مريم مجدولين اللحام: القرنة السوداء في الصراع على الرئاسة: أحداث بشرّي-الضنيّة نموذجا/أخيرا باض الديك وحرّك حزب الله أذرعته في شمال لبنان في محاولة اختلاق معركة طائفية سنّية-مارونيّة بين أهالي بشرّي والضنيّة ثم وقف كعادته على الحياد المزعوم متفرّجا

116

القرنة السوداء في الصراع على الرئاسة: أحداث بشرّي-الضنيّة نموذجًا
مريم مجدولين اللحام/موقع جسور/02 تموز/2023

في فاجعة أليمة ومُحزنة ومرفوضة فتحت باب الخلاف على الحدود في منطقة القرنة السوداء بين قضائي الضنية وبشري، خسر الشمال اللبناني أرواحًا غالية من آل طوق، واستنكرت جهات عدة ما حدث مع التشديد على الضرورة القصوى للقبض على الفاعلين ومحاسبتهم، وعلى أن يبذل الأهالي من المنطقتين كل جهدهم للمساعدة في كشف الجناة وتقديمهم إلى المحاكمة العادلة. وفيما يخيّم الهدوء الحذر على المنطقتين، تكشّفت أمور كثيرة اعتبرت حقائق لا يرقى إليها شك، أكثرها أهمية يؤكد أن ما يُحاك في خبايا الملفات الصغيرة أكبر مما يتراءى للمتابعين.

أخيرًا، باض الديك، وحرّك حزب الله أذرعته في شمال لبنان في محاولة اختلاق معركة طائفية “سنّية-مارونيّة” بين أهالي “بشرّي” و”الضنيّة”، ثم وقف كعادته على الحياد المزعوم متفرّجًا. وبعد مقتل شابَّين من آل طوق أمس، تبِعه توقيف الجيش اللبناني لعدد من الأشخاص، يخوض اليوم معركة سيطرته المأمولة على المركز الاستراتيجي الأهم في الوطن العربي، والنقطة الأعلى في الشرق الأوسط: قمة القرنة السوداء، بأيادٍ مستعارة.

جمع مُناصري السلاح حتى الأنياب، والمستفيدين من التهريب الحدودي ووجّههم لفتح المعركة السنوية الخلّاقة تحت عناوين باهتة كـ”المسح الجغرافي، المياه الجوفية، الموارد، أحقية الأرض…وغيره” إذ ما أن وصل الاستحقاق الرئاسي إلى ساعة الحقيقة بين فريق المعارضة وفريق الممانعة، حتى أدرك التنظيم المسلّح أن عليه الزجّ بالسُّنة في النزاع بأي شكل من الأشكال لتحاشي هزيمته.

في البدء، وضع من استطاع إلى إقناعه سبيلا، من النواب السُّنة في دائرة الاعتدال المفيد، الذي لا يصوّت لسليمان فرنجية، ولا يصب بالضرورة لصالح خصمه جهاد أزعور، فجاءت “لبنان الجديد” في الطليعة، وتلاها مجموعة اليسار التغييري الـ6 بقيادة “حليمة القعقور”. وفيما لم يُستبدل حتى الساعة مصطلح “ضبط النفس” بمصطلح “ضبط السلاح”، يلعب حزب الله باحترافيّة مبالغة لعبة ذر الرماد في العيون عن المعركة الأساسية في البلاد، معركة تحرير المؤسسات الرسمية والإدارات العامة والبرلمان من سطوة السلاح وتبعاته عربيًا ودوليًا.

الوضوح السياسي عند مفتي الجمهورية
وما عزز صحة ذلك إلا ما أدلاه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان من تصريحات عن إجرائه اتصالًا هاتفيًا برئيس “تيار الكرامة” وعضو “تكتل التوافق الوطني” النائب فيصل كرامي، تناول خلاله الحادثة الأليمة داعيًا إياه – دون غيره من نواب الشمال – “المساهمة في تهدئة الأمور وإلى الإصرار على استخدام لغة العقل وتحكيم الوجدان الوطني في هذه المسألة”، معتبرًا وبكل وضوح سياسي مُلفت أن هناك “طابور خامس” يسعى إلى تسعير الفتنة والاصطياد بالماء العكر على حدّ تعبيره، بما في ذلك من إشارات كبرى وتحميل للمسؤوليات.
رسالة قوبلت برحابة صدر من كرامي الذي أعرب عن شكره لـ “المفتي دريان على حكمته، وفي مطالبته بتحقيق العدالة التي نسعى إليها جميعًا”.

لم يمت قنصًا؟
ومع الرهان السلطوي الواضح لحزب الله الذي يحاول احتجاز الحراك البرلماني المعارض للحؤول دون انتقاله من طور الاصطفاف إلى طور انتخاب رئيس للجمهورية، وجعله يدور في فراغٍ ليسهل اتهامه بتضييع الوقت… جاء تصريح المدير الطبي لمستشفى بشرّي الحكومي، الدكتور ابراهيم مقدسي ليفاجئ المتابعين بمعطيات جديدة بشأن مقتل الشاب هيثم طوق في القرنة السوداء، لافتاً إلى أن الوفاة حصلت نتيجة إطلاق نار من مسافة قريبة لا تتعدّى الـ15 أو 20 متراً أي أن الفقيد لم يمت قنصًا كما أُشيع. الأمر الذي يرفع الأسئلة إلى ما إذا كان أمر اغتياله مُدبّرًا أم عن سابق تحذير أو لم يكن كذلك.

وهنا يسال المتابع، هل يلعب النائب ويليام طوق المقرّب سياسيًا من مرشح حزب الله للرئاسة سليمان فرنجية أي دور تخريبي أو ربما إصلاحي لتهدئة النفوس اليوم؟ ولماذا بعد انتخابه نائبًا هذه المرة بـ”فرق الحاصل الانتخابي”، وصل الحال في النزاع بين “الضنية” و”بشري” إلى القتل عن مسافة قريبة هذه المرة بعد أن كانت النزاعات خفيفة أو تتراوح بين “إطلاق نار في الهواء للتخويف” أو تخريب في امدادات المياه؟ وألا يُترجم مؤشر “قرب المسافة في قتل المغدور من آل طوق” على أنه قتلًا متعمدًا؟ أم أن في الملف تفاصيل لم تتكشف بعد وكل ما يتوارد من تحليلات يُصب في دائرة التهويل السياسي؟

أهمية القمم
في أعالي القمم تُبنى قوّة التحمّل، فللجبال خصائص قتاليّة ووفرة في المباغتات وكثير هو ما يمكن أن توفّره من تنظيم للشبكات الاستطلاعية بشكل مُحكم وما يمنحه السطح الجغرافي لأي قوة تسيطر على القمة من تفوق ميداني. من هنا، يفضّل حزب الله دومًا الجبال والمناطق العليا والوعرة، ويسطر عليها (من العاقورة إلى ما أمكنه من قمم جبلية) لتدريباته العسكرية كتنظيم مُسلّح يحصر حق التفوّق العسكري بطائفته الخمينيّة الولائية استثنائيًا و”على عينك يا دولة”. ومن هنا، تُطرح علامة استفهامٍ كُبرى حول أي تحريك لملف القرنة السوداء اليوم، من باب أهمية هذه المنطقة، الغنية بالمياه، في إعتماد النشاط الإقتصادي لأهالي المنطقتين على الزراعة وتصوير الأمر على أنه متكرر سنوي يعود إلى وضع نقاط فصل واضحة لـ”حدود جبل لبنان التاريخية مع السلطنة العثمانية”.

وفي حديث خاص لـ”جسور” أوضح النائب السابق وهبة قاطيشا، أن “خلفية النزاع على الأرض في القرنة السوداء هي خلفية سياسية بحته، تطرح ما تطرح من رسائل مبطنة”. وبالعودة لتاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي عاد قاطيشا للزمن الذي “دأب فيه الصهاينة للسيطرة أوّلًا على القمم الجبلية في فلسطين لاحتلالها” وربط بين ذلك وبين الذي يحدث اليوم من “معادلة لا تختلف عن المعادلة الصهيو-استعمارية، ولذا إن نقطة القرنة السوداء مهمة جدًا عسكريًا كموقع يسيطر على الممرات الحيوية والمائية، للتحكم بكل ما فيها من نفوذ إقليمي مُهمَل، فالسلسلة الغربية وجبال لبنان الغربية هي المراقب الأعلى والأهم والأجدر للشرق الأوسط لناحية تركيب رادرات وتجهيز دائرة حمائية، ومراقبة الطائرات وما يمكن أن تؤمن من سيطرة على كل ما تحتها”
وتابع قاطيشا “على الرغم من الخلاف التاريخي بين قضائيّ بشرّي والضنيّة، حول ترسيم الحدود بينهما في منطقة القرنة السوداء مع محاولة اتخاذ البعض بعدًا طائفيًا للمسألة، لهذه القمة الجبلية أهمية عظمى للشرق الأوسط ككل، والدولة اللبنانية لم تستغلّها بحيث أن تطلعاتنا الجيوسياسية في لبنان الرسمي لا تزال متواضعة. وأعود بالذاكرة لمشروع “الخفّاش” عند أعالي قمة جبل الباروك وفي رقعة على الجبل تُعرف باسم معسكر النعناع، وهو الرادار ومحطة الإنذار المُبكر، والذي تعرّض للقصف الإسرائيلي في التاسع من تشرين الأوّل من عام 1973 وكان مشروع الخفاش عربيًا وبتمويل عربيّ، نستطيع من علوّه رؤية ومراقبة كل أرض فلسطين المحتلة وبعدما تم استهدافه أصبحت حينها طرقات لبنان مفتوحة لشنّ غاراتٍ على محطات الكهرباء وخزّانات الوقود. وكذلك بالفعل تكمن قوة القرنة السوداء من الناحية العسكرية كنقطة استراتيجية”. أما من الناحية الداخلية اللبنانية يرى قاطيشا أن “ورقة الضنية تُلعب اليوم بأيادٍ خفيّة إنما واضحة. تحاول مناكفة بشرّي بما تعنيه سياسيًا. فصحيح أنه يمكن لحزب الله مثلا المناكفة من دير الأحمر أو البقاع، إلا أن الصراع اليوم يُدار بالواسطة وليس بالمباشر، والهدف تطييف النزاع على رئاسة الجمهورية كون المعارضة نجحت بلبننته بعيدًا عن الحسابات التوسعية للفريق الخصم، وإن تأمن لحزب الله السيطرة على القرنة السوداء “ولو بالواسطة” فهي قضية مهمة تقلب المعادلات”.

في الختام، يبدو أن لبنان على موعد أسبوعي مع حلقات الصراع على رئاسة الجمهورية، والحُكم صراعٌ يكسبه من يفهم موازين القوى وما يريده الخصم منه. فعدالة أي قضية، بمن فيها قضية انتخاب رئيس سيادي لإدارة البلاد، لا تكفي لانتصارها. بل كشف محاولات الخصم البائسة، بعيونٍ واعية هي مفتاح الانتصار على محور الانتصارات الوهمية.

*ملاحظة:الصورة المرفقة هي للضحيتين هيثم ومالك طوق