سوسن الأبطح/من هم الإرهابيون في باب التبانة؟

249

من هم الإرهابيون في باب التبانة؟
سوسن الأبطح/الشرق الأوسط

02 تشرين الثاني/14

الفقر وحده لا يصنع إرهابا، ولنا في الهنود – الذين لا تزال غالبيتهم الساحقة توسم بأنها من أفقر أهل الأرض – عبرة، لأنهم بقوا من أكثر الشعوب سلاما وسكينة. واحتمل الصينيون الصابرون مع الفقر المدقع الديكتاتورية، وقبضة الحكم الحديدية، ولم يتطرفوا ويتشددوا ويهددوا بتفجير البسيطة وتحويلها إلى خراب، بل جاهدوا وثابروا، كما النمل الجرار، وهم ماضون في حربهم السلمية، الصامتة لإخراج بلادهم من محنتها.

ما تدفق على منطقة «باب التبانة» في طرابلس اللبنانية، وحدها، من مئات ملايين الدولارات في السنوات الست الأخيرة، وهي في مساحتها وعدد سكانها لا تعدو أن تكون زقاقا صغيرا في بكين أو دلهي، لا يحلم بفتاته فقراء تلك البلدان الآسيوية القابضة على جمر العوز. لكن أهل المعروف قدموا أموالهم في غالبيتها سلاحا مدمرا ورشاوى متفرقة لشراء الذمم وسواعد رجال المنطقة وفتيانها، بدل أن يجعلوها مدارس ووظائف وخلاصا للمعذبين. كان بمقدور سياسيي الخير، بربع المبالغ التي أهدروها ونذروها للموت والدمار، أن يبنوا مصنعين كبيرين، وعددا من المدارس، لتنشغل التبانة ومعها جبل محسن عن فتنتها وتنصرف عن غلها وبغضائها.

تكمن أهمية «باب التبانة»، التي طبقت شهرتها الآفاق، بأنها نموذج، له ما يشبهه وقابل للتفجير، في مناطق لبنانية عدة. منطقة مهمشة، تراكمت عليها المظالم، وأنهكتها الحروب والضغائن، وأبقيت بعد انتهاء الحرب الأهلية جرحا مفتوحا، رغبة في استغلالها حين تحين الحاجة.

منذ ثمانينات القرن الماضي وهذه المنطقة الصغيرة تنكب وتدمر، ويقتل أهلها، ثم يأتي من يوهمها بأنه يحنو عليها ويبلسم جراحها، مرة برشاوى مالية صغيرة، ومرة أخرى بإعاشات غذائية، أو صرف فواتير استشفائية، دون أي إرادة حقيقية في انتشال هؤلاء من الحفرة التي هم فيها. توقفت الحرب في كل لبنان، وأبقي جرح باب التبانة نازفا، كي يسهل لحظة الحاجة شراء أهلها بأبخس الأثمان.

لن أنسى مشهد الأب الذي ذرف دموعا وهو يخبرني كيف أنه تعب من التذلل على أبواب السياسيين ليدخل أطفاله إلى المدرسة حتى نهشه اليأس، ولا الشاب الذي يروي أنه يقاتل ويحمل السلاح كي يؤمّن ثمن «تشريج» هاتفه الجوال، أو مشهد شاب آخر يحكي كيف أنه ورفاقه يطلقون آلاف الرصاصات في الهواء في الليلة الواحدة، رغم أنها تروع الأهالي، عند ظهور إحدى الشخصيات على التلفزيون، لأن ثمة من يمدهم بالذخيرة ويطلب إليهم ذلك، ويدفع لهم بدل أتعابهم. ليس ما نقوله بجديد، بل هو معروف ومستمر بوقاحة. هناك ليال قتالية معلوم أنها كلفت نصف مليون دولار من الذخيرة. وما عليك سوى أن تحتسب 20 جولة دام بعضها 15 يوما وأكثر، كي تقدر كم من الأموال صرف للتدمير، وحجم الألاعيب الخبيثة وخطورتها.

باب التبانة التي تمترس فيها إسلاميون متشددون، وقاتلوا الجيش منذ أيام، وعرف أنهم كانوا على تواصل مع مجموعات أخرى على طول لبنان وعرضه، ونجا من مشروعهم الانقلابي الشمال اللبناني كله، كانوا محتضنين من بعض سكان باب التبانة. الاعتراف بذلك بات ضرورة، لا لاتهام الأهالي الذين كانوا بحاجة لفتات مساعدات يقدمها هؤلاء لهم، وإنما للتذكير بأن من يريد إنهاء حكاية الإرهاب عليه أن يتوقف عن تحويل الناس إلى شحاذين، ومن ثم ضخهم بالخطابات التحريضية، وحقنهم بالبغضاء، وشحنهم بالأفكار المشددة، ثم تمنينهم بتزويدهم بالسلاح كي يدافعوا عن أنفسهم ضد «الأعداء»، وعندما تهدم بيوتهم ويقتل أولادهم يأتيهم بلباس المنقذ والمسعف ليلعب دور «البطل المخلّص» الذي يستحق أن يفوز في الانتخابات. هذه الحلقة المفرغة هي الوصفة التي تتكرر منذ سنوات.

بعد حرب الأيام الثلاثة مع الإسلاميين الأسبوع الماضي دمرت التبانة كما لم تدمر من قبل، وشرد أهلها في ليلة ظلماء كما لم يحدث سابقا، وتبين أن المنطقة نجت بأعجوبة من مجازر بعد أن كشفت 17 عبوة مفخخة زنة إحداها 20 كيلوغراما، زرعها المسلحون، للإيقاع بالجيش، وكانت كفيلة بإحداث مجازر هائلة بين المدنيين.

غاضبون أهالي باب التبانة، ويشتمون الجميع. يعرفون أنهم ضحايا، لكنهم يجهلون كيفية الخروج من الدائرة الجهنمية التي حيكت حولهم. ها هي ملايين الدولارات ترصد من جديد، يقال إنها هذه المرة ذاهبة للإعمار. البعض يرى أنها ستصل إلى أكثر من مائة مليون دولار، وغالبية تعرف أنها ستذهب سرقة لمقاولين ومتنفذين، ومنتفعين. لا أحد حتى اللحظة يتحدث عن أي مشروع لإيجاد فرص عمل، ربما على الأهالي أن ينتظروا مائة سنة إضافية ليمنحوا ترف الحصول على مدخول يحصّن كرامتهم.

استغلال الفقر يجب أن يعاقب عليه القانون. والتواطؤ المتواصل، على الفقراء، لإبقائهم هم وسلالاتهم من بعدهم بائسين، معوزين، ليسهل توظيفهم بأبشع المهمات وأفظعها، هو بمثابة ارتكاب جريمة جماعية. كل ما يقال عن التآمر السياسي الذي يتعرض له أهالي باب التبانة ليس كافيا. أي كلام عن أن سياسيي طرابلس بدّلوا من سلوكهم ليعيدوا الكرامة إلى أكثر أهالي مدينتهم حاجة إليهم، لا يزال غير مقنع على الإطلاق. فالكلام تكذبه الأفعال. والخوف كل الخوف، بعد أن بدأت المعارك تنتقل إلى السوق التاريخية العتيقة، المركز الاقتصادي الأهم، وصولا إلى وسط المدينة، أن يكون الهدف هو تحويل طرابلس بأمها وأبيها إلى «باب تبانة» كبيرة ومخيفة. لذلك، على أهالي العاصمة الثانية أن يحذروا مما ينصب لهم من شراك قاتلة، قد تودي، إذا ما وقعوا بحبائلها، بلبنان كله.