذاً ما رأيناه الأسبوع الماضي في استعراض القوة التي حاول الإيرانيون اظهارها كان بداية تحرك الماكينة الفعلية لنظام الملالي هذه المرة، وعلى سائر المشاركين باللعبة توقع المزيد من تطور الصراع باتجاه التفجير. وفي حال جرب الامريكيون الضغط باتجاه تخفيف الردود الاسرائيلية على ضربة الأحد الماضي فإن إيران نفسها سوف لن تنتظر ردهم وستأخذ المبادرة لتظهر جديتها، لا بل بدء سلسلة من التحديات والتحرشات التي يخطط لها لتبدو المنطقة، خاصة بغياب اللاعب الأميركي، معرضة لضغوط كبيرة من قبل إيران وأذرعها الممتدة داخلها.

لا شك بأن الضغط على الأردن سوف يتصاعد لسببين، الأول المعلن؛ لأن الجيش الأردني استعمل صواريخه وطائراته للدفاع عن أجواء الأردن وأسقط بعض المسيرات التي اخترقتها، وهي بالنسبة لنظام الملالي التوسعي خروج على الارادة الشاهانية ويجب تلقينه الدرس ليتعظ منه الآخرون. أما السبب الثاني والحقيقي؛ فهو فتح الطريق أمام المليشيات العراقية وقوات الحرس الثوري للوصول إلى حدود الضفة وبالتالي اسرائيل، كما هو الوضع في جنوب لبنان والجولان السوري. وهنا يعتقد الايرانيون بأن أعداد الأردنيين من أصول فلسطينية، ومساعدة الأخوان المسلمين المنغرسين في المجتمع الأردني، قادرة على هز الأستقرار والسماح باستغلال الشعور العدائي لاسرائيل، خاصة بعد حرب غزة، ومحاولة قلب النظام وجعل الأردن ساحة من ساحات الحرب التي تقودها الجمهورية الاسلامية.

ما يساعد على نجاح التخطيط الإيراني هو وضع الرأي العام العربي المعبأ ضد اسرائيل، خاصة بعد عملية حماس في غزة وعدم مواجهتها من قبل دول الاعتدال، ما جعل الرد الاسرائيلي يعتبر، على مستوى العامة، استعمال كبير للقوة في غير محله، وبالتالي استغلال شعور النقمة عند هؤلاء ليصبح عداء لكل توجه نحو المهادنة، لا بل زيادة في تأييد التطرف، ما قد يؤدي إلى استغلال إيران ومحورها الشعور بالغبن هذا لينفذوا من خلاله إلى المجتمعات التي تحاول تفعيل الاستقرار وتنظيم السعي للرفاه والدفع نحو مجتمع أكثر انتاجية.

من جهة ثانية سيسعى الإيرانيون إلى توقيف الاندفاعة العربية نحو السلام بمهاجمة ما يسمونه دول التطبيع، ولذا فهم سيقومون بتكرار أعمالهم الاستعراضية ضد اسرائيل، والتي يحاولون من خلالها كسب المزيد من التأييد في الشارع العربي، وحشر دول الاعتدال في مواجهة داخلية مع الحركات الفكرية، التي تجد صعوبة في الرد على الطروحات المستجدة والتحركات العنيفة، التي تتخذها جماعة الممانعة في موضوع اسرائيل.

ولكن هل إن اسرائيل المقيدة نوعا ما من قبل الادارة الأميركية الحالية ستقبل بعدم الرد؟ أو أن إيران هي التي ستستدرجها للمواجهة اليوم؟ وما هي موازين القوى وحرية التحرك التي ستجعلها قادرة على المناورة والرد على التحرشات بدون أن تغضب الحليف أو تقوم بخطوة ناقصة في الصراع الحالي؟

إن اعتبارات السيد نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل بشأن القدرة النووية الإيرانية بأنها خطر وجودي على دولة اسرائيل هي واقعية بدون شك، ومن هنا يجب أن يفهم موقفه من الرد الإيراني ومواجهته. ولكن هل يدرك العالم خطورة هذا الوضع ودقته خاصة في الفترة الزمنية الحالية؟ وما هي امكانيات اسرائيل للرد على إيران في هذه المواجهة العلنية والمفتوحة؟

من هنا علينا حبس الأنفاس والترقب الجدي لكل الخطوات لأنه في حال لم تستطع اسرائيل أن ترد على التحرشات الايرانية اليوم فإن إيران، وقبل أن تصبح قوة نووية، أظهرت قدرتها على الوصول لكل أهدافها مهما بلغت المسافات، وهي جاهزة للمناورة واستعمال الكثير من الوسائل لتنفيذ مخططها. فكم بالحري يوم تمتلك الطاقة النووية وتحمّل صواريخها بمقذوفاتها؟ وهل سيفهم العالم خطورة هذه اللعبة يوم تصبح عواصم اسبانيا وفرنسا وايطاليا على مرمى من صواريخها المنطلقة من صحراء الجزائر؟ وهل يعود التنسيق مع فنزويلا لتهدد نفس الصواريخ سواحل الولايات المتحدة في فلوريدا؟

الأيام القادمة ربما توضح أكثر مسارات الأمور، ولكن لا بد من توقع تحركات عنيفة سوف تشهدها ساحات الشرق الأوسط قد تؤثر على الاستقرار مرحليا. وقد نرى تحول كبير في مجريات الأمور يرسم بدون شك خيوط مستقبل المنطقة لا بل العالم…