الياس الزغبي/خارج القمقم والقمامة

293

خارج القمقم والقمامة
الياس الزغبي/لبنان الآن/02 آب/15

هذا السبعيني الذي صقلته التجارب وأنضجته المحن والشهادات، يجدّد اليوم شبابه وكأنّه يولد للمرّة الأولى على يد مؤسِّسه فؤاد شهاب. الجيش اللبناني الذي طالما جعلوه مطيّة إلى كراسيهم، ولا يزالون يحاولون، بات خارج ذلك القمقم السياسي وفوق تلك القمامات المنتشرة في حسابات المصالح والمطامح والفجع إلى السلطة. حتّى في عيده، يريدون حرمانه من حقوقه، ومن بعض الوفاء لتضحياته: يستمرّون في تغييب رئيس للجمهوريّة يقلّد ضبّاطه سيوفهم، ويمتنعون عن توقيع ترقياتهم، ويُمعنون في التجريح بقيادته، ويسعون إلى جعله شرّابة خرجهم المسلّح. ليس صدفة أن يتواطأ طرفا “تفاهم 6 شباط”، السيّء الذكر، وحدهما على الجيش. فهذا التواطؤ بدأ على دم النقيب سامر حنّا، وهو مستمرّ على دماء كلّ شهيد من الجيش لا يسقط في الطريق إلى مشروعهما “الممانع”. فمن يسقط لمصلحتهما هو شهيد، وخارجها هو قتيل. ولا يُخفيان استياءهما من عدم انزلاق الجيش إلى الورطة السوريّة، ومن حكمة قيادته وحزمها في جبهات مرتفعات عرسال والقاع ورأس بعلبك، وفي الجبهة الداخليّة بتصدّيه لرعونة تعرّضهما للمؤسّسات عبر التحريك الشعبوي السابق واللاحق. في الواقع، لقد كشف هذا الحلف الثنائي عن وجهه الحقيقي. لا يريد الجيش إلاّ في وظيفتين: أن يتحوّل إلى فرقة في فيلق المشروع الإيراني و”سراياه”، وأن يكون سُلّماً إلى السلطة سواء في التعيينات أو انتخابات الرئاسة. تبادل مصالح معروف ومكشوف، ومخطّط انقلابي موصوف. ولم يكن من المبالغة في شيء أن نتحدّث في المقال السابق عن المحاولة الرابعة للانقلاب، وهي الآن في ذروة حركتها بدافع التوهّم أنّ يد إيران أصبحت طليقة ونفوذها إلى توسّع بعد “الاتفاق النووي”. وبالتأكيد، سيكون مصير الرابعة مثل زميلاتها الثلاث، والأرجح أن تكون الأخيرة. ولا يتردّد هذا الثنائي، وهو في الحقيقة فرديّ أحادي على طريقة تابع ومتبوع، في توظيف أيّ خلل أو ضعف أو تراخٍ أو تردّد في آلة الدولة، كي ينفذ إلى غايته. وهو في الأساس وراء الخلل. وآخر النماذج مسألة النفايات، في تطييفها ومذهبتها وفدرلتها والنبش في سمومها السياسيّة والأخلاقيّة والبيئيّة وتعميمها، كي يتسمّم كلّ شيء. ولا يرعوي عن ركوب الأكوام المكدّسة في الشوارع وتسلّقها  لبلوغ غاية ما أو كرسي ما، على معادلة: أعطونا في التعيينات والرئاسات لنعطيكم في النفايات! ففي قاموسهم الرئاسة والقيادة والقمامة سواء، وهكذا تكون “الشراكة” و”آليّة عمل الحكومة”، أو لا تكونان! لكنّ الجيش بات في مكان آخر خارج حسابات قماماتهم. فهو يربط الآن، وأكثر من أيّ يوم مضى، مع فكرة تأسيسه ومعناه اللبناني الحرّ من أي قيد إقليمي أو ارتباط بمحور. لم يكن ولن يكون فرقة في فيالق “الممانعة”، بل كان وسيكون حارساً لمعنى لبنان كوطن رسالة وعيش مشترك، ودولة عربيّة ذات سيادة، بعلاقات مفتوحة وحرّة مع الغرب. هي العقيدة القديمة والمتجدّدة للجيش، احتفظ ويحتفظ بها برغم ربع قرن من محاولات خطيرة لتشويهها واستبدالها بعقيدة الأنظمة المغلقة. لذلك، يبتعد الجيش في ذكرى تأسيسه السبعين، عن تصنيفه وتسييسه وتسييله داخل مثلّث الموت بين طهران ودمشق والضاحية. وينتصر بهدوء “الصامت الأكبر”، رابحاً نفسه واللبنانيّين والعالم معاً. وإذا كان هناك من فسحة ضوء في عتمة النفايات السياسيّة، فهي في هذا الأداء الراقي والواعي والمترفّع الذي يقدّمه الجيش هديّة للبنانيّين في عيده. ولعلّ أهمّ هديّة يقدّمها اللبنانيّون للجيش في المقابل، هي هذه الثقة المتجدّدة والصادقة التي طالما نجحت الوصاية السوريّة في ضربها سابقاً، ونجح ورثتها في ضربها لاحقاً. شرائح لبنانيّة واسعة ومن كلّ الطوائف، تمّ إبعادها طويلاً عن الجيش، أو إبعاده عنها، تعود الآن إليه ويعود إليها، بعد سقوط قناع الاحتضان السياسي الذي احتكر المؤسّسة العسكريّة وعانقها حتّى كاد يخنقها. تحيّة صادقة للجيش في عيده، فارساً نبيلاً على صهوة الشرف والتضحية والوفاء. ومرحى بالمتمرّد على زمن القمقم والقمامة.