لعبة بوتين في سوريا
نوح فيلدمان/الشرق الأوسط/28 أيلول/15
ما اللعبة الحقيقية وراء تدخل فلاديمير بوتين في سوريا؟ أرسلت روسيا حتى الآن قوة مصغرة من الطائرات المقاتلة، والقاذفة، والمروحيات، لتستقر في مطار بالقرب من مدينة اللاذقية، والغرض الوحيد والمعقول من وجودها هو دعم نظام الرئيس بشار الأسد. ولكن الإبقاء على حكومة الأسد وإطالة أمد الحرب الأهلية السورية، لا يعد هدفًا في ذاته بالنسبة لبوتين، الذي يسعى، بشكل طبيعي، لتعزيز الوجود الروسي في منطقة الشرق الأوسط. من المحتمل جدًا أن يكون الهدف الحقيقي للرئيس الروسي هو التوصل إلى حل للمستنقع السوري، وهو الحل الذي ينضوي على وجود دولة سورية رديفة، تتحول فيها الأقلية العلوية إلى أغلبية حاكمة. وبعبارة أخرى، فإن بوتين يعمل على إسناد الأسد لكي يسهل عليه التخلص منه لاحقًا. يُقال في بعض الأحيان إن بوتين يتدخل في الشأن السوري لصرف الانتباه دوليًا عن توسعاته المستمرة في أوكرانيا. غير أن ذلك التفسير يتسم بقدر لا بأس به من البساطة. لأن بوتين يبحث عن شيء يقايض به الغرب مقابل السماح لروسيا بمواصلة بسط كامل سيطرتها على أوكرانيا. وبالتالي، فإن مسمى اللعبة هنا ليس الإلهاء، ولكنه النفوذ. بالنظر إلى مختلف أرجاء العالم، فليست هناك الكثير من الأماكن التي يمكن لروسيا أن تقدم للغرب شيئًا يحتاجه. ولكن سوريا من المواقع التي يمكن لروسيا مساعدة الولايات المتحدة وأوروبا في تحقيق أحد الأهداف الضرورية. تتحول أزمة اللاجئين السوريين بمرور الوقت إلى إحدى المسائل الأوروبية الداخلية العالقة. ولدى الولايات المتحدة اهتمام جاد بإنهاء الحرب الأهلية هناك، لأنها تخلق مجالاً من الظروف المثالية لتوسع تنظيم داعش على الأرض.
ولكن ليست للولايات المتحدة أو لأوروبا الأهلية والقدرة أو الاستعداد الكافي لإنهاء الحرب الأهلية السورية. فلقد استخدمت الولايات المتحدة القوة الجوية لديها في محاربة تنظيم داعش، غير أن تلك الحملة الجوية لا تفلح في تقييد النمو والتوسع المستمر للتنظيم الإرهابي.
وفي أي وقت خلال السنوات القليلة الماضية، كان يمكن للولايات المتحدة توجيه مقاتلاتها وقاذفاتها نحو قوات الأسد وإضعاف نظامه بما يكفي لاحتمال إسقاطه. ولكن إدارة الرئيس باراك أوباما خشيت، ومن دون سبب مفهوم، أن إسقاط نظام حكم الأسد قد يعني سيطرة تنظيم داعش على الأرض هناك. ومن المؤكد أن يترتب على ذلك ارتكاب مذابح بحق العلويين من طرف التنظيم، وإيجاد طبقة جديدة تمامًا من اللاجئين السوريين الذين يتجهون إلى أوروبا. كان يمكن لإيران هي الأخرى، التي ظلت الداعم الرئيسي للأسد، وفي أي وقت خلال السنوات الماضية أن تتخذ زمام المبادرة لإنهاء الحرب الأهلية السورية بالضغط على الأسد لقبول تجميع أفراد الطائفة العلوية في مكان محدد من سوريا. غير أن ذلك لم يكن يصبّ في مصلحة الجانب الإيراني، كما أعرب عنه، على أقل تقدير، المرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي.
من أحد الجوانب، تعتبر سوريا تحت حكم الأسد هي الجسر البري الإيراني نحو مواقع تنظيم «حزب الله» اللبناني، ومن شأن سوريا المقتصرة على حكم الأسد أن تواجه المزيد من المشكلات في الاتصال بالميليشيا الشيعية اللبنانية من أجل توصيل الإمدادات، بما فيها الصواريخ الإيرانية.
من جانب آخر، كانت إيران ضالعة في المفاوضات النووية طويلة الأجل مع الولايات المتحدة، ولم يكن هناك من داع لمساعدة خصمها في ذلك الوقت. وربما قبل كل شيء، أن سوريا على وضعها الحالي، لا تزال تعتبر حضنًا إيرانيًا حصينًا ضد الأغلبية الإقليمية العربية السنية، وليس لدى إيران من سبب يدعوها للسماح بالمزيد من الانكماش. تعد المصالح الروسية في سوريا مختلفة. فلقد شهدت العلاقات التاريخية القوية ذات مرة بين الاتحاد السوفياتي وسوريا البعثية، مرحلة ضعف وانهيار عقب سقوط الشيوعية في روسيا، وذلك مع جفاف التمويل الروسي لوكيلها الشرق أوسطي. ولكن ظلت الاتصالات قائمة بين البلدين، مما أعطى بوتين فكرة إعادة التفاعل مع الشأن السوري. ولكن سوريا أو الأسد لا يتمتعان بمصلحة استراتيجية أساسية من وجهة النظر الروسية. ولكن بوتين ببساطة يستغل الفرصة السانحة لتحقيق أهدافه.
يتعين على الأسد إدراك ذلك، ولكنه يستميت كذلك في المحافظة على بقاء نظام حكمه، كما أخبر بوتين الصحافيين (مع ضحكة مكتومة لها مغزاها) خلال زيارة بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى روسيا مؤخرًا. إذا ما أراد بوتين توفير الإسناد الجوي إلى الأسد، فليس الرئيس السوري في وضع يسمح له بالرفض.
ومن واقع ذلك التحليل تأتي نتيجة مفادها أن بوتين يزيد من جهود إسناد الأسد حتى يستخدم احتمال تحقيق حالة من الوساطة السلمية كورقة مساومة تفيده في علاقاته المضطربة مع الغرب. ويثير ذلك بدوره تساؤلين أساسيين ومهمين: هل بإمكان بوتين الوفاء بتعهداته؟ وإذا ما تمكن من ذلك، هل الثمن (الذي يشمل أوكرانيا) يستحق كل ذلك العناء من قبل الولايات المتحدة وأوروبا؟
يبدو من الممكن تمامًا أن بوتين يمتلك القدرة للضغط على الأسد، لأجل التوصل إلى اتفاق يبقيه في سدة الحكم على تجمع كبير يضم كل أفراد الطائفة العلوية. وبعد كل شيء، على الأسد أن يدرك أنه ليست بيديه مفاتيح اللعبة النهائية لإنهاء الحرب الأهلية الدائرة في بلاده. وحتى مع كل أنواع الدعم والمساعدة التي تستعد إيران لتوفيرها إليه، فليس من المتوقع، بمصداقية، أن يستطيع الأسد إعادة بسط السيطرة على الأجزاء التي فقدها من بلاده. والحقيقة هي، أن الغرب ظل على خشية من الإطاحة الفعلية بالأسد خوفًا من البديل المعروف. كما أن عمليات القصف الجوي التي عانى منها تنظيم داعش، ساعدت الأسد في بقاء حكمه على قيد الحياة. ولكن ذلك بعيد كل البعد عن موافقة الغرب على مساعدته في استعاده بلاده الممزقة تحت سيطرته. الحل الوحيد المتصور على أدنى تقدير للحرب الأهلية السورية هو سوريا المصغرة، وقد يدرك الرئيس الأسد أنه من الأفضل له الاتساق مع ذلك الحل، بدلاً مما سيكون عليه حاله في المنفى. وما يحتاجه الأسد للضلوع في مثل تلك الصفقة هو الضمانات العسكرية القوية والملموسة للإقليم الواقع تحت سيطرته ضد تنظيم داعش. بإمكان روسيا، من الناحية الافتراضية، تأمين مثل تلك الضمانات للأسد، والمشاركة في ذلك أيضًا باستخدام قواتها الجوية.
ويبقى السؤال الأصعب هل يستحق ذلك الحل كل ذلك المجهود؟ باعتبار سوريا الممزقة بحكم الأمر الواقع لا يترك الغرب في وضع أفضل، حيال محاربة تنظيم داعش، مما عليه الأمر الآن. وقد يؤدي الوضع السوري الراهن إلى تبسيط الحرب ضد التنظيم الإرهابي. ولكن، على النقيض من ذلك، قد يؤدي الأمر إلى تعزيز قوة «داعش»، ومنح التنظيم الإرهابي الأمل في الاعتراف به على المدى الطويل داخل مناطق معينة. كما قد يعني ذلك قبول اعتداء بوتين على أوكرانيا كجزء من الصفقة المبرمة، سواء الجزء المعلن عنه أو المسكوت عنه منها. ومن شأن ذلك، تعزيز نزعة بوتين التوسعية الخطيرة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، ووصفه في الوقت ذاته بالمهارة والحنكة السياسية الخارجية. ومع ذلك، فإن التكلفة البشرية للحرب الأهلية السورية ضخمة وهائلة للغاية – وهي في تزايد مستمر – حتى يبدو من الغباء المحض رفض إمكانية وجود الصفقة الروسية المباشرة. إن بوتين يلعب لعبته باحتراف. ويتعلق الأمر في الوقت الحالي بالولايات المتحدة للوقوف إلى أين ينتهي الأمر، والوقوف كذلك على ما إذا كان يمكن للرئيس أوباما مغادرة منصبه بعد بدء عملية إعادة بناء قدر من الاستقرار في جزء من أجزاء سوريا على أدنى تقدير. * بالاتفاق مع «بلومبرغ»
المعضلة السورية
عبد المنعم سعيد/الشرق الأوسط/28 أيلول/15
ما يشاع أن هناك «أزمة» سورية لم يعد مناسبا لمقتضى الحال. فالأزمة حالة استثنائية مفاجئة تغير من النظام القائم إلى الدرجة التي تدفع صناع القرار إلى اتخاذ قرارات مقيدة بقصر زمن التحضير لها، تتضمن ضمن ما تتضمن احتمالات استخدام القوة العسكرية. والحقيقة المرة هي أن ما يجري في سوريا لم يعد أزمة، فساعة استخدام القوة العسكرية تنتهي «الأزمة»، ويبدأ «الصراع» الذي تحكمه قواعد مختلفة في الإدارة واتخاذ القرار. الكارثة في الصراع السوري أنه لم يعد مثل كل الصراعات له طرفان اختلفت وتناقضت أهدافهما فاحتكما إلى السلاح، لكي يخضع طرف منهما الطرف الآخر. والحقيقة أنه لم يعد أحد يتذكر كيف بدأ الصراع على سوريا منذ بدأت المظاهرات والثورة في درعا، وبعدها بدأت المواجهة مع نظام بشار الأسد. هذا الفصل من الصراع السوري لم يعد له وجود، وربما مات الربيع السوري حتى قبل أن يأخذ فرصته في الإطاحة بنظام فاسد وعفن وفيه قدر هائل من القسوة. لم يكن هناك زين العابدين بن علي في تونس، الذي ما إن أعلن أنه في النهاية فهم أو تلقى الرسالة، فإنه ذهب إلى المنفى، ودار الزمان دورته في الدولة التونسية. ولم يكن هناك حسني مبارك الذي أعلن طوال حياته السياسية أنه ساعة إعلان الشعب المصري رفضه له، فإنه سوف يترك السلطة، ولكنه لم يذهب إلى المنفى، وإنما قرر أن أرض مصر التي عاش عليها، هي الأرض التي فيها سوف يموت.
لم يحدث في سوريا حتى ما جرى في ليبيا، أو حتى في اليمن، ولم تكن هناك الحكمة التي ظهرت في المغرب والأردن ودول الخليج العربية، باختصار كان السيناريو مختلفا كلية. فبشار الأسد لم يكن لديه لا قدر من الوطنية التي تجعله يحافظ على شعبه، ولا قدر من الحكمة التي تجعله قادرا على معالجة الأزمة، بل على العكس كان لديه استعداد للتضحية بما بلغ 240 ألفًا من السوريين، وأن يتحول نصف الشعب السوري إلى لاجئين. المهم لديه كان أن يبقى، حتى ولو كان ما تبقى له لا يزيد على ربع الأراضي السورية، التي لم يعد يسيطر عليها بعد أن هبط الإيرانيون عليه للحماية، وحزب الله للدفاع، وأخيرا الروس للاحتلال. لم يعد هناك طرفان في أزمة ولا في صراع، وإنما باتت هناك عدة أطراف تتداخل في صراعات مركبة. فقد انقسم الجيش السوري بين جيش الدولة والجيش الحر، وانقسمت جبهة النصرة بين من بقي مواليا لـ«القاعدة»، وذلك الذي شارك في تكوين «داعش» وإقامة دولة «الخلافة». أصبحت هناك خمسة أطراف خارجية متداخلة بين العداء والتحالف فيها، الحلف الدولي والإقليمي بقيادة الولايات المتحدة المضاد لدولة «داعش» في سوريا والعراق، وإيران ومعها حزب الله، وتركيا التي لا تعرف هل تحارب «داعش» أم بشار الأسد أم حزب العمال الكردي؟ ومؤخرا روسيا التي تمددت قاعدتها البحرية على البحر المتوسط لكي تكون قاعدة برية وجوية أيضا. من الحلفاء ومن الأعداء في هذه التركيبات لم يعد معروفا على وجه الدقة؟ ولكن الشعب السوري عرف أنه لم تعد هناك سوريا لكي يعيش فيها.
عشنا الزمن الذي كانت فيه كلمة «لاجئين» تعني «الفلسطينيين» الذين نتجوا عن «النكبة» الفلسطينية في عام 1948، ورغم الوجوه المتعددة للقضية الفلسطينية، فإن وجه «عودة اللاجئين» طبقا للقرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة كان وجها أساسيا للقضية كلها. الآن فإن الكلمة ذاتها أصبحت تعني 12 مليون سوري بداية من يوليو (تموز) الماضي، ثمانية منهم تركوا مناطق إقامتهم إلى أماكن أخرى في سوريا، وأربعة هاجروا لاجئين إلى بلاد الله الأخرى خاصة في تركيا والأردن ولبنان ومصر. هذه الأخيرة كما أعلن مؤخرا باتت تحتوي على خمسة ملايين لاجئ ليس من سوريا وحدها، وإنما من العراق وليبيا والسودان في الشمال والجنوب مضافا لهم إريتريا. وفي الحقيقة فإنه لم يعد أحد يعرف على وجه الدقة من أين أتى اللاجئون، لأن بعضهم عرف اللجوء المركب، فالعراقيون لجأوا إلى سوريا (هناك 3.5 مليون لاجئ) ومع الصراع المحتدم ترك هؤلاء أو بعضهم سوريا، وجرى للفلسطينيين ما جرى للعراقيين بعد لجوء طويل وممتد في سوريا.
النتيجة لم تكن مفاجئة أن أكثر من 600 ألف تركوا الأراضي السورية، وعبروا البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا. لم يعد هناك مكان في سوريا يمكن اللجوء إليه، ولا مكان في دول الجوار، أصبحت سوريا معضلة للعرب والإقليم والعالم. تفاصيل ما جرى لهذا الحشد الأخير جذبت انتباه الإعلام العالمي، وفي بعض الأحيان باتت كما لو كانت كارثة أوروبية مفاجئة، ولكن الحقيقة هي أن أوروبا معتادة على قضية اللجوء هذه خاصة من السواحل الأفريقية المختلفة. ولكن إذا تركنا ذلك جانبا، فإن سوريا كارثة عربية بامتياز يتحمل مسؤوليتها السياسية بشار الأسد وجماعته وحزبه. ومع ذلك فإنه، إنسانيا وأخلاقيا، المسؤولية عربية، ليس فقط لأن سوريا عضو في الجامعة العربية، وإنما لأن الشعب السوري، لحما ودما، جزء لا يتجزأ من الشعب العربي.
ومن الطبيعي أن نفهم أن كل الدول العربية لديها ما يكفيها من قضايا حيوية تستلزم كل الانتباه والتركيز، ولكن المعضلة السورية جرح آخذ في التقيح، جاذب لكل أنواع الميكروبات والجراثيم والأعداء من كل نوع، وكل ذلك قابل للانتشار والعدوى التي تتعدى الحدود بسرعة مخيفة. لا يوجد بديل عن قمة عربية صغيرة لأصحاب القدرة على الفعل، ولديهم من المصلحة ما يكفي للبحث عن حل، وطرح مبادرة سياسية لإنقاذ سوريا من الفناء. هناك أفكار كثيرة يمكن التداول فيها بحثا عن حل، أو بداية حل لوقف التدهور وموجات النزوح والغرق، ولكن هذه الأفكار لن تكون لها قيمة ما لم يكن لها عنوان ممثل في ائتلاف عربي على استعداد لتحمل المسؤولية، أو على الأقل على استعداد لمشاركة المجتمع الدولي المسؤولية التي نتحمل بعضا منها الآن من خلال التحالف الدولي، أو من خلال استقبال اللاجئين الذين لا يعرف العالم أن جزءا غير قليل منهم ذهب إلى بلدان عربية. الوقت هنا بالغ الأهمية بعد أن وقفت أهداف التحالف الدولي عند منع «داعش» من التوسع، ولكن تركيا وروسيا ليس لديهما هذه الحدود، وما بدأ في شكل أزمة وانتقل مع الوقت إلى صراع، يبدو أنه في النهاية سوف يصل إلى نقطة الانفجار التي يعلم الله وحده نتائجها.