عبدو شامي: بلديات 2016 بين علم نفس الإنسان وعلم سلوك الحيوان

931

بلديات 2016 بين علم نفس الإنسان وعلم سلوك الحيوان
عبدو شامي
30 أيار/16

شهد أيار 2016 عودة الديمقراطية المقنّعة الى لبنان المحتل حيث توافقت الأحزاب الممدِّدة لنفسها نيابيًا على إجراء الانتخابات البلدية والاختيارية فحوّلتها سياسية بامتياز، وأرادتها اختبارًا لشعبيتها وتحالفاتها الجديدة تمهيدًا للانتخابات النيابية خصوصًا بعد انتحار 14آذار باستسلام أهم مكوّناتها للحزب الإرهابي سواء بدعمها مرشّحَيه لرئاسة الجمهورية، أم بالتحالف مع حليفه الذي يعني التحالف معه بالنتيجة.

مفاجأة البلديات كانت طرابلس التي أطاحت بتحالف الحريري-ميقاتي وسائر الأحزاب معلنة الوزير أشرف ريفي زعيمًا للمدينة، وباستثناء هذه الإنجاز الباهر مضافا إليها طرد الحريرية من سير-الضنية وتمرّد بعض المدن المشرّف على المهَيمنين عليها وإن لم يكفِ لإيصال مرشّحيها… بقيت النتيجة العامة -لا سيما في العاصمة بيروت- إعادة إنتاج الشعب لوائح الطبقة السياسية نفسها التي خذلته الى حد الخيانة! وفيما يلي تحليل لهذه الظاهرة عبر حوار مفترض مع الفيلسوف وعالم النفس الفرنسي “غوستاف لو بون” (1841-1931) الذي يردُّ على أسئلتنا بأجوبة حقيقية مقتبسة ومترجمة من كتابه المرجع “علم نفس الجماهير” الصادر عام 1895.

-نرحّب بك أستاذ “لو بون” ونبدأ حوارنا بالسؤال التالي: كيف تفسّر انتخاب معظم الشعب بمثقيفه وبسطائه وأغنيائه وفقرائه لوائح معيّنة بكاملها “زي ما هي” عملا بتوجيهات زعيم جماعتهم وهم يعلمون أنه شكّلها كي يمنحها غطاءه فتكون فوق المحاسبة وتخدم مصالحه الخاصة، علمًا أن معظم هؤلاء الناخبين يجهلون أعضاء اللائحة التي اقترعوا لها، بل منهم من يعلم أن في اللائحة مَن يناقضهم في السياسة ومن هو حاقد عليهم ومعروف بعدم الكفاءة والنزاهة في مجال عمله العام والخاص؟
-“في الروح الجمعية تنمحي أهليات الأفراد العقلية وشخصيتهم من حيث النتيجة، ويغرق المتباين في المتجانس وتسيطر الصفات اللاشعورية(…)؛ وهنالك مشاهدات دقيقة تثبت كما يظهر أن الشخص إذا ما انغمس مُدة في جماعة فاعلة لا يلبث أن يقع في حال خاصة كثيرة القُرب من حال سِحر المنوَّم بين يدَي منوِّمه، (…) والذات الشاعرة حين تغيب تبطُل الإرادة ويزول التمييز وتتوجه المشاعر والأفكار إذ ذاك الى الهدف الذي عيّنه المنوِّم. تلك هي حال الفرد في الجماعة تقريبا”.

-أستاذ “غوستاف” كلامك عن انمِحاء أهليات الأفراد العقلية وزوال التمييز يرُدّنا الى رداءة خطابات بعض الزعماء الانتخابية، لكثرة ما تحويه من سُخف واستغباء وقلب للحقائق لدرجة تثير العجب من تأثُّر كثيرين بها وتفاعلهم معها وتأييدهم لائحة مُطلِقِها على حساب لائحة منافسة غير نافذة سياسيًا وماليًا وإعلاميًا غير أنها احترمت الشعب فخاطبته بالعقل والعلم والمنطق والحجة والبرهان! ما قولكم في هذه المفارقة؟
-“نعم، إن ضعف بعض الخطب التي مارست تأثيرا عظيما في سامعيها يثير الحيرة أحيانا عند قراءتها، ولكنه يغيب عن البال أن تلك الخطب وُضعت لقيادة الجماعات لا ليطالعها الفلاسفة، والخطيب إذا ما كان وثيق الاتصال بالجماعة عَلِمَ كيف يُحضِر من الصور ما يَفتِنها به، وهو إذا ما وُفِّق لذلك بلغ غايته، ولا يَعدِل مجلّدا من الخطب بضعُ جُمَل تُغوي ما يجب إقناعه من النفوس(…). ونجاح الخطبة في البرلمان رهين بنفوذ الخطيب وحده تقريبا لا بالأدلة التي يُدلي بها. ولا حظّ للخطيب المجهول الذي يأتي بخطبة مملوءة بالبراهين فقط في أن يُصغى إليه على الأقل”.

-أشرتم الى استحضار صور وجُمل بقصد الإفتان، هذا ما فعله الإعلام الموجَّه الذي ضخّ دعوات مكثفة للاقتراع “وفاء للرئيس الشهيد” مثلا فاستحضره بقصد البَصم لسياسة وريثه المدمِّرة. أو”وفاء للمقاومة” أي لهيمنة الإرهاب… أوهام يدحضها الواقع، فكيف أغوَت معظم الناخبين؟
-“مما يروى في الغالب قصة ذلك المسرح الشعبي الدراماتيكي الذي كان يضطر الى حماية الممثِّل الذي مثّل دور الخائن عند خروجه من المسرح إنقاذًا له من عُنف الحضور الذين أغضبتهم جرائمه الخيالية، وهذا أوضح الأدلة على حال الجماعات النفسية على ما أرى، ولا سيما السهولة التي تُلقَّن بها، فللوهمي من الأهمية ما للحقيقي تقريبا، والجماعات تميل ميلا واضحا الى عدم التفريق بينهما. (…) وكذلك أقطاب السياسة في جميع الأجيال والبلدان، حتى أشدهم استبدادا، دعامة سلطانهم في الخيال الشعبي، وهم لم يحاولوا الحكم بغيره قط”.

أشكركَ أستاذ “لو بون” على تحليلك القيِّم وأختم حوارنا بما كتبه الصحافي الناقد “أوكتاف ميربو” في صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية عام1888 تحت عنوان “إضراب الناخبين”: “الخراف تذهب الى المسلخ. لا تقول شيئا، ولا تأمل بشيء. غير أنها على الأقل لا تصوِّت للجزّار الذي سيقتلها ولا للبورجوازي الذي سيأكلها. أشدُّ بهِيميّة من البهائم، أكثر غنَميّة من الغنم، الناخب يسمّي جزّاره ويختار آكِلَه. لقد قام بالثورات لانتزاع هذا الحق”! فكلُّ التقدير للذين عبّروا عن إنسانيّتهم فصوّتوا لإنماء مدنهم لا لإنماء نفوذ مَن طَعَنَهم، وريثما تقرّر الأكثرية الصامتة التذمُّر في الصناديق بدلا من اللّتْلَتة في الصالونات، تصبحون على وطن لا قطعان فيه ولا مَن هم أضَلُّ من الغنم.