سجعان قزي: للتذكيرِ فقط!! ولِـمَ لَـم يُستَدْعَ جعجع إلى الضاحيةِ الجَنوبيّةِ مباشَرةً من دونِ المرورِ في اليرزة؟ هناك المستَدعي الأصيلُ والمفوَّضُ الأصيلُ الذي يُعفي المفوَّضَ الوكيلَ من ارتكابِ جرمِ الخروجِ عن العدالة. هناك مكانُ احتجازِ الشرعيّةِ والدستورِ والعيشِ المشترَك

255

للتذكيرِ فقط
واليوم، حين يَتبادلُ المواطنون صورًا تُذكِّرُهم بمجدِ لبنان وعزّتِه وازدهارِه وتآلفِه وتألُّقِه، يَقعون على صورٍ تعود إلى مرحلةِ “المارونيّة السياسيّة”. وحين يتحدّثون عن كبارِ رؤساءِ الجمهوريّةِ ورؤساءِ المجالسِ النيابيّةِ والحكومات، وعن كبارِ الوزراءِ والنوابِ وأعيانِ الدولةِ وسفرائِها يَستذكرون أولئك الذين بَرزوا في زمنِ “المارونيّةِ السياسيّة”.

سجعان قزي/افتتاحيّةُ جريدةِ النهار 28 تشرين الأوّل 2021

ولِـمَ لَـم يُستَدْعَ سمير جعجع إلى الضاحيةِ الجَنوبيّةِ مباشَرةً من دونِ المرورِ في اليرزة؟ هناك المستَدعي الأصيلُ والمفوَّضُ الأصيلُ الذي يُعفي المفوَّضَ الوكيلَ من ارتكابِ جرمِ الخروجِ عن العدالة. هناك مكانُ احتجازِ الشرعيّةِ والدستورِ والعيشِ المشترَك. هناك تَرقُدُ الدولةُ اللبنانيّةُ الموحَّدة.

مذ كانت دولةُ لبنان، وأطرافٌ متعدِّدةُ الهُويّاتِ الطائفيّةِ والعقائديّةِ تَتداولُ مَهمّةَ تحميلِ المسيحيّين، وتحديدًا الموارنة، مسؤوليّةَ جميعِ الأحداثِ الـمَفصِليّةِ في هذه البلادِ المعقَّدةِ في هُويّتِها، والـمُحرَجةِ في وِحدتِها، والمتعثِّرةِ في تعايُشِها. أوّلُ “جريمةٍ” اتُّهِموا بها كانت إنشاءَهم سنةَ 1920 دولةَ “لبنانَ الكبير” مستقلَّةً عن سوريا التي لم تَكن بعدُ موجودةً. ومن يومِها تلاحَقت اتّهاماتُ المسيحيّين وصولًا إلى تحميلِ القوّاتِ اللبنانيّةِ مسؤوليّةَ أحداثِ 14 تشرين الأوّل الجاري. كفى، صار التذكيرُ بدورِ المسيحيّين ملزِمًا خصوصًا أنَّ أمامَ المحنِ يُفتَقدُ التضامنُ، ولا يبقى إلّا الشعبَ المقاوِم.

إبّانَ الانتدابِ الفرنسيِّ اتّـهَموا المسيحيّين باسْتِلطافِ الفرنسيّين، فتَفاجأوا بهم سنةَ 1943 يقودون والمسلمون معركةَ الاستقلالِ. سنةَ 1958 حَـمّلوا الرئيسَ كميل شمعون والشيخ بيار الجميّل مسؤوليّةَ “ثورة 1958” لأنّهما واجَها المدَّ الناصريَّ ومشروعَ ضمِّ لبنان إلى الوِحدةِ السوريّةِ/المصريّة. سنةَ 1975 رَمَوا المسؤوليّةَ على حزبِ الكتائب اللبنانيّةِ لأنّه تَصدّى لتوسّعِ الفِلسطينيّين عسكريًّا ومحاولةِ إقامتِهم دولةً بديلةً على أرضِ لبنان. طوالَ السبعيناتِ وَصَموا بشيرَ الجميل بنعوتٍ شتّى، ثم التَفَّتْ غالِبيّةُ اللبنانيّين حولَه ورفَعَتْهُ إلى مرتبةِ الرمزِ لحظةَ انتخابِه رئيسًا للجمهوريّةِ وبعدَ استشهادِه. سنةَ 1994 أَلْصَقوا تفجيرَ سيّدةِ النجاةِ في زوق مكايل بسمير جعجع فاعتُقلَ وسُجنَ وبُرِّئَ من هذه الجريمة.

اللافتُ في كل ذلك، أنَّ أصحابَ الاتّهاماتِ، بعدَ خرابِ لبنان، تراجَعوا عنها تِباعًا.  فالرئيس جمال عبد الناصر صحَّحَ سياستَه تجاه لبنان وأصبح الصديقَ الـمُخلصَ والحاضِنَ استقرارَ لبنان. ومنظمّةُ التحريرِ الفِلسطينيّةِ برّأت لاحقًا حزبَ الكتائبِ اللبنانيّةِ من حادثةِ بوسطةِ عين الرمانة وكذلك فَعل التحقيقُ العدليُّ اللبنانيّ. والرئيس حافظُ الأسد اعترفَ في خِطابِه الشهير (21 تموز 1976) بمشاركةِ جيشِه في حربِ السنتين وحَمّلَ منظّمةَ “فتح” الفلسطينيّةَ و”الحركةَ الوطنيّةَ اللبنانيّة” مسؤوليّةَ تصعيدِ القتالِ ضِدَّ المسيحيّين. ونجلُه، الرئيسُ بشار الأسد، أقرَّ، ولو من أهدابِ شفتَيه، بأخطاءِ النظامِ السوريِّ بحقِّ لبنان في خِطاب تَسلُّمِه الحكمَ (17 تموز سنة 2000).

إنَّ تَعمُّدَ وضعِ المسيحيّين، أمسِ واليومَ، في قفصِ الاتّهام يَهدِفُ إلى اختلاقِ شعورِ ذنبٍ لديهم، ودفعِهم إلى التنازلِ عن دورِهم الرائدِ وصلاحيّاتِهم الدستوريّةِ في دولةِ لبنان. فمنذُ الخمسيناتِ والعينُ على مناصبِهم وصلاحيّاتِهم من دونِ أنْ يُقدِّمَ أحدٌ حالةً لبنانيّةً أفضلَ من تلك التي صاغَتها “السياسةُ المارونيّةُ”. ولقد نَجحَت هذه الخُطّةُ بدليلِ التنازلاتِ الدستوريّةِ المتتاليةِ التي قدّمَها المسيحيّون من دونِ أن تؤديَّ، مع الأسف، إلى تثبيتِ سيادةِ لبنان واستقلالِه، ولا إلى تقويةِ الشَراكةِ الوطنيّةِ وتعزيزِ وِحدةِ الدولةِ اللبنانيّةِ، ولا إلى الولاءِ للبنانَ فقط. إنَّ المسيحيّين ـــ على الأقلِّ هذا موقِفي ـــ مستعدّون لكلِّ تضحيةٍ مقابلَ إنقاذِ وجودِ لبنانَ الحرّ وإنجاحِ تجربةِ التعايشِ المسيحيِّ/الإسلاميّ. فقوّةُ المسيحيّين ليست بصلاحيّاتِهم، بقدْر ما هي بصلاحيّاتِ دولةِ لبنان على أراضيها، وفي هذا الشرقِ والعالم. فما هَـمَّنا إذا امْتلكْنا جميعَ صلاحيّاتِ الدنيا وخَسِرنا لبنان؟ لكنَّ الخطرَ الأكبرَ أنْ نَخسَرَ صلاحيّاتِنا ونَخسَرَ معها لبنان. وأصلًا، لم يكن المسيحيّون يَملِكون أيَّ صلاحيّاتٍ حين أسّسوا دولةَ لبنان، كانوا يَملِكون الدورَ والإرادةَ والأخلاقَ ومشروعَ الشراكةِ الوطنيّةِ الّذي تحوّلَ ضِدَّهُم.

وإذا كان بعضُ المسؤولين الموارنةِ أساؤوا أحيانًا استخدامَ صلاحيّاتِهم وتحالفوا مع قِوى مناهضةٍ لمفهومِ لبنان، فالأطرافُ الّذين آلَت إليهم الصلاحيّاتُ لم يَستخْدموها أفضلَ من المسيحيّين، بدليلِ تَبعثُرِ المسؤوليّةِ، وتصارعِ المؤسّساتِ الدستوريّة، ورهنِ القرارِ الوطنيِّ إلى دولٍ خارجيّة.

إن العَلاقاتِ بين الطوائفِ اللبنانيّةِ المسيحيّةِ/الإسلاميّة، وبين لبنانَ والعالمِ العربيّ، وبين لبنانَ والعالمِ الإسلاميِّ لم تَعرِف مرحلةً ذهبيّةً كتِلكَ التي عَرَفتها في ظلِّ “المارونيّةِ السياسيّة”. لم تَعرِف الصيغةُ اللبنانيّةُ بمفهومِها الميثاقيِّ سماحةً في التطبيقِ وبساطةً في التعايشِ وحريّةً في الممارسةِ العامّةِ كتِلكَ التي عرَفتها في كنَفِ “المارونيّةِ السياسيّة”. لم يَعرِف النظامُ الديمقراطيُّ دِقّةً في تطبيقِ الدستورِ والتزامًا بالقوانينِ واحترامًا للاستحقاقاتِ ونزعةً مدنيّةً في تفسيرِ النصوصِ الدستوريّةِ كتلك التي عَرَفها في زمنِ “المارونيّةِ السياسيّة”.

واليوم، حين يَتبادلُ المواطنون صورًا تُذكِّرُهم بمجدِ لبنان وعزّتِه وازدهارِه وتآلفِه وتألُّقِه، يَقعون على صورٍ تعود إلى مرحلةِ “المارونيّة السياسيّة”. وحين يتحدّثون عن كبارِ رؤساءِ الجمهوريّةِ ورؤساءِ المجالسِ النيابيّةِ والحكومات، وعن كبارِ الوزراءِ والنوابِ وأعيانِ الدولةِ وسفرائِها يَستذكرون أولئك الذين بَرزوا في زمنِ “المارونيّةِ السياسيّة”.

في زمن “المارونيّةِ السياسيّة”، كان رؤساءُ حكومةِ لبنان يُخاطبون ملوكَ ورؤساءَ العرب والعالم من النَدِّ إلى الندّ. كانوا أصدقاءَهم ومحاوريهم وجلساءَهم. لم يكونوا ودائعَ عربيّةً في لبنان، بل رسلَ لبنانَ إلى العالمِ العربيّ. أتَذكرون، على سبيلِ المثال لا الحصْر، رياض وسامي وتقي الدين الصلح، وصائب سلام ورشيد كرامي وشفيق الوزان؟ أتذكرون صبري حماده وعادل عسيران وكامل الأسعد وكاظم الخليل؟

في السياقِ التاريخيِّ ذاتِه، ما كان جبلُ لبنان لـيَتمتَّعَ بالشُهرةِ الخاصّةِ شرقًا وغربًا لولا دورُ الموارِنة. فالإمارةُ التي بدأت مع الـتَـنّوخيّين سنةَ 763، لم تَعرِف الحكمَ الذاتيَّ والاستقلالَ النِسبيَّ والنموَّ الحضاريَّ إلا ابتداءً من أواخرِ القرنِ السادسَ عشَرَ حين أحاطَ الأمراءُ المعـنـيّون فالشهابيّون أنفسَهم، ولاسيّما الأميرُ فخرُ الدين المعنيّ الثاني (1572/1635)، بالـنُخَبِ المارونيّةِ الدينيّةِ والمدنيّة. لقد أمَّنَ الموارنةُ للمَعنيين والشِهابيّين الفكرَ السياسيَّ، والتنظيمَ الإداريَّ، والقوّةَ العسكريّةَ، والعَلاقاتِ الديبلوماسيّةَ مع أوروبا، ما شَكَّلَ حمايةً لإمارةِ الجبلِ في وجهِ السلطنةِ العثمانـيّـة.

لقد ناضَلت الجماعةُ المارونيّةُ من أجلِ لبنانَ بمنأى عن الهويّةِ الدينيّةِ لحاكمِ جبل لبنان. ونَجحت لاحقًا في توحيدِ الأمّةِ اللبنانية في دولةٍ تعدّديّةٍ بدونِ اشتراطِها أنْ يكون رئيسُها مارونيًّا حكمًا، لكنّها اشترَطت أن تكونَ سياستُه لبنانيّة. ويكشِفُ مسلسلُ الأحداثِ أنَّ ما اهتزَّت وِحدةُ لبنان إلا مع إضعافِ دورِ الموارنةِ وتهميشِه. وتقتضي الموضوعيّةُ التاريخيّةُ أن نَعترفَ، بالمقابل، بأنَّ قياداتٍ وتيّاراتٍ وأحزابًا مارونيّةً تَتحمّل جُزءًا كبيرًا من تراجعِ المسيحيّين وهزائمِهم. إلا أنَّ ذلك لا يُبرِّر مطلقًا استمرارَ استهدافِ المسيحيّين، وبخاصّةِ الموارنةُ، عند كلِّ مَفرِقِ طريق، بغيةَ إزالةِ أهم عائقٍ تاريخيٍّ أمام وضعِ اليد على لبنان. لن يَتمكّنَ أيُّ فريقٍ من أن يُسيطرَ وحدَه نهائيًّا على لبنان، لكن، بمقدورِ فريقٍ واحدٍ أن يَمنعَ سيطرةَ الآخَرين.