د. توفيق هندي/المركزية: هل يمكن تحقيق خلاص لبنان من خلال المسالك الدستورية؟

54

هل يمكن تحقيق خلاص لبنان من خلال المسالك الدستورية؟

د. توفيق هندي/المركزية/18 تموز/2021

المسالك الدستورية ثلاثة: إنتخابات رئاسية، إنتخبات نيابية، تشكيل حكومة.

للإجابة على هذا التساؤل، نورد أولا” الملاحظات العامة التالية :

1) إن هذه المعالجات، ولا سيما الإنتخابات النيابية، تتطلب وقتا” طويلا” نسبيا” في حين أن مسار تدهور الوضع سريع وسريع جدا”، وقد يودي بلبنان الدولة والكيان والشعب.

2) عندما تصبح قضية لبنان وجودية، لا يصح حينها إلا إتباع سياسة راديكالية ولن يعود السعي للوصول إلى السلطة الدولتية هو السبيل إلى التغيير. فمن الواضح أن لبنان هو تحت الإحتلال الإيراني، والدولة والمجتمع في حالة تحلل ولبنان يعيش حالة اللادولة. لذا، لا معنى للسعي لرئاسة جمهورية غير موجودة، أو السعي لتشكيل حكومة لا سلطة لها، أو المطالبة بإجراء إنتخابات نيابية تجدد شباب الطبقة السياسية المارقة، فتشكل حجة لبعض الخارج للتعاطي معها.

3) إن مآل الأوضاع في لبنان كما بأي بلد، يحدده أول بأول ميزان القوى. إن المكون الرئيسي لميزان القوى هو المكون العسكري-الأمني وهو يسبق بالأهمية المكونات السياسية والدولاتية والشعبية والإقتصادية والمالية والثقافية…، كما أن مكونات ميزان القوى هي داخلية وخارجية في آن معا”.

فداخليا”، حزب الله هو الأقوى عسكريا” وأمنيا”، كما أنه مسيطر على الطبقة السياسية ومفاصل الدولة كافة، مباشرة و/أو من خلال القوى التابعة له، ولا سيما على المؤسسات الدستورية الثلاث :

فرئيس الجمهورية هو حليفه إلى يوم القيامة، وهو يتمتع بالأغلبية الخالصة في البرلمان وأي حكومة سوف تشكل سوف يكون قرارها بيده.

أما خارجيا”، فبات واضحا” أن مفاوضات فيينا سوف ينتج عنها العودة إلى الإتفاق النووي بنسخته الأصلية، مع إبقاء موضوعي الصواريخ البالستية والتمدد في المنطقة خارج المفاوضات. فترفع العقوبات عن إيران وتتدفق الأموال الإيرانية المجمدة على الجمهورية الإسلامية ويتعافى الإقتصاد الإيراني ويفّعل بنيجتها فيلق القدس ومحور المقاومة، علما” أن حزب الله هو المكون الرئيسي للمجموعتين ونصر الله القائد غير المعلن لهما خلفا” لقاسم سليماني. يمكنكم الإطلاع على مقال لي تجدونه على حسابي وصفحتي فيسبوك بعنوان “قريبا” عودة إلى الإتفاق النووي”.

4) إنطلاقا” من سياسة المهادنة (appeasement) المتبعة من إدارة بايدن والإتحاد الأوروبي تجاه إيران، يمكن توصيف سياسة الغرب تجاه لبنان (أميركا، فرنسا، الإتحاد الأوروبي،…)، وعنوانها العريض هو : عدم وصول لبنان إلى وضع يستوجب تدخله الجدي. تتمحور هذه السياسة حول النقاط التالية :

أ) ضرورة تشكيل حكومة لمعالجة الأزمة الإقتصادية-المالية-الإجتماعية من خلال إجراء إصلاحات، إنما عمليا” حتى من دون هذه الإصلاحات.

ب) إعتبار أن عدم تشكيل الحكومة سببه داخلي بحت، وذلك مراعاة” لإيران بعدم التعرض إلى المشكلة الحقيقية، أي ضغط إيران إقليميا” من خلال الميليشيات التابعة لفيلق القدس وأطراف محور المقاومة للدفع بإتجاه إلزام بايدن بشروطها في مفاوضات فيينا. إن ترجمة هذا الضغط الإيراني في لبنان يتجسد بإمساك حزب الله بورقة تشكيل الحكومة وعدم الإفراج عنها إلا عند العودة إلى الإتفاق النووي بشروط إيران.

ج) التهديد بعقوبات لن تجدي نفعا”.

د) الضغط الكلامي لإجراء إنتخابات نيابية في وقتها.

ثمة من يطرح إستقالة رئيس الجمهورية كمدخل لإعادة إنتاج السلطة كونه المسؤول الأول عن وضع البلاد وحليف حزب الله الأساسي والذي يؤمن له الغطاء المسيحي. ثمة إستحالة لتحقيقه سياسيا” وشعبيا” حتى عبر مسيرة مليونية تطالب بالإستقالة على أبواب بعبدا. الرئيس عون لن يستقيل وهو إن أراد، يمنعه حزب الله من ذلك، وهذا الأخير قادر على منعه. من ناحية أخرى، لا شك أن البديل عنه بنظر حزب الله هو جبران باسيل الذي فضّل الحزب على أميركا عندما خيّر بينهما. وحزب الله يمتلك الأغلبية النيابية لإنتخابه وبري لا يمكنه مناقضة حزب الله إذا طلب منه أن يفسر المادة 49 من الدستور عبر مكتب المجلس بإمكانية إنتخاب الرئيس بالأغلبية العادية. وما هّم حزب الله إذا كان رئيس جمهورية لبنان واقعا” تحت العقوبات الأميركية (التي قد لا تدوم مع بايدن)؟! العكس صحيح لأن هذه العقوبات تجعل باسيل أكثر حاجة” لحزب الله وإلتصاقا” به للذهاب بلبنان شرقا”.

أما الطرح الثاني، فهو طرح حكومة مستقلين أو غير حزبيين أو حكومة مهمة. فهو أيضا” مستحيل التحقيق ليس فقط بسبب أو بحجة تناقض مصالح أطراف الطبقة السياسية المارقة (وهم من غير اللاعبين بل الملعوب بهم!) بل أساسا” لأن تشكيل الحكومة مرتبط بإرادة حزب الله. في مطلق الأحوال، لن يقبل حزب الله بتشكيل حكومة إلا إذا كان له اليد الطولى فيها. هل هو قادر على ذلك؟! نعم لأنه يمتلك السلاح والسطوة الكاملة على الطبقة السياسية.

وإستطرادا”، إذا إفترضنا أن أحدهم أصبح وزيرا”، وهو “آدمي” وذات إختصاص ومن صفوف الثورة، ماذا عساه أن يفعل وإدارة وزارته من أعلى الهرم إلى إسفله تنتمي إلى هذا “الزعيم” أو ذاك؟!

أما الطرح الثالث، فيعتبر أن المدخل لإنتاج سلطة بديلة يكون من خلال إنتخابات نيابية مبكرة أو غير مبكرة ينتج عنها أغلبية جديدة فرئيس جديد وحكومة جديدة. ولكن لماذا يخاطر حزب الله ولو بواحد بالمئة بأي إنتخابات مبكرة أو غير مبكرة يمكن أن تفقده الأغلبية النيابية المباشرة التي من خلالها يتحكم بسهولة بالمسارات والآليات الدستورية وبالمؤسسات الدستورية الثلاث؟! وإستطرادا”، في حال فقدانه لها،  لن تتأثر كثيرا” سطوته على الطبقة السياسية، إنما إنتخاب باسيل يتطلب حينها ضغوط أكبر عليها. والبديل عن الإنتخابات عنده هو تمديد ولاية البرلمان. وما أسهل إختلاق المبررات (أحداث أمنية، خلاف حول قانون الإنتخاب،…)!

أما إذا إفترضنا أن المستحيل حدث، وهو أن يقبل حزب الله بإجراء إنتخابات نيابية وكان إجرؤها تحت ضغط الخارج ورقابته، فلن يكون التغيير ذات شأن من حيث تمثيل الثورة، ولو حصّلت هذه الأخيرة بعض النجاحات المحدودة.

فلا يزال حزب الله والطبقة السياسية المارقة بمكوناتها كافة تمتلك عناصر القوة التالية: غطاء السلاح الذي يؤمنه حزب الله لنفسه ولها، المال الوفير المتراكم منذ سنين من خلال نهب المال العام والخاص ومن خلال “المساعدات” الدسمة من الخارج، التنظيم الحزبي، إمتلاكها الخبرة الإنتخابية، إمتلاكها الماكينات الإنتخابية المجربة، الإمساك بإدارة العملية الإنتخابية، المساعدة الهامة التي توفرها لها الدولة العميقة وأخيرا” غباء بعض الحالات الشعبية الغنمية التي تؤلّه “زعيمها” الفاسد الذي “بياكل وبتطعمي”.

من الخطء أن تنادي بعض الثورة عن حسن نية عند بعضهم وعن سؤ نية عند بعضهم الآخر، بالمطالبة بإجراء الإنتخابات لأن لها قواعد شعبية تريد أن تحافظ عليها و/أو تناغما” مع بعض الخارج. لماذا؟ لأن إجراء الإنتخابات تحت الإحتلال لا يخدم إلا الإحتلال ولأن منطق التغيير من خلال إجراء الإنتخابات خاصة أو من خلال الآليات الدستورية عامة يناقض منطق خريطة الطريق التي توصل إلى خلاص لبنان. فلمن يريد أن يحافظ على قواعده الشعبية يمكنه الإستعداد العملي للإنتخابات دون المطالبة بها كوسيلة للتغيير وأن يناقض نفسه بنفسه.

خارطة الطريق لخلاص لبنان التي عرضتها مرارا” والوحيدة المجدية برأيي:

لبنان في خضم الصوملة الكاملة النهائية، و”الحبل عالجرار”، مما سوف يحوله إلى قنبلة موقوتة تهدد الأمن والإستقرار والسلام الدولي والإقليمي، ويحوله بالتالي تهديدا” للمصالح الدولية والإقليمية.

كيف ؟ الطرف الوحيد في لبنان الذي سيزداد قوة” وفعالية” وقدرة” على التدخل في المنطقة، ولا سيما مع رفع العقوبات عن إيران، هو حزب الله في بحر من الفوضى الأمنية في المناطق اللبنانية الخارجة عن نفوذه المباشر، بالإضافة إلى إمكانية كبيرة لتطور دراماتيكي خطير لوضع النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين وبعض اللبنانيين خاصة في شمال البلاد، من حيث سهولة إختراق بيئتهم من داعش وأخواتها، بالإضافة أيضا” إلى إمكانية كبيرة لحدوث هجرة غير شرعية إلى أوروبا.

لكل هذه الأسباب، تراني مقتنعا” بأن مصلحة أميركا وروسيا وحتى الصين والدول الغربية والدول العربية والإقليمية الوازنة يمكنها أن تتلاقى في مرحلة ليست ببعيدة على معالجة جدية للوضع في لبنان.

وهنا يبرز دور بكركي المحوري في مسيرة التدويل الإنقاذية لملأ الخواء الوطني الذي أحدثته الطبقة السياسية المارقة. فبكركي تدعم ثورة الشعب اللبناني وتطالب بتحقيق الحياد الناشط والإيجابي وبمؤتمر دولي، إستنادا” على المرجعيات التالية:

المرجعيات اللبنانية: وهي الدستور، ووثيقة الوفاق الوطني (إتفاق الطائف 1989)، وإعلان بعبدا (2012) المعتمد كوثيقة رسمية من قبل الأمم المتحدة.

المرجعيات العربية: ينتمي لبنان إلى العالم العربي وهوعضو مؤسس لجامعة الدول العربية ويلتزم ميثاقها ومقررات قممها.

المرجعيات الدولية: وهي شرعة الأمم المتحدة، والشرعة العالمية لحقوق الإنسان، وقرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بلبنان لا سيما القرارات 1559 و 1680 و 1701، وإتفاقية الهدنة مع إسرائيل الموقعة في آذار 1949.

ولكن، ما هي خريطة الطريق التنفيذية من أجل تحقيق هذا التدويل ؟

إن مفتاح الحل يكمن بالعمل الديبلوماسي الجاد لإقناع أصحاب القرار الدولي بأن مصلحتهم هم، هي بخلاص لبنان وليس بإندثاره وأن تقدم لهم خارطة طريق قابلة التحقيق مرتكزة على تدويل الوضع اللبناني بمعنى إتخاذ مجلس الأمن قرارا” يضع قرارات مجلس الأمن 1559 و 1680 و 1701 تحت الفصل السابع ويوسع مهام القوات الدولية (Finul) ويتخذ قرار بوضع لبنان تحت الإنتداب الدولي وفقا” للفصل الثاني عشر والثالث عشر من شرعة الأمم المتحدة، وذلك لأن لبنان بلد مخطوف  ليس بمقدوره أن يحرر نفسه ولأن اللبنانيين باتوا غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم ولأن لبنان محتل ولأن الدولة اللبنانية باتت في خبر كان وبالتالي فقدت عضويتها حكما” في الأمم المتحدة ولأن لبنان أسير قضية إنسانية غير قابلة للمعالجة لبنانيا” في ظل سلطة مجرمة، والأهم أن لبنان بات قنبلة موقوطة للأمن والإستقرار والسلام في المنطقة.

في إطار الوصاية الدولية الآنفة الذكر، يجب تشكيل سلطة مؤقت عسكرية-مدنية على شاكلة ما حدث في السودان، مشكلة من نخبة عسكرية ونخبة مدنية، تعلق الدستور وتعمل تحت الرقابة الدولية على تنظيف مؤسسات الدولة كافة من آثار المحاصصات والفساد بهدف العودة في مرحلة لاحقة إلى تنفيذ الدستور. فتجرى حينذاك إنتخابات نيابية وفق قانون جديد ثم إنتخابات رئاسية وتشكيل حكومة، مما يشكل تمهيدا” لرفع الوصاية الدولية وتعافي لبنان السريع في كل المجالات، ولا سيما في المجالين الإقتصادي والمالي، على قاعدة إعادة ثقة الشعب وثقة المجتمع الدولي والعربي والإنتشار اللبناني بالدولة اللبنانية.

عندها، تصبح الطريق معبدة داخليا” وخارجيا” لإستحصال لبنان على حياده الناشط والإيجابي، صونا” لكيانه ودولته وشعبه على المدى الإستراتيجي.

ويبقى كل الأمل في أن شبيبة الثورة سوف تعرف كيف تحافظ على لبنان وتمنع إعادة إنتاج طبقة سياسية مارقة بعد قيام السلطة المؤقت بإقتلاع آثارها في مؤسسات الدولة كافة.