نديم قطيش/المقاومة اللبنانية لاحتلال حزب الله

106

المقاومة اللبنانية لاحتلال حزب الله
نديم قطيش/الشرق الاوسط/10 آب/2021

ليس الأهم في تفاصيل المواجهة الأخيرة، من بُعد، بين «حزب الله» وإسرائيل، أن الغارات الإسرائيلية على لبنان هي الأولى من نوعها منذ 15 عاماً؛ أي منذ نهاية ما تعرف بـ«حرب تموز 2006». الأهم والأكثر استراتيجية هو ما حصل للمرة الأولى منذ «اتفاق الطائف»؛ أي منذ 30 سنة، وهو اشتباك مجموعة من أهالي بلدة شويا في قضاء حاصبيا مع مجموعة ميليشيا «حزب الله» التي أطلقت الصواريخ وكانت تهم عائدة إلى قواعدها. سبق للمجموعة الدرزية، بصفتها الأهلية والحزبية، أن اشتبكت اشتباكات قاسية مع ميليشيا «حزب الله» خلال الأيام التي أعقبت غزوة «حزب الله» لبيروت وجبل لبنان في 7 مايو (أيار) 2008، وجرت مواجهات دفع فيها «حزب الله» في منطقة الشويفات بساحل جبل لبنان أثماناً كبيرة، وكادت قواته تتعرض لمجزرة بكل معنى الكلمة في منطقة الباروك لولا تدخل وليد جنبلاط مع المشايخ.
في الشويفات قتل أحد أبرز المسؤولين العسكريين لـ«حزب الله»، ناصر العيتاوي، والمعروف بـ«بطل وادي الحجير»، في إشارة إلى معركة وادي الحجير مع الدبابات الإسرائيلية المتوغلة خلال «حرب تموز».

كان مقتل العيتاوي دليلاً حاسماً على أن لا فرق بين سلاح «حزب الله» في الداخل وسلاحه كمقاومة، وأن معزوفة التفريق بين «سلاح المقاومة» و«سلاح حزب الله» هي معزوفة بلهاء، ونوع من التوريات اللغوية التي كانت تملأ اللغو السياسي اللبناني يومها.

مع ذلك كانت اشتباكات 2008 اشتباكاً مع «حزب الله» في سياقات صراع داخلي قاس أعقب بشكل رئيسي اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005. أما ما حصل في بلدة شويا فهو اشتباك مع «حزب الله» بصفته المقاوِمة لا بصفته حزباً سياسياً، وهذا هو التطور غير المسبوق منذ «الطائف». ببساطة وتلقائية؛ ألغت مجموعة من الشبان والرجال من أهل البلدة أطناناً من اللغو عن التفريق بين «المقاومة» و«حزب الله». ما قالته مجموعة شويا ليس أنها ضد «حزب الله» في سياساته الداخلية فقط؛ بل ضده حتى كمقاومة لا وظيفة لها في الواقع إلا الاندراج في سياق الحسابات الإيرانية وعلى حساب مصالح وأمن اللبنانيين. وما قالته المجموعة أيضاً وأيضاً، أن لا شيء في الحقيقة يستأهل تعريض أهالي حاصبيا والجنوب لتبعات الردود الإسرائيلية المحتملة، مهما تذاكى قادة «حزب الله» في ابتكار معادلات توازن وقواعد اشتباك.

حادثة شويا هي الإعلان الرسمي عن وفاة معادلة «جيش وشعب ومقاومة» التي يبالغ «حزب الله» في الإصرار عليها وعلى تضمينها في البيانات الوزارية، في الوقت الذي يقر فيه الحزب دائماً، كما في خطاب حسن نصر الله الأخير، بوجود انقسام حول المقاومة، من دون أن يكون هذا التناقض الوحيد الذي يعتري سردية «حزب الله» ويزيدها ارتباكاً في الآونة الأخيرة. فالشعب في شويا كان في مواجهة المقاومة، معلناً بكل وضوح وصراحة أن الخلاف حول المقاومة ليس وجهة نظر مجردة فحسب؛ بل يمكن أن يتحول في لحظات التهديد الجدي لمصالح وأمن الناس إلى اشتباك على الأرض.

بمعنى من المعاني، استعادت شويا بعضاً من ملامح الجنوب قبل اجتياح عام 1978، حين كانت قوات الإمام موسى الصدر في اشتباك مع «الفدائيين الفلسطينيين» لا مع إسرائيل، وكان الخلاف يومها كالخلاف اليوم، يقول إن الأثمان المحتملة للقضية أكبر بكثير من القضية نفسها. كان الصدر حريصاً على الحفاظ على أمن الجنوب وعمرانه واستقرار بشره، وأن لا يغامر أحد بتخريب قاعدته الشعبية والأهلية نتيجة احتكاكات غير محسوبة مع إسرائيل. وكما رفع الجنوبيون، بموافقة الصدر، البندقية في وجه «الفدائيين الفلسطينيين» رفعها أهالي شويا في وجه ميليشيا «حزب الله» بموافقة راجحة لبنانية شعبية عابرة للطوائف. ما يجب أن يعني «حزب الله» هو هذا الاحتضان الشعبي لموقف أهالي شويا والانحياز لما فعلوه لا لـ«حزب الله» أو لفكرة المقاومة، ولو جرى استفتاء حقيقي في لبنان لفاز خيار شويا على خيار «حزب الله» بما لا يقاس. مما يعني أن الانفكاك عن فكرة المقاومة، وهي الحصن الأخير المتبقي لـ«حزب الله»، انفكاك شعبي كبير في لبنان، وإن لم يناسب «حزب الله» الاعتراف به.

سيرة هذا الانفكاك لم تبدأ من حادثة شويا؛ وإن كانت هذه الحادثة هي الأكثر علنية وعملية. تدرج الانفكاك منذ اغتيال رفيق الحريري وموقف «حزب الله» الداعم لسوريا المتهمة آنذاك بقتل الحريري في عموم الوجدان اللبناني، وصولاً إلى 7 مايو 2008، وعدوان «حزب الله» على بيروت وجبل لبنان، ثم الدخول في الحرب السورية على نحو إجرامي غير مسبوق في القتل والتهجير والتجويع، ثم جر لبنان وشيعته إلى حرب اليمن بخطاب صادم، عدّ فيه نصر الله أن موقفه في حرب اليمن أعظم من موقف «حزب الله» في «حرب تموز»، وصولاً إلى الإساءات العلنية التي وجهت لـ«حزب الله» ونصر الله شخصياً من قلب حي السلم؛ أحد أفقر أحياء الضاحية الجنوبية لبيروت، بسبب الضائقة المعيشية، وصولاً إلى انفجار المرفأ وكل الشبهات التي تلوح حول «حزب الله» وصلته بالأمونيوم الذي انفجر في مرفأ العاصمة مخلفاً واحدة من كبرى المآسي البشرية والمدينية في تاريخ الكيان اللبناني… والآن شويا!

«حزب الله» جزء من الفشل السياسي والإداري الذي أغرق لبنان في أسوأ أزمة اقتصادية يعانيها بلد منذ قرن ونصف، وجزء من منظومة سياسية، تحالف فيها الفساد والإهمال واستسهال توظيف لبنان واللبنانيين في حروب المنطقة، وأنتج من رحم ذلك، انفجار المرفأ، الذي هو رابع أكبر انفجار غير نووي في التاريخ. كل ذلك يُصيِّر ادعاءات نصر الله بحماية اللبنانيين مدعاة ضحك، حيث إن ما يعيشه اللبنانيون من مآسٍ لم يذوقوه في أشرس المواجهات مع إسرائيل؛ إنما في مواجهة أفسد وأشرس وأفشل السلطات السياسية التي يمكن تخيلها، والتي يقودها «حزب الله». مجموعة شويا التي اعترضت في وضح النهار على مجموعة «حزب الله» وواجهتها بلا أقنعة أو كواتم للصوت كتلك التي أردت الكاتب والناشط لقمان سليم، هي المقاومة الحقيقية في لبنان وهي الرعب الذي يسكن قلب ميليشيا الاحتلال الإيراني حتى إشعار آخر.