شارل الياس شرتوني/سياسات النفوذ الشيعية وحيثية الدولة في لبنان

131

سياسات النفوذ الشيعية وحيثية الدولة في لبنان
شارل الياس شرتوني/20 نيسان/2020

ان ابرز ما يميز الوضع السياسي الحاضر في لبنان هو الازدواجية المعلنة بين كيان الدولة اللبنانية المعنوي والدستوري، وواقع سياسات النفوذ الشيعية القابض على ناصية القرار السياسي في البلاد دون مواربة. يبدو انه على اللبنانيين التأقلم المتدرج مع إملاءات سياسة النفوذ هذه دون مساءلة حول صوابيتها وملاءمتها مع حقوقهم الدستورية، وواقع أزماتهم المعيشية المتردية على وقع الساعات والأيام. المشكلة مع حكومة حسان دياب تكمن في حيز مبادرتها الضيق والمحاصر بدفتر الشروط الذي أتى بها على قاعدة اولوية سياسات النفوذ الشيعية وارجحيتها الناظمة للقرار العام في البلاد، على خط استوائي بين متغيرات الداخل اللبناني ومصالحها الريعية والطوائفية وواقع سياسات النفوذ الإيرانية المتحرك اقليميا. المفارقة الحالية تكمن في عدم رغبة اللبنانيين الخارجين عن قواعد انتظام سياسات النفوذ الشيعية التسليم بهذا الواقع، في ظل مناخ الانهيارات العميمة التي تظلل مختلف جوانب حياتهم، بدأ بالأزمة الوبائية وانتهاء بمختلف مندرجات الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية المتضافرة. ان المناخات الضبابية المحيطة بالاداءات الحكومية والالتباسات التي تلف خياراتها السياسية العامة ليست بالأمر العارض، لانها تعكس واقع الازدواجية والإملاءات القسرية الذي تفرضه سياسات النفوذ الشيعية بشكل منهجي على مختلف الأصعدة التي نستعرضها كالتالي :

أ- ان ابرز خطأ منهجي في اداء الحكومة هو التئامها على قاعدة القواسم المشتركة بحدودها الدنيا، الأمر الذي جعلها تكوينيا غير قادرة على المؤالفة بين واقع المعارضات الإصلاحية وسياسة الوصاية، وضعيفة ومستكينة تجاه سياسات النفوذ الشيعية التي تتعاطى معها بشكل استنسابي وزجري عندما تقتضي الظروف، وأفقدها القوام المعنوي المستقل، بادئ ذي بدء، وأحالها الى وضعية دونية ملازمة. لقد خرج الانتظام السياسي في البلاد من واقع التسوية الوفاقية الى واقع الإملاء الاحادي الوقح، الذي يفصح عن إرادة تسلط وجموح يعبر عن عقد استعلائية ودونية متزاوجة ومعطوفة على مشاريع انقلابية تتجاوز التخوم الداخلية.

ب- ان الانتظام السياسي على اساس أولويات السياسات الشيعية الإقليمية التي صاغتها استراتيجية النفوذ المتحركة للنظام الإيراني، سوف يحيلنا بشكل مباشر الى الإشكالات والنزاعات الإقليمية على تنوع محاورها واقفالاتها، في وقت نحن بحاجة فيه الى توسيع دائرة تواصلاتنا الإقليمية والدولية إذا ما اردنا حلولا عملية لمشاكلنا المالية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والصحية والتربوية المميتة .

ج- لن يكون هنالك حل لأزماتنا المالية المستعصية خارجا عن اولوية استرجاع الاموال العامة المنهوبة وما تفترضه من تشريح مفصل لواقع المديونية العامة لتحديد مواطن وآليات سرقة واهدار الاموال العامة وتخمينها الكمي وتحديد المسؤوليات الجنائية العينية من قبل لجنة تحقيق مالي دولية ( Forensic Auditing ( تضاف الى سياسة إصلاح اداري تهدف الى إلغاء منهجي للسياسات الزبائنية والريعية التي تحكم الإدارات العامة التي يدير معظمها الثنائي الشيعي، وتشكل الثقل الأكبر في مجال تكون المديونية العامة، وإعادة تثمين وتكليف واسترجاع الأملاك العامة البحرية وغير البحرية، وإجراء إصلاحات بنيوية على مستوى إصلاح السياسات الضرائبية وتطبيقاتها ( المداخيل التصاعدية، وتخمين رؤوس الاموال والتركات الميراثية، واوجه الاستثمارات بتصريفاتها الرادعة والتحفيزية… )، وحماية الموارد الجمركية البرية والبحرية والجوية عبر اعادة النظر في أنظمة الجباية والمراقبة والتدقيق في المحاسبة ( التي تحكمها سياسات النفوذ الشيعية وملحقاتها )، وإعادة النظر في اكلاف وهندسة المشاريع التجهيزية في مجالات الأشغال العامة والطاقة والاتصالات والسياسات الصحية والتربوية والبيئية …،.

ان محورة سياسات الإصلاح المالي حول سياسات الهندسة المالية غير المبنية على رؤية اصلاحية اقتصادية شاملة ووفاقية تخرجنا من مطبات السياسات الريعية على قاعدة بناء الاقتصاد المعرفي والأخضر وتطبيقاتهم على مستويات السياسات الزراعية والصناعية والخدماتية، هو متابعة لسياسات الاقتطاع الريعي والممارسات الاقتصادية المنحرفة، كجزء أساسي من سياسة تحول البلاد الى قاعدة لتصريف النزاعات بمختلف مندرجاتها ومتابعة سياسة وضع اليد على مقدراتها. ان الاقتصار على سياسات ضبط المداولات المالية عبر التحكم بسقوفها بشكل استنسابي وعلى قاعدة تصريف فئوية وسياسية وطبقية، واعتماد الاقتطاعات المئوية للودائع المصرفية على أسس اعتباطية لا مسوغات مقنعة لها، ووضع اليد على النظام المصرفي خارجًا عن أية سياسة اصلاحية محض مهنية تقوم على إجماعات متقاطعة، على خط التواصل بين القطاع المصرفي، والمجتمع المدني والدولة اللبنانية. ان أية خطوة تقوم بها الحكومة خارجا عن هذه الاجماعات الاپيستمية والسياسية العامة، هو خطوة في الفراغ سوف تمعن في تعميق الديناميكيات النزاعية في بلد متهاو ولا قوام له لا فعليًا ولا قانونيا.

ان لقاء الجامعات والمؤسسات التربوية الخاصة في نقابة المحامين هو مبادرة ريادية من اجل اخراج القرار السياسي العام في البلاد من دائرة سياسات النفوذ الشيعية والاوليغارشية، وإعادتها الى حيز التداول الديموقراطي بين اقطاب المجتمع المدني بمؤسساته المهنية والاجتماعية وحراكاته الإصلاحية المتنوعة من اجل اعادة استقامة الحياة الديموقراطية، وإيجاد الحلول الفعلية للمسائل البنيوية التي تعاني منها البلاد، في ظل الانهيارات العميمة التي أدت اليها السياسات الاوليغارشية التي طبعت جمهورية الطائف على مدى ٣٠ عاما. هذه المبادرة الرائدة هي النموذج المضاد المطلوب تفعيله من اجل تحويل هذه المرحلة الصعبة الى فرصة لاجراء اصلاحات بنيوية لا خلاص للبلاد من دونها. السؤال الأول الذي يتبادر الى الذهن، هل للحكومة الجرأة والاستقلالية لملاقاة مبادرات كهذه من اجل بناء جسور التواصل والتعاون في تخريج السياسات العامة، أم انها سوف تبقى ضمن دائرة الإملاءات التي تفرضها سلطة الوصاية ؟ هذا سؤال يتطلب جوابًا.

لن تستطيع الحكومة الحاضرة إقامة شرعيتها العملية على خطوط اشتباك سياسات النزاعات المفتوحة على تنوع تصريفاتها، وجعلها نقطة التقاء يجتمع حولها اللبنانيون على اختلاف توزعاتهم. ان نجاح مهمتها مرتبط باستعادة استقلالية قرارها، ومهنية توجهاتها واجماعاتها وقدرتها على ربط نفسها بالمجتمع المدني ومفكراته الإصلاحية وحيوية حراكاته، وقدرتها على الخروج الى أفق اصلاحي صريح يعبر عنه من خلال الدفع بانتخابات نيابية مبكرة، ووضع الأسس لحوار لبناني جامع حول إصلاحات دستورية تدور حول اعادة الاعتبار للكيان الدستوري والفعلي للدولة اللبنانية، وإصلاح آليات الحكم على قاعدة الحكم المحلي وفصل الحوكمة التدبيرية عن سياسات النفوذ في البلاد، وحماية السلم الأهلي على اساس إجماعات حاسمة في مجالات السياسة الخارجية والأمن الوطني …،. ان سياسة الإملاء التي يقودها الثنائي الشيعي بإدارة حزب الله هي نزاعية بامتياز، وتفتح باب الخيارات النزاعية المفتوحة عند غير فريق في الداخل والخارج، وهنا نحن أمام مدخل جديد لا احد يملك ناصيته.