الراي: الدكتور فارس سعيْد مع حلفائه وضدّ خياراتهم.. يعارض وحيداً و… سعيداً

374

الدكتور فارس سعيْد مع حلفائه وضدّ خياراتهم.. يعارض وحيداً و… سعيداً

الراي/وسام أبو حرفوش/السبت، 12 نوفمبر 2016

… في الردهة الفسيحة، غادر «الشهود» الكراسي وبقي الشهداء على الحائط. ردهةٌ خاويةٌ يضجّ فيها الصمت، وعلى الجدران فرحٌ حزينٌ يطلّ من صورٍ لرجال لم يغيّبهم الموت بل «أقصتهم اللعبة»… هكذا غالباً ما تأكل الثورة أبناءها ومن ثم تجرّ خيباتها وتصبح مجرّد «ذكرى سنوية».

إنه حال حركة «14 آذار» ومقرّ أمانتها العامة في حي الأشرفية البيروتي… الشهداء أكثر من الأحياء بعدما «انفخت الدفّ وتفرّق الثوار»… من رفيق الحريري الذي لم يذبل تفاؤله، الى محمد شطح الدائم التفكير، مروراً بكل «العلامات الفارقة» في وطنٍ فَقَدَ أجمل ما لديه.

وحده منسّق الأمانة العامة فارس سعيْد «يعتصم» في مكتبه المجاور، يستظلّ المشهد المليوني بفائض حنينٍ لـ «اللحظة العابرة» التي أزهرتْ ربيعاً لم يزهر بعدما أرهقتْه لعبة الدم وأفسدتْه لوثة الأحجام والسلطة، فسقطتْ أوراقه واستمرّت الفكرة… فكرة.

لم يترجّل الدكتور فارس، الذي يبدأ يومياته بتمرينٍ صباحي على «ركوب الخيل»، عن صهوة «14 آذار» وخطابها، الذي يكاد ان يصبح كـ «الدفاتر العتيقة» بعدما قلَب قادتها الصفحة وانخرطوا في تفاهماتٍ وتسوياتٍ أمْلتها «الواقعية السياسية».

هذه «الواقعية» التي لا يقرّ بها سعيْد هي الاسم الحركي لاختلال موازين القوى التي جعلتْ من «حزب الله» بمثابة «ناظمٍ» للحياة السياسية بعدما أمسك بـ «الإمرة الاستراتيجية». وليس أدلّ على ذلك من احتجازه مفتاح الرئاسة لنحو 30 شهراً ووضْعه الجميع أمام السؤال الصعب: ماذا عن اليوم التالي؟

فـ «الحكيم» الذي خلع «الروب الابيض» واعتزل الطب قبل أعوام للانصراف الى مشروعٍ سياسي علّه يداوي «الوطن العليل»، لم يجد في التسوية التي أتت بالعماد ميشال عون، مرشّح «حزب الله»، رئيساً إلا «رايةً بيضاء» كرّست الغلبة للسلاح غير الشرعي (الحزب) وشكّلت انصياعاً لـ «الاحتلال الإيراني».

وبدا سعيْد معارضاً وحيداً و«سعيداً» بعدما استقلّ الجميع قطار التسوية، وهو يحرص على استقلاليته كـ «حالٍ اعتراضية» من دون ان «يستقيل» من العلاقة مع حلفائه الذين يبادلونه الاحترام. فالخلاف العميق حول شروط التسوية ونتائجها لم يُفسِد تودُّد الجميع الدائم ليافطةٍ اسمها «14 آذار».

لا يضيره ان يصبح وحيداً في المعارضة ورفاقه مع الموالاة. فـ سعيْد، الذي كان كلما أطلّ على الشاشة حضرتْ «14 آذار»، لم يتردّد في القول إنه «يترك لهؤلاء مكاناً دافئاً عند عودتهم سالمين». وفي هذه الخلاصة قد يخطئ وقد يصيب لكنه هو هو.

فرغم ان رفاقه يقاتلون لحجز «حقائبهم» في حكومة العهد الجديد، لم يكلّ هو عن «الصراخ في البرية»، كأنه يخشى من نهايةِ فترة السماح باضطرابٍ يزيد من «حقائب السفر»، ولسان حاله ان هكذا تسوية لن تؤدي إلا الى هكذا نتيجة… ربما لم يرَ في الكوب نصفيْن… كلّه فارِغ.

في اعتقاد نائب جبيل السابق، الذي لم يجد في البرلمان ممراً وحيداً الى الناس والسياسة، ان العهد الجديد سيجعل لبنان مرتعاً لكلّ الذي يريدون مواجهة ايران، وربما يتحوّل اقتصاده ومصارفه «فشة خلق» بالنيابة عن «حزب الله» المطارَد بالعقوبات في أميركا والخليج، بعدما تماهتْ الدولة مع «الدويْلة».

سعيْد، ابن البيت السياسي، الذي فقد والده الطبيب يوم كان صغير السنّ ولم يعرفه إلا في حكايا الناس الطيبين، لم ينسَ انه دشّن دخوله الحياة العامة بعبوره على متن الباخرة «فوش» الآتية من باريس في العام 1989 للمشاركة بـ «ردائه الأبيض» في إنقاذ جرحى مغامرة «حزب التحرير» التي أعلنها العماد ميشال عون.

والصلابة التي غالباً ما تقترن بـ «الرجولة» لم تكن صدفة في سلوك سعيْد، لكنه اكتسبها من والدته الستّ نهاد، التي جعلها القدَر في مواجهةٍ شرسة ومديدة مع أحد رموز الموارنة الأقوياء ريمون إده يوم كانت في الـ 32 من عمرها، فلم «يغيّبها» موت زوجها، تماماً كما لم يغيّب الموت الافتراضي لـ«14 آذار» فارس سعيْد. فصحيح ان سعيْد، الذي بدا الآن وكأنه يسير «عكس السير»، ورث شعبية بيتهم السياسي لكنه بنى شخصيةً فيها الكثير من الخاصيات التي اكتسبها في مسيرته المهنية والفكرية، فهو فتح نوافذ عقله على تجارب الشرق والغرب وبنى شراكةً دائمة مع الحوار الذي صار واحداً من أربابه.

والأصحّ انه لا يمكن الحديث عن «صلة الوصل» بين أقطاب «14 آذار» في لحظاتِ تَباعُدهم، من دون إبراز الدور المحوري و«الريادي» لسعيْد، الى جانب توْأمه الآخر سمير فرنجية، في صناعة «انتفاضة الاستقلال» منذ أن أدارا «المكتب السياسي» للبطريرك «النادر» مار نصرالله بطرس صفير والمتمثّل بـ «لقاء قرنة شهوان».

بمهارةٍ وإرادةٍ وحنكةٍ نقلوا معارضة الوصاية السورية من مجرّد نقمةٍ مسيحيةٍ الى مشروعٍ استقلالي إسلامي – مسيحي عبر الشراكة مع رفيق الحريري ووليد جنبلاط، وهو المشروع الذي نجح في إخراج الجيش السوري على وهج استشهاد الحريري – الأب قبل ان تنكسر شوكة الانتفاضة وغصونها الواحد تلو الآخر.

وفي اللحظةِ التي كان البطريرك صفير يبارك الزعامات العائدة الى الساحة، كالعماد عون من المنفى والدكتور سمير جعجع من السجن، اصطحب سيّد بكركي سعيْد وفرنجية الى بهو الصرح حيث المكتبة، ونصحهما بقراءة هذا الكتاب وذاك… وكأنّ لهما حسن الاطلاع ولسواهما الاضطلاع بكتابة الفصل الجديد.

في مقرّ الأمانة العامة، يجلس سعيْد مع روادٍ دائمين وضيوفٍ، يحاور، يناقش، يستكشف، ويغضب أحياناً، لكن الأهمّ انه يجعل من السياسة فكرةً نبيلة لا وظيفة، وهو ربما يكون السياسي اللبناني الوحيد الذي «يغرّد» بأسى مع كل طلعة شمس سائلاً عن دور أطباء لبنان والعرب في إنقاذ أطفال حلب، وعن أخلاقيات المهنة والصمت المهين حتى من السوريين المتشرّدين في أصقاع عواصم القرار في العالم، والذين يديرون الظهر لوليمة الموت التي تلتهم شعبهم.