شارل الياس شرتوني/سقوط جمهورية الطائف، الحكومة الصورية واستحالات سياسات النفوذ الشيعية

86

سقوط جمهورية الطائف، الحكومة الصورية واستحالات سياسات النفوذ الشيعية
شارل الياس شرتوني/07 حزيران/2020

لقد انقضى وقت السماح الذي اعطي لحكومة حسان دياب، بعد انقضاء ٤ اشهر على تأليفها لأسباب متعددة، نعددها كالتالي: تهاوي استقلاليتها وتظهر تبعيتها لمراكز القوى التي اتت بها في اخر محاولة لانقاذ الاوليغارشيات السياسية والمالية، وسياسة وضع اليد المنهجية التي يقودها حزب الله من خلال تقسيم العمل مع نبيه بري؛ فقدان حسان دياب للصدقية الاخلاقية والمهنية والسياسية بحدودها الدنيا، الرجل لا يعدو كونه غطاء رثا لسياسة نفوذ حزب الله وارادة التسلط التي تحكم اداءه، الامر الذي ينفي عنه اي قوام معنوي ورشد سياسي؛ الفريق الوزاري هو دون الوزن السياسي والمهني المطلوب، ودون وعي الاشكاليات الوجودية والسياسية والعامة الكبرى التي تعبر عنها الازمات المتوالية التي نعيشها؛ البلد يعيش على تقاطع طرق سياسات النفوذ الاقليمية ونزاعاتها المفتوحة على الصراع السني-الشيعي، ومحاور النفوذ الاقليمية ( ايران، السعودية، تركيا ، الاسلام السني الجهادي …)، ويبني ديناميكياته السياسية على حركتها الجاذبة والسالبة؛ الازمات المالية والاقتصادية غير قابلة للحل في ظل التشابكات النزاعية المفتوحة، وتحول الدولة الى تجمع لمراكز قوى متنافرة تتحين الفرص الانقلابية للانقضاض على بعضها البعض، دون الاحساس بالحد الادنى بالرباطات الوطنية والمدنية غير الموجودة اساسا.
الامر الذي يفضي بنا الى حركة سياسية تنقصها معايير ضابطة وهادفة في ظل هذا التداعي المؤسساتي، وغياب اية اعتبارات سيادية فعلية تودي الى استنتاج اساسي، لا اصلاح ماليا واقتصاديا بغياب الاستقرار السياسي، وتماسك البنية الدولاتية وتواصلها البنيوي مع المجتمع المدني بروافعه المتعددة وطروحاته الاصلاحية. ان التدهور الامني الخطير الذي شهدناه اليوم يؤكد ضرورة حماية السلم الاهلي والحياة الديموقرطية، ولاسبيل لذلك في المرحلة الحاضرة خارجا عن تطبيق الفصل السابع من شرعة الامم المتحدة.

لا خروج عن هذا الواقع الا من خلال اعادة الاعتبار للمعايير السيادية، والمشاركة الديموقراطية، والاصلاح المالي والاقتصادي البنيوي:

-١ لا بد من التأكيد المبرح على مبدأ السيادة الدولاتية كتعبير عن التزام فعلي بالكيان الوطني اللبناني، والاعتبارات السيادية الناظمة للحياة العامة، والاجماعات الديموقراطية على القيم السياسية المظللة للحياة الوطنية. لا امكانية لحيثية دولتية فعلية دون قيم سياسية جامعة تظلل الحياة العامة وتحكم الاداءات السياسية، وتنهي واقع المفارقات السيادية والديموقراطية والاخلاقية العامة التي دمرت واقع الدولة الوطنية على خط تواصل سياسات النفوذ الاقليمية النافية لاستقلال البلاد ( سياسات التيارات العروبية ومحاورها الاقليمية الضابطة، واليسارية العالم ثالثية، مراكز القوى الشيعية والسنية ودولة حزب الله )، والاوليغارشيات المالية-السياسية والمالية الانتهازية التي حولت الكيان الدولتي الى رافد للسياسات الريعية والزبائنية التي قوضت سياسات اعادة الاعمار التي تلت مرحلة الحرب، وقضت على امكانية ارسائها على اسس انمائية تداخلية في رؤيتها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والبيئية. هذا يعني عمليا في مرحلتنا الحاضرة، انه لا يمكن التعايش مع سياسات حزب الله على استنسابيتها، ولامجال للتسليم بحيثياتها التي تفتح البلاد على مداخل نزاعية لا حصر لها، تضرب امكانية النهوض المالي والاقتصادي والاجتماعي، وما يفترضه من تماسك على المستوى السيادي، والاجماع على مستوى الخيارات السياسية العامة، والتواصل الحر مع المؤسسات الدولية والمحور الغربي الديموقراطي. ان اي تفريط او تجاهل في هذه المجالات سوف يحيلنا الى استحالات في المجالات الاصلاحية، والى سياسة ” تناسل الازمات ” التي يعتاش منها هذا الحزب .هذا يعني ان المواجهة الديموقراطية مع حزب الله امر لا مفر منه، اذا ما اردنا الخروج من هذه الحلقة المفرغة التي هي وراء انسداد الافق الحالي وتمدده.

ب- ان سياسة كسر الاقفالات المفروضة على الحياة السياسية والاقتصادية، وفتح باب المشاركة الديموقراطية في مجالات التداول وصياغة وتخريج الحلول المالية والاقتصادية والاجتماعية، بعد الانهيارات العميمة التي اودت اليها السياسات الاوليغارشية لجمهورية الطائف، قد اصيبت بالصميم عندما انطوى الاداء السياسي لهذه الحكومة على دوائر تشاورية وتقريرية مقفلة وانتقائية املتها اولويات المفكرة السياسية لمراكز النفوذ الشيعية. لقد تم تجاهل الطروحات التي تقدمت بها فاعليات المجتمع المدني، بما فيها الجامعات، ونقابة المحامين، وتجمع المهن الحرة، والفدراليات التربوية والاستشفائية، والحراكات في المجالات البيئية وحقوق الانسان،…،. لقد انبنت الاداءات الحكومية داخل سواتر سياسية وايديولوجية واستراتيجية تمظهرت من خلال ابنية السراي المتعالية على النسيج المدني والاجتماعي الذي ينبغي ان يلفها، للتأكيد ان القرارات السياسية العامة خارجة عن اي تخريج ديموقراطي، وتعبيرا عن الجموح السلطوي لسياسات النفوذ الشيعية التي يديرها حزب الله، وعقد التسلط التي تحكمها ترسبات دونية تحتفل بسطوتها (ذهنية حديثي النعمة كما تعبر عنها الترهات الايديولوجية المكابرة التي تصدر عن نعيم قاسم، ومغالاة حسن نصرالله وظلالها غير الوارفة ).
ان مقاربة الازمة المالية والاقتصادية تبقى دون الافق المهني والسياسي المطلوب، نهجا ومضمونًا، والتوليفة الحكومية الحاضرة ليست الا تعبيرا عن ارتهاناتها وضعف القدر المهني لجزء كبير منها، وانتفاء القدر السياسي لمعظمها، وهذا الواقع ليست بصدفة. سياسات النفوذ الشيعية والاوليغارشية تخاف على سيطرتها من خلال فتح ابواب التداول الديموقراطي الذي عبرت عنه الحراكات المدنية، وتثير التساؤل حول صمت الليبراليين الشيعة ( باسثناء منى فياض وعلي الامين … ) تجاه استهداف التوازنات البنيوية للاجتماع السياسي اللبناني، بمندرجاته القيمية والسياسية التي اسست للتداخل السياسي والوطني، من قبل مواقع سياسية ودينية شيعية؛ ومدى ارتباط الاوليغارشيات المالية بأي اعتبار خارج عن مصالحها المالية.

ج- تعاني مقاربة الاصلاح المالي من قبل الحكومة الحاضرة من ثغرات تعكس

١-اخطاء منهجية وعملية وضع اليد الفعلية على القرار السياسي والعام على مختلف تدرجاته من قبل سياسات النفوذ الشيعية. كيف تسمح لنفسها هذه الحكومة مباشرة عملها دون التشاور مع الفاعليات العلمية والجامعية، والمهنية ذات الخبرة الدولية، والمؤسسات المالية، والهندسية، والتربوية، والاستشفائية، والبيئية التي تراكم خبرات محلية ودولية على مدى مائة وخمسين سنة، ومع الهيئات المدنية العاملة في مجالات، حقوق الانسان، والايكولوجيا (الطبيعية والثقافية)، والاعاقات الوظيفية، والتمكين المدني، والجندري…،خاصة بعد تبلور واقع الطلاق المطلق بين الحيز السلطوي والمجتمع المدني على اختلاف تعبيراته.

٢- ان مقاربة المسألة المالية بمعزل عن اشكالية اصلاح الحوكمة لجهة ربطها بالخيارات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والبيئية الناظمة، وعلى قاعدة تصفية السياسات الريعية والزبائنية، وتفكيك مرتكزاتها داخل الادارات العامة، ومقاضاة اقطابها وازلامهم على المستويين اللبناني والدولي، ووضع مشروع متكامل لاستعادة الاموال العامة المهربة والمنهوبة، بناء على تشريح مفصل للمديونية العامة يظهر آليات النهب واهدار الاموال العامة ومواقعها، وشبكاتها المنتشرة على مختلف مستويات الحياة العامة من ادارية، وقضائية، وامنية، وادارية، واعلامية.

٣- أ/ اعادة هيكلة النظام المصرفي على مرتكزات صرف مهنية حددتها اتفاقيات بازل الثلاث لجهة متطلبات رأس المال، وادارة المخاطر، وتوحيد المعايير الناظمة، وخارجا عن الاملاءات السياسية كما اوحى بها مشروع اعادة تركيب النظام المصرفي على ركام النظام السابق، من خلال تبييض اموال سياسات النفوذ الشيعية، الامر الذي سوف يصطدم بقواعد العمل المصرفي الدولي، وبالممانعات السياسية الداخلية.

ب/ اعتماد خطة توافقية لجهة اعادة رسملة السوق المالية على اساس التملك والدمج بين المصارف المعتمدة واكتتابات المودعين، بعد اجراء عمليات تدقيق مالية في الاصول والموجودات العائدة لها.

ج/ تحميل مسؤولية الخسائر لكل الاشخاص المعنويين والافراد المصارف، المصرف المركزي، المساهمين والاداريين الكبار وكل من تثبت مسؤوليته الجنائية، الطبقة السياسية التي تمتلك ١٨ / ٢٠ من الالفا بنك )الذين صاغوا ونفذوا وأفادوا من سياسات التمويل الريعي، على اساس شطب الديون العامة بالليرة اللبنانية ( توازي ٨٠ مليار د.ا )، واعادة جدولة ديون اليوروبوند( ٣٠ مليار د.ا ) على مدى عشرين سنة وبفائدة ١/١٠٠. د/اعادة هيكلة مصرف لبنان على اساس وظائفه المحددة قانونيا لجهة حماية الاستقرار النقدي، ومراقبة اداء المصارف لجهة التزامها بقانون النقد والتسليف والتشريعات المالية الدولية، والحماية من الاخطار الناشئة عن سياسات التسليف المشبوهة والمضاربات المالية والعقارية، وتبييض الاموال، وحماية الموازين الاقتصادية الكلية، واستئصال ادواره في مجال تمويل السياسات الريعية، وتطبيع دوره كبديل عن تقسيم العمل الاقتصادي.

ه/ اعادة الثقة بالنظام المصرفي اللبناني من خلال عودة الاستقرار والاصلاح السياسي، وايجاد المناخات الاستثمارية المحفزة لعودة اموال اللبنانيين والمستثمرين الاقليميين والدوليين. لا بد ايضا من اعتماد الدولار كعملة تداول رسمية تخرجنا من دوامة الاصدارات بالليرة ومفاعيلها التضخمية، وتسمح باعادة اطلاق الحياة الاقتصادية خارجا عن قيود التداول الحالية وتردداتها الاجتماعية المدمرة.

و/ الغاء كل اشكال النشاط المالي والاقتصادي الموازي القائم على الاقتصاد المنحرف وتبييض الاموال الملازم لاداءات الاوليغارشيات القائمة؛

ز/ لا نجاح للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي خارجا عن التلازم بين مفكرتي الاصلاح السياسية والمالية وتوحيد ملفاتها التفاوضية، لجهة الاحصاءات المالية والاهداف الاستراتيجية، لان صندوق النقد غير راغب بعقد اتفاقيات مع دولة متداعية وقرارها مشتت بين مراكز قوى متموضعة على خطوط نزاعية اقليمية مفتوحة.ان اوهام اللجوء الى نظام دولي مضاد كما يلوح به حسن نصرالله هو جزء من الاوهام الانتصارية، وسياسات التضليل، وما تقود اليه من ايحاءات ترمي تحويل لبنان الى مكب نزاعي، على غرار فنزويلا واليمن وليبيا وغزة، تستخدمه ايران قاعدة لسياسة نفوذها الانقلابية في المنطقة.

لقد انتهت جمهورية الطائف مع هذه الحكومة التي تعكس بحكم هشاشتها البنيوية، وركاكة تمثيلها، ومفارقات سياسات القوى التي دفعت بها، وتبعيتها لسياسات النفوذ الشيعية التي اتت بها، وتطرح اسئلة حول البدائل الممكنة ومستقبل البلاد.

سياسات النفوذ الشيعية طرحت بدائلها من خلال نسف المبنى الميثاقي للصيغة الوطنية اللبنانية، ودولة حزب الله، وتحويل الدولة اللبنانية الى رافد لسياساتها الريعية والزبائنية، ومنطلقا لسياسة انقلابية شيعية بقيادة النظام الاسلامي في ايران. هذا الاداء سوف يستحث ممانعات داخلية متنوعة تفتح باب الخيارات المفتوحة على خطوط الداخل والخارج عند كل الفرقاء، فالمكابرة لدى سياسات النفوذ الشيعية لن تقنع احدا خارج دواخلها، ولن تثني أحدًا.

اما السيناريو الامثل فهو العودة الى القاعدة الذهبية التي تقوم على الحوار والتوافق من اجل اجراء مراجعات بنيوية تطال الآليات الحكومية والتدبيرية على قاعدة مثلثة: شرعية الكيان الوطني وموجباته السيادية، تكريس الحقوق الاساسية قاعدة في مجال تصريف السياسات العامة على تنوع مواقعها وموضوعاتها، تحرير الحوكمة من سياسات النفوذ باتجاه العمل المهني على اساس بنية فدرالية تعتمد قاعدة في تقسيم العمل الحكومي بين حكم اتحادي ومحلي، وميثاق وطني وعقود اجتماعية جديدة ينتظم على اساسها الكيان الوطني.