شارل الياس شرتوني/أزمة القضاء، نهاية دولة القانون ومستقبل البلاد

69

أزمة القضاء، نهاية دولة القانون ومستقبل البلاد
شارل الياس شرتوني/19 نيسان/2021

لا بد من التسليم بمعطيات أولية بدأت تطغى على المشهد السياسي والأمني والقانوني، تشير الى تحول البلاد الى دولة فاشلة بكل المقاييس: سقوط القيم الناظمة للحياة السياسية والعائدة للخيارات الديموقراطية والليبرالية والدستورية والاحتكام الى صراعات النفوذ المتفلتة، سقوط معالم دولة القانون لجهة استقلالية السلطة القضائية على مستوى الاداء المهني، والتبعية لمراكز القوى المتنازعة في البلاد، وتوظيف العمل القضائي بخدمة سياسات النفوذ الاوليغارشية ومصالح المافيات المتنازعة، وتوزع الأجهزة الامنية على إختلاف قطاعاتها الوظيفية، المبررة والمصطنعة، على خطوط الشرخ التي تحكم الحياة السياسية، واستباحة الخصائص السيادية العائدة للكيان الدولاتي من قبل سياسات الأمر الواقع التي تتمفصل على خط التقاطع بين المحاور الاقليمية والداخلية التي تتقاسم المسالب والمقاطعات السلطوية. هذا يعني بكلام آخر أن الدولة اللبنانية قد تحولت الى النقطة الوهمية التي تجتمع حولها جمهورية الطائف التي قامت على تثبيت واقع التشرذم السياسي والتبعية لمحاور النفوذ الإقليمية المتعاقبة (السعودية -السورية، السورية، الايرانية)، التي انتظمت على أساسها المعادلات السياسية ونظام المحاصصات بين مراكز القوى السنية والشيعية والدرزية وملحقاتها في الأوساط المسيحية.

إن النزاعات المعلنة وغير المعلنة بين مراكز القوى، وما تنطوي عليه من مقاربات غير موضوعية، وسوء نوايا، وإرادات سيطرة، ومضمرات انقلابية، ليست بأمور حادثة بل تعبيرات عن سياسات ارادية تسعى الى تبدلات تطال المرتكزات الانتروپولوجية للاجتماع السياسي اللبناني والثقافة السياسية الديموقراطية والليبرالية والتعددية الملازمة له، لحساب خيارات توتاليتارية وسياسات سيطرة ذات تصريفات سياسية ودينية-سياسية وشخصانية مبرحة في توجهاتها. إن مماحكات التأليف الوزاري هي تظهير لواقع الانشطارات المتنامية على كل الصعد، واستثمارها من قبل مراكز القوى سبيلا لتنمية نفوذها وثرواتها وتثبيت واقع الريوع والزبانيات والحيازات وتوسيع مقاطعات النفوذ، تمهيدا لاستحقاقات انقلابية لم تنضج فرص تحققها، في حين أن التجاهل الإرادي للمشاكل الحياتية المتراكمة على غير نحو (مالية، اقتصادية، اجتماعية، تربوية، بيئية…) هو جزء أساسي من سياسة الانهيارات المبرمجة من قبل سياسات السيطرة الشيعية وظلالها في الأوساط المسيحية والسنية والدرزية، والتموضع عند تخوم الصراعات الاقليمية والدولية، وانعكاساتها على التوازنات السياسية والديموغرافية في البلاد، في ظل الفراغات الإستراتيجية المتنامية إقليميا، والانخراط الطوعي في النزاعات الاقليمية السنية والشيعية على تعدد محاورها الناظمة (ايران، تركيا، السعودية وبلدان الخليج العربي). إن استعمال ملفات الفساد المالي التي تنسحب على مختلف أركان الاوليغارشيات الحاكمة كوسيلة لتصفية الحسابات وتصعيد المواجهات فيما بينها، هو أقصر الطرق من أجل إغراق هذه الملفات في وحول صراعات النفوذ، وإزاحة سبل العمل الاستقصائي والقانوني والقضائي الموضوعي.

ان الجدال التضليلي حول نطاق التحقيق الجنائي وفسحاته (المصرف المركزي، الوزارات والادارات العامة، الاداريين والسياسيين…) والأسواق السوداء (سوق الصيرفة، التهريب على أنواعه، منصات سعر صرف الدولار… ) هو عمل إرادي يهدف الى دفع واقع التعطيل قدما تمهيدا لسياسات انقلابية متداخلة. إن مسرحية المدعي العام لجبل لبنان، غادة عون، ما هي إلا صورة عما آلت إليه أحوال العدالة في لبنان لجهة التصرف بالأصول الاجرائية، واستكمال لنهج استعمل من قبل وليد جنبلاط عند خلافه مع وكيل أعماله بهيج أبو حمزة، أو تجاهل الملفات المالية العائدة لكل أجنحة الاوليغارشيات المالية-السياسية ( نبيه بري، وليد جنبلاط، سعد الحريري، نجيب الميقاتي، محمد الصفدي، جبران باسيل، ايلي الفرزلي، ميشال المر، ميشال عون … ). أما ملف التحقيق في مرفأ بيروت وما رافقه من تفخيخ لآلية الاستقصاء لناحية، استبعاد التحقيق الدولي، والتلاعب بمسرح الجريمة الواسع النطاق، ومفارقات تكليف المحققين العدليين، والاغتيالات المرافقة، وعدم الالتزام بمواعيد زمنية وما لازمه من صمت متعمد حول مآلات العمل الاستقصائي، وتجاهل آلية التحقيق لذوي الضحايا، وأبناء المناطق المتضررة، وفاعلي المجتمع المدني الذي عملوا في مجال تكوين ملفات المجزرة ومعالجة نتائجها الكارثية …،.

هذه الملاحظات السريعة ليست الا عينات عما صارت اليه التحقيقات في هذا المجال كما عبر عنها وزير الاقتصاد، راوول نعمة، (الهبل المدعي وغير اللازم، l’idiot inutile) عندما طلب من المحقق العدلي، طارق بيطار، إقفال التحقيق حول الجانب الارهابي والحربي لانفجار المرفأ من أجل فتح باب التعويضات من قبل شركات التأمين، مرتكبا بذلك خطأين كبيرين، الأول التدخل في مسار التحقيق العدلي وتوجيه أعماله الاستقصائية، وثانيًا الافصاح عن عدم اكتراث هذه الحكومة للمأساة الانسانية التي نشأت عن مجزرة المرفأ، وما استوجبته من تعاطف انساني وتقييم شامل لموجبات المداخلة بكل مكوناتها الإنسانية والقانونية واللوجستية والسياسية. يضاف الى ذلك إطفاء ملفات التحقيق في اغتيالات المصور المهني جو بجاني، والعسكريين جوزف سكاف ومنير أبو رجيلي، والتوقيفات الاستنسابية في أوساط المسؤوليين الادارييين والعسكريين في المرفأ. لقد آن أوان الاعتراف بحقيقة الأمور في بلادنا واتخاذ موقف حاسم باتجاهين: تدويل الأزمة اللبنانية كمقدمة لا مفر منها من أجل الخوض في نقاش متحرر من كل الوصايات حول سبل تسوية سياسية تؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ البلد، أو التأهب لمسار فوضوي يدخلنا في متاهات النزاعات الاقليمية المفتوحة حيث تحل الرباطات.