سمير عطاالله: ازدراء الاجماع القومي يزعزع الوحدة الوطنية/زيد الجلوي: لماذا لبنان الآن/عبد الوهاب بدرخان: أي مساعدة إيرانية يصعب صرفها

258

ازدراء الاجماع القومي يزعزع الوحدة الوطنية
سمير عطاالله/النهار/2 آذار 2016

سنة كاملة على ظهور دونالد ترامب مرشحاً للرئاسة الاميركية. منتصف السنة، في حزيران الماضي، كتب مراسلنا في واشنطن هشام ملحم أن هذا “المهرج النرجسي” لن يصل إلى المرحلة النهائية في السباق الجمهوري. مؤسف أن يستخدم صحافي بمعرفته ادوات الجزم. يومها كتبتُ أعاتبه، أن المسألة ليست ترامب. إنها اللاهثون خلفه. وعلى ذلك، بنيتُ على أنه باقٍ في السباق، وربما، باقٍ إلى ما معاذ الله. ليس ترامب أول “مهرج نرجسي” يجر خلفه الجماهير في الازمنة المريضة. صحيح أنها ظواهر لا تدوم طويلاً، ولكن مهما قصرت المدة، يكون الضرر قد وقع. أو الكارثة. الضرر كما حدث لفرنسا مع بيار بوجاد في الخمسينات، إذ تحولت “البوجادية” إلى مصطلح لغوي لوصف الخداع والنفاق والوصولية، أو الكارثة، كما وقع لإيطاليا عندما انجرفت خلف الفاشيين ومهرجهم الثقيل الظل. ما بين زحف الجماهير خلف موسوليني وزحفهم عليه وشنقه، كانت ايطاليا قد تحولت من مهد روما ومجدها، إلى مريض أوروبا.
ماذا يبيع ترامب الأميركي الخائف من هجرة المكسيكيين، ومن تكرار ضرب البرج التجاري، ومن خمول أميركا الاوبامية؟ يبيعه سلّة فيها كل شيء: جدار يمنع دخول المكسيكيين، وجدار يمنع دخول المسلمين. وضربة فورية سريعة على نافوخ داعش. على اونا – على دويه – على تريه. لا يتوقف عند اي سؤال اخلاقي. ولا عند أي قيمة إنسانية. إنه الشخص الذي صوَّره النمسوي روبرت موزيل في “رجل بلا خصائل”: بلا ميزات. بلا فضائل. والذي ليس له إلا نفسه. وما هوت.
لا يتوقف ترامب عند شيء في هذا اللهيب العالمي. لذلك، خرج البابا فرنسيس عن ألفي عام من تقاليد الفاتيكان لكي يقول أن طروحات ترامب لا تمثل المسيحية. ويعرب كثير من رجال النخبة في اوروبا واميركا عن خجلهم بمثل هذا الابتذال المهين للقيم، لكن البائع نفسه يمضي من انتصار إلى انتصار. وكما يقول الجمهوري الآخر جون ماكين “الشهية تزداد اثناء تناول الطعام”. يريد ترامب شيئاً واحداً: البيت الأبيض. الوسائل غير مهمة. وفي أي حال هذا هو. إنه لا ينتحل صفة ولا يمثل دوراً. هذا هو. وهذه طباعه. وهذه قدراته وطاقاته ومدى ثقافته. المفاجأة الوحيدة هي في الذين خلفه.
كان تاليران ظاهرة ثنائية العبقرية والشر في تاريخ فرنسا. انتقل من منصب إلى منصب، ومن وصيفة إلى وصيفة، ومن ثروة إلى افلاس. وبينما كان بونابرت عقل فرنسا العسكري، كان هو عقل بونابرت الديبلوماسي. وأي عقل. تصور ذلك الزمن الذي التقى فيه مترنيخ وتاليران في حقبة واحدة ومدينة واحدة.
لكن تاليران، المفرط بلا رادع، اكتشف بعد سبع سنوات من خدمة الضابط الذي اعلن نفسه امبراطوراً، أن نابوليون لن يتوقف في مكان. تحولت انتصاراته هزائم، ولم يتوقف. أعطى فرنسا المجد، ثم أغرقها في الجنون. عندها رأى أن الحل الوحيد في سبيل فرنسا هو التآمر على الامبراطور قائلاً له “لا أستطيع أن اكون معك ومع فرنسا في وقت واحد”. تأتي ساعة يستحق فيها الخيار بين الوطن والرجل. بين العقل والانفلات. بين أن يكون رئيسك دونالد ترامب، أو لنكولن، أو روزفلت. أو ولسون.
الصورة المنشورة مع حملة “النهار”، “حرر فكرك”، دلالة حزينة على جوهر القضية. المسألة هي الأغنام. والمثل الانكليزي الجارح يقول إن الطرق إلى المدافن مليئة بذوي النيات الحسنة. حاول تاليران – والآخرون – ثني نابوليون عن الهجوم على روسيا. أراد موسكو، مقرها الديني، من اجل اذلال روحها. وفي النهاية، قال له القيصر الكسندر: تعال. أنا ذاهب إلى كامشاتكا، وسوف أترك الثلج والشتاء يقاتلانك. ثم احرق موسكو في وجهه. وجوَّع رجاله. وشتت قواته. ولكن في باريس نفسها، المسألة لم تنته. الامبراطور يعد لحرب اخرى. فقدَ توازنه منذ أن فقد عقله الديبلوماسي. اصمّ صوت المدفع اذنيه عن كل وعي، واصمّه صوت ذاته عن شعبه ووطنه. وسلّمه داهية فرنسا للغرور يتكفله كما يفعل بجميع مصابيه. الدول الصغيرة ليست في حاجة إلى تاليران لأن مشاكلها في الداخل، لا في الخارج، وقضاياها ليست في الاعتداء على كرامة الغير، بل في حفظ كرامتها. وهذا يتطلب تبصراً وتواضعاً في معرفة وقائع الحياة وحقائق الأوضاع. لذلك، ضمن فؤاد بطرس سياسة خارجية متزنة ورصينة، ووطنية مستقلة، يوم لبنان أسير الزواريب والأزقة والمتاريس. وفي ذروة التجاذبات العربية، ابحر فيليب تقلا بالميزان اللبناني بكل روية وهدوء وتواضع ونزاهة واكابرية. ويوم انشطر لبنان حكومتين، حرص رشيد كرامي على أدق التفاصيل من أجل حماية الدولة، التي كان أحد رجالها وحراسها واخلاقييها. وفي زمن المتاهة التي لا نهاية لها، كان جان عبيد يُستقبل في المؤتمرات على انه “وزير خارجية العرب”. وبالاجماع. ولم نسمع يوماً أن شرط الوحدة الوطنية هوالوقوف ضد الاجماع القومي. السياسة الخارجية، أي خلاصة أمن الدولة وحماية الوحدة، في حاجة إلى حكمة، لا إلى فذلكة وتشاطر لفظي لا يغير شيئاً في الانعكاسات والتأثيرات. سوف أكرر هنا بسبب المناسبة، ما كتبته نقلاً عن الوزير سورين خان أميريان، الذي ارسله فؤاد شهاب إلى واشنطن لشراء طائرات عسكرية بديلاً للسلاح الجوي المنتهي. وفي وزارة الدفاع الاميركية، قيل للوزير إنه وصل في لحظة سعيدة. فهناك نوع من الطائرات المقاتلة الذي لم يعد صالحاً لدولة مثل الولايات المتحدة، لكنه مثالي لدولة مثل لبنان.
الثمن؟ قيل للوزير، سوف نبيعكم الطائرة بدولار واحد، شرط أن تقطعوا العلاقات مع كوبا. ولم يصدق خان أميريان العرض، فحمله وقفل عائداً ليبلغ فؤاد شهاب. اصغى الرئيس قليلاً، ثم طلب من مساعده أحمد الحاج، أن يستفسر من وزارة الخارجية عن عدد المغتربين اللبنانيين في كوبا، الذين يمكن أن يتضرروا مباشرة من قرار القطع. 300 عائلة، جاء الجواب. التفت شهاب إلى خان أميريان وقال له: لا يمكنني أن أضحي بمصالح 300 مغترب من اجل أن اوفر على الدولة أي مبلغ. فابحث لنا عن مصدر آخر! هناك 300 الف لبناني في السعودية، و 200 الف في الخليج، تحوّلوا موضع حرب داخلية، لأن وزير الخارجية قرر أن يكون اكثر ذكاء من مجموع العرب والمسلمين. كوزير ينأى بنفسه عن دعم المعاهدات والمواثيق الدولية، وكشخص يبعث برسالة يستنكر فيها الاعتداء على البعثات الديبلوماسية السعودية في ايران. تاليران كان يفعل ذلك أيضاً. يبلغ امبراطور النمسا بغرور نابوليون، وفي التويلري يعلن تأييد سيده.
لم تدم الازدواجية طويلاً. وما تعرضه ايران من تعويض لما حصل، لا يليق اطلاقاً بالمقيم في قصر بسترس: فأي تعويض لأكبر واقدم واوسع شركة تجارية واقتصادية وسياحية وسياسية واغترابية؟ عندما قال باسيل إنه اتخذ موقفه متخيراً بين الاجماع العربي والوحدة الوطنية، نسي، كعادته، أن الوحدة الوطنية مؤلفة من اكثر من شريك، وأن فريقاً واحداً لا يشكل وحدة وطنية، كما نسي أن الاجماع العربي لا يقايض. بكل حكمة، حوَّل الوقوف ضد الاجماع العربي إلى اكبر هزة للوحدة الوطنية منذ الحرب. وفي الكوارث الوطنية، لا يتجاوز مفعول الفذلكة نهاية الجملة. وخصوصاً في مثل هذه الركاكة.

لماذا لبنان الآن؟
زيد الجلوي/السياسة/02 آذار/16
لا يمكن أن تتسارع الإجراءات الخليجية فجأة في مواجهة الجمهورية اللبنانية، لمن يعرف السياسة الخارجية الخليجية جيدا. حتما هناك محاولات جرت مع الأشقاء اللبنانيين، لإتخاذ موقف أكثر إتزانا من موقفها، الذي لا يتناسب مع متطلبات المرحلة التي تمر بها المنطقة. فبعد استشهاد رفيق الحريري تمكن اللبنانيون من إجلاء القوات السورية، لكنهم لم يتمكنو من إزاحة شبيه “جيش لبنان الجنوبي”، أو “لحد إيران” في لبنان حسن نصرالله. أو أنهم تريثوا لعله يغير أجندته لصالح لبنان، لكنها معالجة عبثية مع فصيل خائن، لا تختلف بنية تفكيره عن بنية العقل “الإخوانجي”. المكفر للأوطان والحدود وكل تنظيمات واقعية، تتعارض مع تنظيماتهم الطوباوية المثالية. إذن يمتلك اللبنانيون القدرة على اتخاذ موقف تجاه “جيش إيران” في لبنان، وهو الذي أرهقته مدن وقرى وغابات سورية، ولم يعد قادرا على القتال في أكثر من جبهة. لكن اللبنانيين لم يتخذوا موقفا إيجابيا، لأن معرفتنا، كخليجيين، بسياستنا الخارجية، ندرك أن هناك محاولات سرية قد جرت مع القيادات اللبنانية لاتخاذ موقف عربي جاهز للاشتباك مع التيارات الموالية لإيران، متى ما أندلعت الحرب، التي أعلن عنها، وتنتظر التحضير العسكري لها. لم يعد للتروي حيزا كبيرا، فهناك حزم بمعالجة التمدد الإيراني، فلا نظن بأن الخامنئي قادر على التخلص من الحرس الثوري، الموكل إليه تصدير الثورة، وهو المشروع الثوري الذي تخلت عنه طهران، لذلك كان على العرب تحرير أنفسهم منه، بمباركة إيرانية على ما نخمن، وفقا للدلائل المتجمعة من جملة المواجهات الدائرة في البلدان العربية. وإن إيقاف المساعدات عن لبنان، ومنع السفر إليه، أو التحذير من السفر إليه، ودعوة ونصح الخليجيين بمغادرته. كلها لحث لبنان على اتخاذ موقف، أن تكون حدوده ملتهبة، مع “جيش لبنان الجنوبي” الإيراني، وأن يساعدوا في عملية تحريرهم، من احتلال الحرس الثوري وميليشياته. أسوة بالسعودية وتركيا والأردن، لا مجال للاستثناء معتقدين أن لبنان لن يتأخر عن الاشتراك في معركة التحرير، للقضاء على مشروع تصدير الثورة، الذي سيشارك فيه على ما نخمن، حتى الحكومة الإيرانية الإصلاحية حسب طريقتها، وفقا لظروفها، والتزامها بالتخلي عن مشروعه النووي، وعدم التدخل بشؤون غيرها، وهو ما يعني ضمنيا، تخليها عن مشروعها المصدر للثورة. واعتقادنا بإلحاق لبنان بالركب العربي، مبني على حالة الغضب التي إنتابته، بسبب سياسات “جيش لبنان الجنوبي” العميل لإيران، وتعطيله لشؤون الدولة من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة، فالأشقاء اللبنانيون كأنهم من كانوا ينتظرون من العرب، إعلان الحرب لحاجتهم لها، وكأنهم يقولون لقد تأخرتم ياعرب كثيرا، لأن مسألة مواجهة تدخلات “جيش إيران الجنوبي”، لم يعد السكوت عنها، أمرا مقبولا.

أي “مساعدة” إيرانية يصعب صرفها
عبد الوهاب بدرخان/النهار/2 آذار 2016
لا يمكن الجيش اللبناني أن يتسلّح سرّاً وبالتهريب، كما يفعل “حزب الله”، إلا في حال واحدة وهي أن يتحوّل علناً و”رسمياً” الى ميليشيا رديفة لذلك “الحزب”، وربما يعلن عندئذ أنه لم يعد في كنف الحكومة ولا يحتاج الى مساعدات عربية أو أجنبية، ما دامت ايران تعرض الآن ضعفي المساعدة السعودية المعلّقة، أي ستة بدلاً من ثلاثة مليارات دولار، شاملة كل الأسلحة التي كان يتوقعها من فرنسا بل أكثر تطوّراً. وقد يستتبع حال “انشقاق” الجيش هذه انكشاف حالات الانشقاق الفعلية لأطراف سياسية يجلس ممثلوها الى طاولة مجلس الوزراء، عندما يُسمح له بالانعقاد، ما دامت “المساعدة” الايرانية المطروحة يمكن أن تُرفع لمواجهة أي اضطراب مالي وسدّ أي عجز، وكذلك لتغطية أي نفقات بما في ذلك معالجة قضية النفايات.ليس هذا من باب قبيل التخيّلات، وسواء كانت ايران قادرة على الدفع أم لا فإنها تعرض “المساعدة”، استجابةً لمنطق المواجهة مع السعودية ودول الخليج. فالترجمة الفارسية قدّمت القرارات السعودية باعتبارها تحدياً يقول لإيران إن وضع يدها على لبنان من خلال “حزب الله” دونه أعباء، وما عليها سوى أن تتحملها. واستناداً الى ردود فعل “الحزب”، كما عبّر عنها نعيم قاسم، فإن ايران تتصرّف كأنها تلقت “هدية” سعودية لم تتوقعها ولم تسعَ اليها، لأن ما تريده كان في متناولها، وليس لدولة مارقة مثلها أن تخجل من القول بأن أتباعها “يصادرون” الدولة في لبنان، بل تعتبره اعترافاً يشرّع الأمر الواقع. يُفترض أن يدرك “حزب الله”، حتى لو لم تدرك ايران، أن أي فئة لا يمكنها بل ليست لها مصلحة في أن تصادر الدولة، يتساوى في ذلك أن تكون مسلّحة أو لا. ومهما كانت “المصادرة” مريحة ومؤاتية لـ “الحزب” أو لجمهوره أو لولائه لإيران، فإنه سيبقى في مواجهة مجتمع يرفض تسلّطه ومشروعه المذهبي من دون أن يكون منحازاً لأي مشروع آخر مشابه. ولا شيء يدعو “الحزب” للانتفاخ والمفاخرة اذ يبدو اليوم أنه يقود البلد الى المجهول ويريد عزله عن محيطه العربي.
كان لبنان توصّل الى “صيغة” حضارية قوامها التعايش وقبول الآخر. هذه الصيغة انتُهكت أكثر من مرة ولم يتبلور أي بديل أفضل منها. فالروح الحضارية التي امتاز بها ميثاقيّو 1943 لحماية الاستقلال بتحصين التعايش، واجتهد ميثاقيّو “الطائف” للحفاظ على جوهرها، هذه الروح لا تنفكّ تضمحلّ أمام ارهاب السلاح وما يضخّه من همجية. فمعادلة السلاح غير الشرعي مقابل مجتمع أعزل لا يمكن أن تستقيم ولا يمكن أن تُخضع المجتمع بالارهاب مهما خدمتها الظروف. ولعل الفشل الأكبر لـ “حزب الله” يكمن تحديداً في ما يظنّه انتصاره الأكبر: فالمجتمع يزداد اقتناعاً بأن لا خلاص من شرّ هذا “الشريك” الداخلي إلا بكسره عسكرياً.