الكولونيل شربل بركات/قراري الحرب والسلم وما يترتب عليهما

515

قراري الحرب والسلم وما يترتب عليهما
الكولونيل شربل بركات/27 آذار/2024

أبناء الجنوب اللبناني وخاصة المناطق المتاخمة للحدود مع اسرائيل، ومنذ قرر بعض الفلسطينيين العرب اعتبار “الدولة العبرية” دولة معادية، عاشوا نوعا من عدم الاستقرار، فهم صحيح لبنانيون بالهوية والانتماء ولهم الحق القانوني بحرية الرأي والمعتقد والتملك، كما ينص الدستور، ولكنهم لم يُسألوا عن رأيهم في اية مرة حاول البعض تعكير صفو حياتهم وتغيير المعتاد من أعمالهم اليومية.

يوم رفض العرب قرار التقسيم في فلسطين واختاروا الحرب وقعت نتائجها عليهم وأصبحت المنطقة الحدودية بين لبنان واسرائيل جدارا مقفلا ممنوع عليهم عبوره، وهو كان متنفسا لهم ومصدر عيش زمن الانتداب، حيث كانت هذه المنطقة معبرا للداخلين إلى فلسطين والخارجين منها؛ بضائع أو تجار، وكانت الوظائف ومجالات العمل في مدن فلسطين تسهم في الدورة الاقتصادية لأبناء المناطق المحازية للحدود.

ولكن بالرغم من اغلاق هذه الحدود بعد حرب “النكبة” إلا أن اتفاقية الهدنة سمحت للمزارعين اللبنانيين بالأمن وامكانية العمل في أراضيهم حتى المتاخمة لأراضي اسرائيل. وبقي الوضع على حاله لا تشوبه شائبة مدة عشرين سنة إلى أن قرر “الأشقاء” بعد خسارتهم حرب 1967 معاقبة لبنان لعدم اشتراكه فيها وعدم خسارته جزءً من أراضيه، فدفعوا بأفواج الحاقدين من جماعات منظمة التحرير لتعيث بأرض الجنوب خرابا، وتقلق سكانه وتمنعهم من التمتع بالهدوء والاستقرار، وبالعمل في أراضيهم ومتابعة الحياة التي كانوا تمكنوا من التعود عليها وجعلها “طبيعية” نوعا ما. وهكذا بعد قبول لبنان “باتفاقية القاهرة” بدأت عملية الاقتصاص من المواطنين المسالمين الساكنين على الحدود، ليتمتع “المخربون” بمجالات أوسع لتعكير صفو الجار الاسرائيلي، وكأنهم بذلك لا يعكّرون صفو عيش أبناء الجنوب، أو كأن أبناء الجنوب أبناء الجارية الذين لا يُسألون رأيهم بما يجري.

ثم تطور الخلاف على الدور الفلسطيني داخل لبنان وما جره على البلد من ويلات تأثر بها اللبنانيون لدرجة الانفجار الذي جعل من عرفات الحاكم الفعلي للبلد بدل أبنائه. ووقعت الحرب في كل المناطق. فما كان من الجنوبيين ابناء الأرض إلا الاتفاق مع جيرانهم على الحماية المشتركة لمناطقهم ودفع الحرب عن قراهم وأهلهم. فساد من جديد نوع من الاستقرار جعل هؤلاء يعيشون بسلام مع جارتهم الجنوبية، ويحمون الحدود المستجدة شمالا لمنع المخربين من العبور إلى منطقتهم وخلق المشاكل لهم ولجيرانهم.

ولكن عودة الاستقرار إلى الشمال، ولو كانت أمنيتهم، إلا أنها أعادت دفع المخربين مرة أخرى لإقلاق راحتهم وتعكير حياتهم وخلق المشاكل لهم ولجيرانهم. ما أدى إلى دخول الجار من جديد والوصول حتى العاصمة للتخلص من هؤلاء وشحنهم إلى بلاد بعيدة. ولكن اللبنانيين لم يقدّروا ما قام به هذا الجار ولا عرفوا كيف يتفقون معه على منع التعدي وخلق الاستقرار الذي يمكّن الكل من العيش الرغيد. فكان الخلاف نتيجة لخروج الجار بدون تنسيق، لا بل بنوع من الغضب أدى إلى مزيد من المشاكل والدماء والاحقاد.

ثم ولد حزب جديد، إيراني الهوى، يكره العرب ويسعى لمعاداتهم، فجاء من اعتقد بأن تسليم هذا الحزب المناطق الجنوبية سيمنع التعدي عبرها، وينشر الاستقرار، ويدعم فكرة العيش بسلام وعدم الاعتداء. ولكن الإيراني كانت له مخططات مختلفة، فهو أراد التمدد خارج حدوده والسيطرة على الجيران تحت “شعار فلسطين” المحبب لشعوب المنطقة. فدفع مجددا نحو القلاقل والحروب وبالتالي وقعت المآسي على أبناء الجنوب مجددا.

فما ذنب أبناء عيترون وبليدا وحولة اليوم لكي تفجّر بيوتهم ويهجرها سكانها؟ وما ذنب أبناء عيتا الشعب وطير حرفا والضهيرة لكي تصبح منازلهم التي فاخروا ببنائها خربة لا يمكن العيش فيها؟ بل ما ذنب أولاد ميس الجبل، وهم عندما سألوا المرحوم الشيخ عبد الأمير قبلان في 1978 ماذا لو أغلق الاسرائيليون البوابة أجابهم “أقفزوا فوقها”، (لأنه كان يعرف بأن صداقة الجار والعيش معه بسلام أهم من خطابات البطولة الفارغة التي ترضي من في العواصم وتدفع إلى المزيد من التصفيق). ولكن هل يدرك حفيده الذي يتوق للمنصب، ذلك؟ أو أنه يغتر بما يقال عنه في الصحف بدون أن يسأل عما يدور بين أهله المبعدين من بيوتهم والتي تتدمر الواحد بعد الآخر.

اليوم وقد حاول “الحزب” استتباع الطائفة بكاملها ودفعها إلى خطه السياسي بدون أي نوع من الاتزان وبدون اي حساب لنتائج مخططاته، هل بقي مكان في لبنان لتلتجئ إليه، وخاصة بعد أن جاهر “الاستاذ” بدفع “الحركة” للمشاركة “بالجبنة” الموعودة؟ فالجنوب يقصف كل يوم بدون تمييز بين القريب من الحدود والبعيد عنها، والساحل حول صور وصيدا يقصف أيضا، والنبطية كذلك، كما أصبح قصف البقاع نزهة يومية، أما الضاحية فالكل يتذكر 2006، وإذا ما نسي فغزة ماثلة أمام العيون، ولو أن الاسرائيلي لا يزال يحسب حساب المستقبل، وهو يحاول التفريق، حتى الآن، بين مقاتل ومتعاون ومؤيد.

فماذا يريد السيد بعد من “شيعة الحق”؟ هل يريدهم وقودا لمشاريع الامام الخامينئي وهو الأذري المرفوض حتى من الفرس الأصيلين، أو أنه ينفذ أوامر الحرس الثوري الذي يتنمنى الإيرانيون اليوم أن يتغيّر الوضع لكي ينتقموا منهم لكثرة ما آساؤا لهم من تصرفاتهم وسيطرتهم؟

إن قرار الحرب، والذي يعتبر الجميع بأنه بيد السيد حسن والحرس الثوري، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعب في لبنان، خاصة الطائفة التي تبنته ودافعت عنه وتحمّلت من أجله بغض القريبين والبعيدين، وحملت ايضا الصاق كل تهم الفساد والتهريب وقلة الضمير وعدم الوفاء وتفشي عمليات مد اليد وسهولة القتل بدون رادع والتي ستتبعها أينما ذهبت، لأنها أصبحت جزءً من تلك الثقافة المنغلقة التي تعتبر الكل أعداء يحل افسادهم وسرقتهم وحتى قتلهم. فأين تعاليم الأجداد؟ وأين أصبح تراث آل البيت الذين لا يقبلون بالظلم ويعرفون تاريخه جيدا؟

إن قرار السلم واعفاء اللبنانيين من الحروب بعد كل المشاكل التي مروا بها كان يجب أن يتوّج مساعي كل مسؤول فينبذ الحقد ويمنع الحرب ويسعى للسلم “فإن هم جنحوا للسلم فاجنح له”. من هنا كانت محاولة اللبنانيين الالتزام بالحياد ليصبح لبنان مقرا للتفاهم والحوار والسعي الدائم لنشر السلم والتفاهم، لا أن يكون خاتمة للحروب ومثالا للدمار في كل شيء، لا يمد له أحد يدا، ولا يسهم أي من الجيران أو الأشقاء بالسعي لتخليصه من الشرور التي وقع فيها، لأنها من صنع يديه ومن زرع أبنائه: “فمن يزرع الريح هل يمكن أن يحصد سوى العاصفة”؟..