شارل الياس شرتوني/الحراك المدني، العصيان المدني وفرص التغيير

78

الحراك المدني، العصيان المدني وفرص التغيير
شارل الياس شرتوني/20 تشرين الأول/2019

نحن امام نقلة نوعية تندرج على خط استوائي مع الذي جرى قبل ١٣ عامًا، تضعنا على تماس بين الحراك المدني والحراك الاستقلالي، وتكرس الطلاق بين المجتمع المدني ومراكز النفوذ السياسية واقفالاتها في وقت تدخل فيه المنطقة ديناميكية نزاعية متجددة دفع بها الانسحاب الاميركي من شمالي-شرقي سوريا، والحرب التركية على الأكراد، والتنافس الصاخب لسياسات النفوذ التركية والروسية والايرانية. السؤال الأولي المطروح هو كيفية حماية هذا الحراك من إسقاطات النزاعات الإقليمية، وانعكاساتها المدمرة على مفكرات الاصلاح الداخلي التي لم تعد تحتمل المراوحة والمواربة والتسويف الذي ألفته الاوليغارشيات السياسية، التي تعتبر نفسها فوق المؤسسات الدستورية.

ان ابرز ما عبرت عنه هذه الحراكات المدنية ذات المنابت المتعددة لجهة التشكل الطوائفي والاجتماعي والمهني والعمري، هو رفضها الجامع والمبرح لاداء هذه الطبقة السياسية ورصيدها على مدى ثلاثين سنة انقضت على بداية جمهورية الطائف.لقد امنت هذه الطبقة السياسية استمراريتها عبر الارتباط العضوي بسياسات النفوذ الإقليمية، وتعاطت مع الشأن اللبناني كساحة نزاع بديلة ومفتوحة على مراكز القوى الإقليمية على تضارب محاورها وصراعاتها (سوريا ، العراق،السعودية، إيران، تركيا، …)، الامر الذي سمح لها بناء حصانات ومداخل نفوذ استثمرتها في تكوين ريوعها وحيازاتها، وشبكاتها الزبائنية، وشراكاتها في الداخل والخارج. هذا النسق من التبعيات الإقليمية بتخريجاته الأيديولوجية والسياسية كان بأساس هذه المناعة والنهج الاعتباطي الذي اعتمدته في إدارة البلاد، ومن خلال النهب المنهجي لمواردها، وأموال اعادة الإعمار، وآليات المديونية العامة المدمرة، وتقويض اسس الاقتصاد الانتاجي لحساب اقتصاد المقامرة، وتبييض الاموال والمضاربات المالية والعقارية وتقاسم المسالب.

لقد تكونت طبقة سياسية متماسكة في مصالحها المالية على خط تقاطع الولاءات الخارجية والشبكات الزبائنية واستخدام الولاءات الأولية ( طوائفية ومناطقية وعشائرية وعائلية… ) منطلقا لمداخلة سياسية مديدة. لأول مرة يجمع اللبنانيون على اختلاف توجهاتهم السياسية على ادانة هذه الاوليغارشيات السياسية على تنوع مشاربها، التي لم يعد يروا فيها الا مجموعة من المرابين بنوا ثروات خيالية انطلاقا من مواقعهم داخل التركيبة السياسية. في المقابل بقيت السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية والمدنية والبيئية دون الحد الأدنى من الجهوزية التي تمكنها من معالجة فعلية للمشاكل البالغة الخطورة في كل من هذه القطاعات ( الانفصام بين سياسات الهندسة المالية وتفعيل الاقتصاد الانتاجي وتحفيز الاستثمارات وإيجاد فرص العمل، وعلاقتهم البنيوية بالاستقرار السياسي وبالنظام التربوي، اعادة النظر بتقسيم العمل بين العام والخاص، على اسس تكاملية تقوم على التفاوض الدائم بين الفاعلين الاجتماعيين والمهنيين والوزارات المعنية في مجال تحديد الإشكاليات المطروحة وسبل حلها. ان القصور الفادح للتركيبة الدولاتية القائمة وخياراتها السياسية والعامة الخاطئة، وبنياتها الإدارية، وطواقمها المهنية، وفسادها العميم كفيلة بتفسير خطورة الأزمات المالية، والتربوية، والبيئية، والصحية، وازمات البطالة … ).

ان حالة العصيان المدني هي المدخل الصحيح من اجل إنهاء واقع القطيعة بين دوائر الحكم والمجتمع المدني على قاعدة التواصل التي يفترضها النظام الديموقراطي، والقيم السياسية الجامعة والمؤسسات التي تؤمن المشاركة على تنوع مندرجاتها الدستورية والادائية. لا سبيل خارجًا عن العصيان المدني لان هذه الاوليغارشيات السياسية متفقة على حد ادنى فيما بينها: تأمين ديمومتها، وصيانة مصالحها وتثبيت إقفالاتها على كل المستويات التشريعية والإجرائية. ان نجاح العصيان المدني مرتبط بتقطيع أوصال هذه الطبقة السياسية التي تسعى من خلال قدراتها الكبيرة، وتموضعاتها الإقليمية والداخلية الى تقويض الحراك والعصيان المدنيين وخنق حيويتهما، وتحويلهما الى حالات انفعالية عابرة. ان ضرورة تنظيم العمل المعارض على اساس مفكرة اصلاحية جامعة تؤطره وتجعله منطلقا لحركة سياسية مؤسسية قادرة بفعل الثبات على كسر الدفاعات القائمة، وفرض ديناميكية تشاركية على هذه الاوليغارشيات المتمرسة في الغطرسة والالتفاف ونسف السياسات الاصلاحية المضادة. هذه النقلة النوعية لن تعمر طويلًا ان لم تكن بأساس تحولات في مرتكزات الحياة السياسية والعامة، وهنا تكمن أهمية هذه الحراكات والانعطافات التي تحملها في طياتها. المواجهة قاسية وتتطلب ليس فقط نفسا طويلا بل قدرة على تطويع السياسات القائمة والدفع ببدائل لها.