الياس الزغبي: سراب ما بعد بعد آب

148

سراب ما بعد بعد آب
الياس الزغبي/لبنان الآن/06 آب/16

لم يخب أمل اللبنانيّين بفشل طاولة “الحوار الوطني” والجالسين إليها، فما كانوا يتوقّعونه حصل، وما زرعته الطاولة حصده الناس، خيبةً وقرفاً وإدماناً لليأس. وما ترحيل الجلسة التالية إلى 5 أيلول سوى وعد إبليسي باللجان – المقابر التي لا تملك الطبقة السياسيّة غيرها كي تدفن الآمال والوعود. إنّها ذروة الخواء السياسي والوطني الذي لا يُنتج سوى دولة فاشلة وحطام وطن. ويراهن السياسيّون الخاوون والغاوون على ما بقي من غفلة اللبنانيّين وسذاجتهم وعجزهم، كي يستمرّوا في رقصهم على الحطام، وغالباً على رؤوس الثعابين. ولعلّ الخيبة الأشدّ ضربت أولئك البسطاء من أغرار الحزبيّين الذين حقنهم قادتهم بمنشّطات التفاؤل والأمل بمواعيد آب في القصور الخاوية. ولن يُعدم هؤلاء القادة وسيلة أُخرى لاحتواء الصدمة واختراع أمل جديد ومواعيد خريفيّة لاحقة، طالما أنّ مطلع أيلول بتسوية وهميّة مبلول! قد يكون الزعيم السياسي قادراً على تمديد الأمل لنفسه، فيبيت ليلته على تنظير تفاؤلي من بطانته، لكنّ الناس يبيتون لياليهم، إمّا على أمل مخدوع وإمّا على طويّة جوع. وشتّان ما بين متخَم بشهوة السلطة وجائع إلى الثقة بالحياة.

وقد يكون بين هؤلاء اللاعبين بالقدر الوطني، بعض الصادقين الأصحّاء العقول والقلوب، لكنّ أصواتهم لا تُسمع في طاحونة الطاولة الحواريّة، ولا في الحكومة الدائخة في دورانها الأبدي على نفسها، ولا في اللجان النيابيّة العالقة في أبراجها البابليّة، ولا في الأحزاب والتيّارت الغائصة في تصفياتها الداخليّة، ولا في الإدارات العائمة على الفساد وروائح الفضائح… هؤلاء الصادقون، وبينهم رئيس حزب أو أكثر، ووزير أو أكثر، ونائب أو أكثر، وقائد رأي أو أكثر، وناشط حزبي ومدني أو أكثر، ما زالوا في حلقات متباعدة، يسهل استفرادها وتشتيتها، كما حصل سابقاً في غير مناسبة وتظاهرة وحركة، وتبقى ناقصة الدور والتأثير والفاعليّة طالما هي كذلك. ولا بدّ من تبسيط المطالب والأهداف كي يمكن تحقيقها. فيجب أوّلاً الخروج من سلّة السلاطعين التي نصبها نبيه برّي للمتحاورين، وتناهشوا وتعاقصوا داخلها، وتقاذفوا محتوياتها، وأرجأوها شهراً كاملاً لالتهام بقاياها.

وقد تبيّن أنّها “مؤتمر تأسيسي” لتغيير النظام تحت تسمية مخفّفة، بعدما تأكّد الانقلابيّون من أنّ السعي إلى هذا المؤتمر دونه حواجز سياسيّة واستحالات وطنيّة وغياب رعاية إقليميّة ودوليّة. بعد ذلك، يجب الإمساك بهذه السلّة من فوق، من قبضتها، كي يمكن حملها، أي من رئاسة الجمهوريّة.

من هنا يبدأ البحث في السلّة، بدون ربط الرئاسة بأيّ مطلب أو مقايضة أو صفقة أو بازار. وحين يستوي الرئيس الجديد على سدّة الرئاسة يبدأ ملء السلال وقطف الغلال، ولا شيء آخر قبل ذلك. فمن الحكومة الجديدة وتوازناتها وحصصها، إلى قانون الانتخاب، إلى التعيينات الكبرى والموازنات، إلى معالجة الملفّات الخطيرة… كلّها تبدأ من الرأس. وعبثاً تأجيل مواعيد الحوار إذا لم يكن هناك رئيس للدولة. ولا يختلف اثنان بعد الآن على أنّ جهة بعينها ترعاها طهران ترتاح إلى لبنان بلا رأس في هذه المرحلة، كي يسهل التحكّم بأطرافه وأعضائه. فلا حاجة لإيران و”حزب الله” إلى شرعيّة لبنانيّة مكتملة، بل إلى شرعيّة شكليّة هزيلة، وصفناها مراراً ب”قشرة شرعيّة” يؤمّنها مجلسان عاجزان: مجلس الوزراء ومجلس النوّاب.

وعلى القوى الحيّة الباقية في لبنان، من سياسيّة ومدنيّة وإعلاميّة، أن تتوحّد حول هذه الأولويّة المطلقة، فلا تضيّع جهودها الآن في تفاصيل “السلّة”، ولو كان قانون الانتخاب أهمّها، لأنّ هذه الجهود ستذهب هباء كما حدث في السابق. يكفي اللبنانيّين ركضهم الخائب وراء السراب. ويكفيهم التلهّي بأذناب المشكلات بدلاً من رأسها. ولئلاّ يظلّوا لاهثين وراء سراب آب وبلل أيلول، وما بعد بعد الخريف، ويطووا فصلاً وراء فصل وموعداً بعد موعد، عليهم الإقدام والضغط لانتخاب رئيس للجمهوريّة. فلا منزل يأويهم بلا سقف، ولا وطن لهم ولا ودولة بدون رأس