الياس الزغبي: الاستقالة الكاشفة

150

الاستقالة الكاشفة
الياس الزغبي/لبنان الآن/18 حزيران/16

بعدما فتحت استقالة الوزير أشرف ريفي ثغرة في جدار الحكومة المتصدّع، سلّطت استقالة حزب “الكتائب” الضوء على عجزها وفسادها واستحالة إصلاحها. استقالتان تكشفان الواقع المخزي لحكومة، تستّر بعض وزرائها تحت حصانة شرعيّتها الدستوريّة وعدم القدرة على استبدالها في مرحلة الفراغ الرئاسي، كي يغرقوا في تبادل المنافع ومقايضة المشاريع، خارج أيّ مرجعيّة للمساءلة والمحاسبة. فلا ضوابط ولا موازين لإقرار المشاريع، بل استنسابيّة وتمرير مصالح، وانزلاق إلى مغانم السلطة، في أسوأ وضع تبلغه دولة في العالم الذي لم يرَ نموذجاً شبيهاً لها في تاريخه الحديث والمعاصر. قد لا تُحدث الاستقالات الثلاث ثورة تغيير أو انتفاضة سياسيّة أو انقلاباً في التوازنات، لكنّها بالتأكيد تُضيء على أساس المأزق، وهو خلوّ سدّة الرئاسة. فهي لهذه الجهة “قنبلة مضيئة” وليست “قنبلة صوتيّة” وفق الوصف المنقول عن الرئيس نبيه برّي. وليست بالطبع قنبلة متفجّرة تؤذي وتقتل وتدمّر. ولا يصحّ وصف “الصوتيّة” على هذه الاستقالات، بدون إصابة برّي نفسه بشظاياه، فرئاسته لطاولة الحوار الخاوية من أيّ نتيجة “حالة صوتيّة” في حدّ ذاتها، وكذلك مجلس النوّاب الأشبه بصنج يرنّ أو طبل يطنّ “غير خليق بكثرة الشحم واللحم” كما في حكايا الأطفال والحيوانات.

دولة بكاملها تحوّلت إلى مجرّد “قنابل صوتيّة”، لا وظيفة لها سوى صمّ الآذان عن عربدة الفساد والفاسدين. صحيح أنّ تعميم الفساد على جميع الوزراء مسألة متسرّعة وظالمة، ولكنّ السكوت عنه نوع من التغطية عليه، فالساكت عن الحقّ شيطان أخرس، وكثيراً ما أدّى السكوت إلى تلطيخ سمعة الساكتين.

وليس من المبالغة في شيء، تقديم شهادة حقّ هنا، لاستنكاف “القوّات اللبنانيّة” عن دخول هذه الحكومة قبل عامين ونصف، خلافاً لكلّ حلفائها في “14 آذار”. فالسياسة رؤية واستشراف قبل أيّ شيء آخر. وكان على الحلفاء أن يستشرفوا المأزق الذي تؤدّي إليه حكومة مركّبة على أساس غير ثابت ومستقرّ.

فهكذا أسس مرتجّة ومستجمَعة على تناقضات وصراعات تؤدّي إلى هكذا حالة مزرية، وإلى اليأس الموصل حتماً إلى الخروج والاستقالة. سنتان من العجز والفشل والفساد، كان في الإمكان تفاديهما، لو حصل تبصّر قبل الاتيان ب”حكومة ربط النزاع” التي اتخّذت لنفسها اسماً فضفاضاً على غير مسمّى: “المصلحة الوطنيّة”. وبمقدار ما كشفت استقالة ريفي الخلل في التزام مبادىء “14 آذار” والتهاون في أسس انتفاضة الاستقلال، من العدالة إلى السلاح غير الشرعي إلى انتظام المؤسّسات، تكشف استقالة “الكتائب” زيف الشعار المرفوع عن “حقوق المسيحيّين” وتمثيل مصالحهم في الحكومة، كما تضع الاصبع على الجرح النازف: شغور كرسيّ الرئاسة الأُولى، والتصويب على المعطِّل الحقيقي. وقد بات أحد الدوافع الأساسيّة للاستقالة واضحاً وثابتاً: المساومة والمقايضة داخل الحكومة بين مشروعَي النفايات وسدّ جنّه، على طريقة أعطني هنا أَعطِكَ هناك، و”خير هذا بشرّ ذا، فإذا الله قد عفا”!

والمضحك المبكي أنّ شعار “الاصلاح والتغيير” غطس في لعبة السلطة والمال واستطيبها، وسقط في نسيان التلويح الدائم والمزمن بالويل والثبور، وتسوناميّات شارعيّة، والتهديد بالخروج من الحكومة، والاستقالة لأسباب أقلّ وأتفه من قضايا بحجم الفساد المعمّم، وفضيحة استباحة ساحل المتن وخليج مار جرجس لنفايات الصفقات، وحلّ مشكلات الأخرين لمصلحة المحاصصين. قد يقول قائل إنّ الاستقالات فقاقيع إعلاميّة شعبويّة هدفها الحكّ على حساسيّات الرأي العام لخطب ودّه، فلا طائل منها ولا أيّ أثر لها. لكنّ المسألة أبعد وأشدّ خطورة. فما لا تستطيع استقالات سياسيّة أن تفعله في حال الشلل الكبير، يستطيع تحريك العدالة مع الحراك الشعبي والمدني أن يفعله، ولا يستطيع سدّ أو جبل نفايات الوقوف في وجهه. وليس فشل الحراكات السابقة مقياساً ثابتاً ينام أهل السلطة على حريره.كما أنّ رسائل الصناديق البلديّة لم تكن غباراً في الريح. من الجنوب والبقاع إلى الجبل وبيروت فالشمال، تتجمّع سحابة صيف غير عابرة.  والعجز ليس قدر لبنان واللبنانيّين.