العميد الركن الدكتور حسن إبراهيم جوني/غداً في 10 تشرين الثاني سأتقاعد

219

غداً في 10 تشرين الثاني سأتقاعد!
العميد الركن الدكتور حسن إبراهيم جوني/09 تشرين الثاني/2023

غداً في 10 تشرين الثاني سأتقاعد!
سأترجّل عن صهوة جواد امتطيته منذ أربعين عاماً.
غداً سأتحرّر، في المكان والزمان، في الرأي والإيمان، في الفكر والوجدان.
غداً سأكتشفَ شخصيتي المدنية التي لا أعرفها! لاسيما أني كنتُ التحقت في الكلية الحربية في سن الثامنة عشرة تماماً، وكنا في زمن الحرب، فانتقلتُ من صفٍ ال صف، ومن المريول إلى المرقّط.
لن أندم على عدم التحاقي في الميليشيات وعلى اختياري الدولة والقانون، رغم أن الخيار الأول جعلَ من أصحابهِ نوابَ ووزراء، نافذين وأثرياء، أما خيار الدولة فقد اوصلنا الى الفقر والظلم بعد اربعين عاماً من الشرف والتضحية والوفاء. لن أندم، فما الإنسان برأيي سوى جبلٌ من الكرامة، قمةٌ بين نطفةٍ وجيفة! والقممُ هنا تقاس بقيراط الشرف والإباء وليس بالدراهم!
غداً سأتقاعد، سأعترضُ على التنفيذ! سألعن الفاسدين واللصوص والزعران والميليشياويين وإن تزينوا بربطاتِ عنقٍ وردية وتسلموا مناصب رسمية! فهم وحدهم مسؤولون عن انهيار وتحلّل هذا الوطن الجميل وتشريع أبوابه للغرباء!
غداً سيخرج صوتي من حنجرةٍ مخنوقة ليصدح ويفضح! هم وحدهم مسؤولون عن سرقة أموال الناس وأحلام الناس، نعم هم الذين حكَموا وتحكّموا في مصير الشعب المنقسم بين ذليلٍ ومذلول وفاسدٍ وجبان وغبيّ ومستزلم، وقلة قليلة من الأحرار الذين لا صوت لهم أو صوتهم مخنوق!
غداً سأتقاعد براتبٍ أدنى قيمةً من الراتب الأول في الجيش منذ أربعين عاماً!!وبتعويضٍ أدنى قيمةً من ثمنِ حذاء ٍ من الماركات الشهيرة تنتعلهُ قدمُ لصّ تدوسُ على القانون والقيم!
نعم، قاسيةٌ مقاربتي بقدر الإحساس بالظلم، فالدولة التي اعتذرَت عن دفع تعويض العمر، عن زهرة شبابٍ أفنيتها ،كما غيري من الرفاق، بين تلةٍ وواد، بين قهرٍ وخطَر، بين سهرٍ وحذر، هذه الدولة لم تُفلس لتعجز عن الدفع لكنها نُهبت وسُلبت وسُرقت، وأول السارقين هم حكامها الفاسدين. وعليه، فإن تعويضَ عمري وعمر الرفاق هو في حسابات الفاسدين المهرّبة! وإن أولى خطوات حل المشكلة هو الاعتراف بها وتحديدها!
وأما بعد، فإني غداً سأتقاعد، ولكن أحلامي قُتلت! والقَتَلة يتشدقون اليوم على مختلف المنابر، هم الذين يجب أقلّهُ أن يخرسوا ويخرجوا وأكثرهُ أن يحاكموا وتُستردّ منهم الثروات المشبوهة! فماذا سأفعل؟ أَأَنوح على حلمي المقتول؟ أنا الذي فُطرَتْ شخصيتي على الكرامة والعنفوان! لا، من جثة هذا الحلم ستولد قضية
غداً سأسير في الشوارع، أنظر إلى الفوضى، الى البؤساء، الى الزعران، الى تجّار ومروّجي المخدرات، الى المواطنين المهزومين والمسحوقين، الى المذلولين، الى الغرباء، سأرى أن أفسَد الناس أكثرهم ثراءً، وأشرف الناس أفقرهم، تلك هي ملامح الفساد ونتائجه!
قد أرى كلّ شيء إلا وجه الوطن! فالوطن الذي خدمتُهُ أربعين عاماً أصبح أشلاء، بدستوره وقوانينه ومؤسساته وبُناه التحتية والفوقية، هذا الذي كان وطناً بات في الواقع خراباً على جميع الصعد!
هذا اللبنان اليوم وبكلّ صراحةٍ وأسف ليسَ دولةً كباقي الدول بل مزرعة من الفلتان والفوضى الجماعية، تتقاسم العصابات النفوذ فيها! إلا قلة قليلة من المواطنين الشرفاء الصامدين الصابرين الصامتين ..
أما الشعارات الوطنية والقومية التي أُطلقت على مدى عقود لم تكن سوى عناوين خادعة استغلها الميليشياويون والمحازبون لتثبيت حصصهم وحصص اتباعهم وأزلامهم، وهم لم يكونوا يوماً وطنيين، بل فئويين أو طائفيين ومذهبيين أو عقائديين واسعي الخيال تافهين! وجميعهم، أدوات لعدة جهات على مختلف الاتجاهات، الا للبنان ..
نعم، ويبقى الجيش الوطني الشريف هو المُضحي الحقيقي وسط كل هذا العهر والنفاق، وهو الذي لم يُسمح له يوماً أن يقوم بدوره الأساسي لعدم تمكينه بالوسائل أو بالغطاء السياسي. هذا الدور الذي سُرق منه سواء في الأمن أو الدفاع ثم عُيّرَ بعجزهِ وتفاخروا بأنهم يقومون مقامه!
هنيئاً لكم هذه الدولة الممزقة، أيها القادة والمسؤولين أصحاب الفخامة والنيافة والسعادة والسيادة ودور العبادة.
أما في الطائفية السخيفة، فتخلّفٌ ما بعده تخلّف، وكم كنتُ أخجل خلال المشاركة في مؤتمرات في الخارج وخاصةً بين الأمم الراقية عندما أُسأل عن الوظائف المسموح لي او لغيري تسلمها وفقاً لطائفتي التي وُلدتُ فيها ووفقاً لنظامنا الطائفي العفِن !
بعد أربعين عاماً، وربما قبل ذلك بكثير، اكتشفتُ أن جهودنا المتراكمة قد ذهبت سدى، وأن العمرَ ضاع، وأن ثمّةَ كذبةً كبرى ربما فشلنا في تحويلها إلى حقيقة أو شبه حقيقة!
أيّ وضع مذري أوصلونا اليه؟ كيف تفهّمهُ اللبنانيون وتقبّلوه؟ لا كهرباء لا ماء لا دواء لا استشفاء .. الى آخر السحق!
أليسَ في قاعدة هرم “ماسلو” تقع الحاجات الأساسية قبل الانتماء؟ نعم هي قبل الانتماء بل وقبل الإيمان حتى! فلا تحدثني عن الله وأنا جائع، لن أسمع قبل أن أشبع!
وعليه، فإن الكرامة الإنسانية هي أصل الهوية، هي في المقام ما قبل الأول بكثير، فلا يُضحّى بها من أجل شخص أو شعار أو قضية أو عقيدةأو أي أمرٍ آخر على الإطلاق، بل هي معيار أحقية ومشروعية وصوابية كل هذه القيم، وأمام سقوطها فليعاد النظر في كل الخيارات والسياسات والاستراتيجيات والقرارت.
أمام الكرامة الإنسانية لا قداسة للأشخاص من غير الأنبياء والرسل، لماذا نُقدّسهم وهم بشرٌ مثل الجميع قد ينجحون وقد يفشلون، ولماذا نرفعهم فوق النقد؟ وفوق المحاسبة؟ هل هم أنبياء معصومين؟! واللهِ ما رآهم عظماء إلا السخفاء، وما رآهم كباراً سوى الصغار!
على كل حال، نحن لن نيأس، فلا بدّ للبعد الوطني لدينا أن ينتفضَ ويتمرّد ليُجسّد أحلام الشباب المؤمن بلبنان، والأمرُ بين حدّين وللشباب الكلمة الفصل!
وأخيراً، فإني غداً سأتقاعد وأطوي الصفحة الأخيرة من كتاب حياتي العسكرية عملياً لأتفرّغ لكتابته نظرياً بحبر الناقد والباحث عن الحقيقة والوطن!
غداً سأتفرّغ للتعليم الجامعي، للفكر، للبحث، للتأمل، للفلسفة، للإنسانية والحب، ففي كل ذلك نجد الحلول وليس في الحرب!
*العميد الركن الدكتور، المتقاعد غداً .. حسن ابراهيم جوني