الـيـاس الزغـبـي/بين خسارتَيْن

235

بين خسارتَيْن
الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن/30 أيار/15

لطالما ردّد ميشال عون أنّه قال لسمير جعجع سنة 1990، مع إطلاقه “حرب الإلغاء” آنذاك: “إذا خسرت أمامي ستخسر، وإذا ربحت ستخسر!”. ولم يكن يدرك أنّ هذه المعادلة تنطبق عليه قبل سواه، بل تنطبق على اللبنانيّين عموماً والمسيحيّين خصوصاً. وهذا ما حصل لهم منذ ربع قرن، وليس هناك من معنى للمزايدة اليوم ورفع عقيرته في إرجاع حقوق المسيحيّين بعدما سفحتها حرباه المتتاليتان. مناسبة هذا التذكير بالمعادلة ليست لفتح الجروح والقبور، وهي الصفة المعروفة عن أهل النكء والنبش، بل للفت نظر قائلها إلى ضرورة توجيهها نحو “حليفه” أو “مرجعه” الغائص في حروبه الضريرة خارج الحدود اللبنانيّة. إنّ “حزب الله” هو الآن في أمسّ الحاجة إلى هذه النصيحة من ميشال عون، بدلاً من الشدّ الدائم على يده للولوج أكثر فأكثر في الدماء السوريّة واللبنانيّة، وأيضاً العراقيّة واليمنيّة و”حيث يجب أن يكون”.

ما ينطبق على حروب عون في الـ 1989 و1990، ينطبق تماماً على حروب “حزب الله” اليوم، ففيها الكثير من الهوس والمغامرة، وفيها معادلة الخسارتين التي تباهى الأوّل بها. ففي حال ربح “حزب الله” معركة القلمون، وما يخطّط لجرود عرسال، وعرسال نفسها، سيكون ربحه، أو “انتصاره”، محكوماً بمجمل نتائج الحرب في سوريا، وهي نتائج بدأت تميل بشكل حاسم لمصلحة معارضي النظام، بعد تساقط مواقعه وحصونه الواحد تلو الآخر، وآخر الحصون أريحا ومحيطها. وإذا سلّمنا افتراضاً أنّ “حزب الله” سينجح في ربط جرود عرسال بالقلمون امتداداً إلى دمشق من جهة، وحمص عبر القصير من جهة أُخرى، فإنّ هذا الربط لن يكون ثابتاً ومستقرّاً طالما أنّ رقعة سيطرة النظام تنحسر تباعاً، وبات سقوطه رهن ترتيبات الحالة البديلة التي يريدها العالم، بما فيه روسيّا المتحدّثة الآن عن توحيد الموقف مع الغرب من الوضع السوري ومصيره.

والحجّة هنا يمكن أخذها من منطق حسن نصرالله نفسه، فهو صاحب نظريّة الذهاب إلى عقر دار الأعداء في العمق السوري في حرب استباقيّة لمنعهم من الوصول إلى لبنان، والضاحية تحديداً. فماذا يبقى من هذه النظريّة حين يسقط العمق السوري في يد المعارضة كما يحصل الآن، وكما سيحصل أكثر؟ فهل تستطيع قشرة جغرافيّة هزيلة الوقوف في وجه امتداد كبير؟ ألم يكن من الأجدى لـ”حزب الله” أن يكتفي بالبقاء ضمن الحدود اللبنانيّة لحمايتها وراء الجيش اللبناني إذا اقتضى الأمر؟ فبضعة كيلومترات في الجرود الجرداء لا تجعله أبداً في مأمن، بل سيكون احتلاله لها سبباً كافياً لشنّ حرب عليه بعد أن يكون العمق السوري قد أفلت كليّاً من يد النظام. ويوم ذاك، ستكون الخسارة الكبرى، بل الهزيمة المدوّية التي ربّما لا يسلم منها لبنان أيضاً.

أمّا في حال خسارة “حزب الله” حربه المزدوجة في القلمون وجرود عرسال، فإنها ستكون أقصر الطرق إلى انتحاره. وربّما ينتقم عشوائيّاً ممّن لم يلبّوا طلبه للتورّط في المعركة، وقد بدأت طلائع هذا الانتقام في التهديدات التي يُطلقها ضدّ السياسيّين علناً، وضدّ الجيش والحكومة ضمناً. وليس عبثاً استئناف الكلام عن وجبة اغتيالات جديدة. وقد يكون إحساسه بخطورة المجازفة التي يرتكبها، ورعونة ما يُقدم عليه، قد لجم شيئاً من اندفاعته، وفرمل هوسه في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، وربّما الجلسة المقبلة، وقد يعوّض عن تراجعه في مسألة عرسال بتصعيد موقفه من التعيينات العسكريّة دعماً لذراعه السياسيّة، تكتّل عون.

ولا شكّ أنّ خطوة الجيش الأخيرة في عرسال، إضافةً إلى كلام قائده أمام فوج المدفعيّة، شكّلا سدّاً قويّاً أمام المشكّكين بقدرة لبنان العسكريّة، وأسقطا ورقة الابتزاز من يد “حزب الله” وذراعه. والحاصل الآن يؤكّد ما ذهبنا إليه مراراً، في مقالات سابقة، عن حصانة الجيش بعد نجاحه في الخروج من محاولات زجّه في محور “الممانعة والمقاومة”، سواء شاء هذا المحور أو لا. الجيش اللبناني ينتمي أوّلاً إلى معنى لبنان كوطن ودولة وسيادة، وينتسب ثانياً إلى منظومة الدول العربيّة والغربيّة الحرّة، تمويلاً وتسليحاً والتزاماً وعقيدة. وبناءً عليه، يحقّ لأيّ مراقب متابع أن يلمس “الزنقة” التي يعاني منها “حزب الله”، وضيق الفرص ومساحة المناورة أمامه. وليس كثيراً أن نراه بين خسارتين، أحلاهما مُرّ. فهل تنفعه “نصيحة” عمرها 25 عاماً؟