من الارشيف/مفهوم ومعاني “القلب” في الكتاب المقدس الياس بجاني
18 كانون الثاني/15
إن مفردة القلب مذكورة في الكتاب المقدس أكثر من 300 مرة وهي لاهوتياً لا تعني لا من قريب ولا من بعيد القلب العضو في جسد الإنسان، أي المضخة الذي تضخ الدم في الجسم، بل هوالمحور الكياني البشري، ومركز وحدة القدرات، والضمير والوجدان والأحاسيس بكافة تلاوينها وتناقضاتها وإذا جاز التعبير، هو الأنا بمفهوم علم النفس الحديث.
من هنا فالقلب لاهوتياً وبحسب هذه المعانى الوجدانية والروحية والإيمانية هو ليس ذاك القلب العضو في الجسد النابض في الصدر بين الرئتين، بل هو الواقع الكياني الإيماني الذي يشكل محور كامل الوجود الشخصي. إنه محور الوحدة حيث تتلاقى كل خيوط دائرة كيان الإنسان.
وإذا ما نظرنا مليًا إلى الطقوس الكنسية وإلى الإيقونات لوجدنا أهمية كبرى لـ “قلب” يسوع و لـ “قلب مريم البريء من الدنس”، وفي الكتاب المقدس في العهدين القديم والجديد على حد سواء عشرات الآيات التي تؤكد أهمية ومحورية مفهوم القلب الروحاني والفكري والإيماني.
وفي هذا الإطار تأتي الوصية الأولى من الوصايا العشرة التي تقول: “أحبب الرب إلهك من كل قلبك”، والسيد المسيح يتحدث عن القلب كمحور نوايا الإنسان.
(متى15/19و20): فَمِنَ الْقَلْبِ تَنْبُعُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ، الْقَتْلُ، الزِّنَى، الْفِسْقُ، السَّرِقَةُ، شَهَادَةُ الزُّورِ، التَّجْدِيفُ. هَذِهِ هِيَ الأُمُورُ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ”. “
لا أحد غير الله يدرك ما يجول في أفكارنا وقلوبنا من نوايا شريرة كانت أم صالحة، وهو ولأنه يحبنا وينتظر عودتنا إلى منازله السماوية التي لم تشدها أيدي الإنسان، فهو كأب غفور يحذرنا باستمرار بشتى الوسائل والطرق عندما ندنس قلوبنا ونقع في تجارب إبليس ونسير وراء انساننا القديم، انسان الخطيئة الأصلية، ونهجر الانسان الجديد، انسان العماد بالماء والروح القدس.
(متى 15/07 و08): “أَيُّهَا الْمُرَاؤُونَ! أَحْسَنَ إِشَعْيَاءُ إِذْ تَنَبَّأَ عَنْكُمْ فَقَالَ: هَذَا الشَّعْبُ يُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، أَمَّا قَلْبُهُ فَبَعِيدٌ عَنِّي جِدّاً! إِنَّمَا بَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ لَيْسَتْ إِلاَّ وَصَايَا النَّاسِ”.
يعلمنا الكتاب المقدس أن نتضرع لله دائما ونطلب منه بخشوع وصدق وإيمان نعمة وعطية القلب النقي والمستقيم والصالح.
(مزمور 51/10): “قلبا نقيا اخلق في يا الله وروحا مستقيما جدد في داخلي”.
الرب الأب خلق الإنسان على صورته ومثاله وأعطاه قلباً كقلبه وعندما يراه يُدنِّس هذا القلب يهب لنجدته واعادته إلى الطريق القويم بارسال الأنبياء والقديسين والبررة، و ولكن عندما يعصاه ولا يتعظ ويتوب ويؤدي الكفارات يؤدبه ويعاقبه كما فعل في زمن نوح ونمرود ولوط مع مدينتي سادوم واعمورة.
(تكوين06/05و06): “”وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ فِكْرِ قَلْبِهِ يَتَّسِمُ دَائِماً بِالإِثْمِ، فَمَلأَ قَلبَهُ الأَسَفُ وَالْحُزْنُ لأَنَّهُ خَلَقَ الإِنْسَانَ”
يعمل الله بالناموس الطبيعي والضمير وبالأنبياء على إيقاظ قلوب بني البشر ليرجعوا إليه فيجدونه وان يعطوه قلوبهم ويلاحظوا طرقه ووصاياه.
(التثنية29/من03حتى05): “بِأَعْيُنِكُمْ أَبْصَرْتُمْ تِلْكَ التَّجَارِبَ الْهَائِلَةَ وَالآيَاتِ وَالْعَجَائِبَ الْعَظِيمَةَ. وَلَكِنَّ الرَّبَّ لَمْ يُعْطِكُمْ حَتَّى الآنَ قُلُوباً لِتَعُوا وَعُيُوناً لِتُبْصِرُوا وَآذَاناً لِتَسْمَعُوا. لَقَدْ قُدْتُكُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَمْ تَبْلَ فِيهَا ثِيَابُكُمْ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ تَهْتَرِيءْ نِعَالُكُمْ عَلَى أَرْجُلِكُمْ:”.
ربط الرب إلهنا قلوبنا بقلبه، لكي نحبه من كل القلب والنفس فنحيا به وهذا ما أتمه الله في العهد الجديد بحلول الروح القدس على المؤمنين، ليصير قلبهم مسكناً لروحه يقدسه له لنصير هياكل روح الله ويصير قلبنا مذبحاً مُكَّرساً للعبادة وبصلوات التقية والمحبة الصادقة وإذ يتنقى القلب يعاين الله ويعمل المسيح بالإيمان فيه.
لذا من المهم أن نكرس وقفة تأملية بمعنى القلب الكتابي واللاهوتي. ففي تعليقه على سر فاطيما الثالث قام عميد مجلس عقيدة الإيمان حينها الكاردينال يوسف راتسنغر (Joseph Ratzinger) (البابا بندكتس السادس عشر الآن) بتقديم وصف موجز لمفهوم القلب: “القلب يعني في لغة الكتاب المقدس محور الوجود البشري، واندماج العقل والإرادة، والمزاج والإحساس”. “القلب هو ذلك الواقع الذي يجد فيه الكائن البشري وحدته وتوجهه الداخلي”.
القلب هو تلك القدرة البشرية التي تذهب أبعد وأعمق من القدرة الفكرية في الإنسان، وأبعد من تصور خيالنا. هو بُعد الغريزة الإلهية وهو أيضاً عمق النفس.
من المستحيل على الواحد منا النفاذ إلى داخل أي شخص آخر مهما كان قريباً منا ومعرفة ما يختزن بداخل قلبه وأفكاره، ولكن يمكننا فهم ذلك من خلال أفعاله وأقوله وأحاسيسه التي تشهد على ما في قلبه لأنه من مخزون القلب يتكلم اللسان. والقلب هذا يُدنسه صاحبه حينما يغرق في فخاخ الغرائز ويفشل لقلة إيمانه وخور رجاءه بلجمها وتهذيبها.
نقول في صلاتنا يا رب أعطني قلباً كقلبك، (“قلبا نقيا اخلق في يا الله وروحا مستقيما جدد في داخلي” (المزمور51/10) أي أنعم عليّ بعطايا المحبة، والمحبة هي الله وهي القلب.
معاني المحبة التي هي الله عرفها رسول الأمم بولس: في (كورنثوس الأولى/13/01حتى13): “لو تكلمت بلغات الناس والملائكة، ولا محبة عندي، فما أنا إلا نحاس يطن أو صنج يرن. ولو وهبني الله النبوة وكنت عارفا كل سر وكل علم، ولي الإيمان الكامل أنقل به الجبال، ولا محبة عندي، فما أنا بشيء. ولو فرقت جميع أموالي وسلمت جسدي حتى أفتخر، ولا محبة عندي، فما ينفعني شيء. المحبة تصبر وترفق، المحبة لا تعرف الحسد ولا التفاخر ولا الكبرياء. المحبة لا تسيء التصرف، ولا تطلب منفعتها، ولا تحتد ولا تظن السوء . المحبة لا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق. المحبة تصفح عن كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء. المحبة لا تزول أبدا. أما النبوات فتبطل والتكلم بلغات ينتهي. والمعرفة أيضا تبطل، لأن معرفتنا ناقصة ونبواتنا ناقصة. فمتى جاء الكامل زال الناقص. لما كنت طفلا، كطفل كنت أتكلم وكطفل كنت أدرك، وكطفل كنت أفكر، ولما صرت رجلا، تركت ما هو للطفل. وما نراه اليوم هو صورة باهتة في مرآة، وأما في ذلك اليوم فسنرى وجها لوجه. واليوم أعرف بعض المعرفة، وأما في ذلك اليوم فستكون معرفتي كاملة كمعرفة الله لي. والآن يبقى الإيمان والرجاء والمحبة، وأعظم هذه الثلاثة هي المحبة.
البابا بندكتس السادس عشر
إن جذور هذه التقوى (عبادة قلب يسوع) متأصلة في سر التجسد. فبواسطة قلــب يسوع ظهرت بصورة جلية محبة الله للبشرية. ولهذا فإن عبادة قلب يســوع الأقدس الأصيلة تحافظ على معانيها وتستقطب بشكل خاص النفوس المتعطشة إلى رحمة الله ينبوع ماء الحياة الذي لا يسبر غوره والقادر على ري صحاري الروح كي ينموالرجاء.
صلاة للقلب الاقدس
يا يسوع، أنت ذو القلب الشفيق، الكلي الجودة والصلاح. أنت تراني وتحبني. أنت رحيم وغفور، إذ لا يمكنك أن ترى الشقاء دون أن ترغب في مداواته. ها إني أضع كل رجائي فيك، وأثق أنك لن تهملني، وأن نعمك تفوق دائماً آمالي. فحقق لي يا يسوع، جميع وعودك، وامنحني النعم اللازمة لحالتي، وألق السلام في عائلتي، وعزني في شدائدي، وكن ملجأ لي طيلة حياتي وفي ساعة موتي. إن كنت فاتراً في إيماني فإني سأزداد بواسطتك حرارة. أو كنت حاراً فاني سأرتقي درجات الكمال أنعم علي يا يسوع بنعمة خاصة ألين بها القلوب القاسية، وأنشر عبادة قلبك الأقدس. واكتب اسمي في قلبك المعبود، كي لا يمحى إلى الأبد. وأسألك أن تبارك مسكني حيث تكرم صورة قلبك الأقدس.
*الكاتب ناشط لبناني اغترابي
عنوان الكاتب الألكتروني [email protected]
في أسفل فهرس صفحات الياس بجاني على موقع المنسقية القديم