منى الركابي: عقلانية إسلامية من فرنسا

137

 عقلانية إسلامية من فرنسا
منى الركابي/النهار/22 آب 2016

قرأت لصهيب بن الشيخ مفتي مرسيليا السابق¶ أفكاراً تغاير غوغائية أفكار الاسلامويين الأوروبيين لجهة دعوته الى إصلاح الخطاب الديني الاسلامي وانتاج قراءة حداثية للنصوص، وليس كما يدعو غيره الى تغيير المجتمعات الغربية لتلائم التصورات الاسلامية للحياة الدينية والاجتماعية، أو تبرير القتل بـ”التهميش الاجتماعي”. ولد صهيب في جدة – السعودية، حين كان والده ممثلاً للحكومة الجزائرية الموقتة، ثم أول سفير لها بعد الاستقلال. وحاز شهادة دكتوراه في الدراسات الدينية من جامعة السوربون في باريس، وعيّن مفتياً لمرسيليا عام 1995، وكان عضواً مؤسساً للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، ثم استقال عام 2005.

كونه أكاديمياً مثقفاً يوضح مفهوم العلمانية في فرنسا ودورها في التشريع الوضعي المتغيّر والمتطوّر، وليس تشريعاً نصياً جامداً، ويوضح قانون 1905 الذي يطالب رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس بمراجعته للحؤول دون تسهيل التمويل الخارجي للمساجد، ويقول إنّ هذا القانون يمنع الدولة الفرنسية من أن تقرّ بأي دين من الأديان أو أن تموّله بما فيها الكاثوليكية (كيف تهدم الكنائس وتبنى المساجد؟ ولماذا؟) وأنّ الدستور يجبر الدولة على احترام حرية الفرد في اختيار معتقده وحريته في ممارسة شعائر دينه. ولا يرى جدوى في سعي الحكومة الى وضع الهبات الاسلامية تحت الرقابة الكاملة، ويقول: “هذا تخبط في فهم الوقائع، فأزمة الاسلام والمسلمين اليوم هي أزمة فكرية وتفسيرية وليست مشكلة تمويل”. ويضيف أنّ “الأزمة التي نحن فيها اليوم، المتمثلة في الاجرام والاعمال اللانسانية المرتكبة باسم الاسلام، لا علاقة لها بوجود الدين الاسلامي في فرنسا، وليست خصوصية من خصوصيات هذا الوجود”.

ويلفت الى موجة التديّن المتشدّد والمتطرّف والعنيف الذي يجتاح العالم الاسلامي، والعالم كله، ويضع الاصبع على الجرح، ويدعو الى حل، لا يلقيه على الآخرين، فيقول: “المطلوب منّا سواء في فرنسا أو غيرها، في العالم الاسلامي أو خارجه، هو النظر بجدية والتأهب بشجاعة وحزم لإصلاح الخطاب الديني وترقيته وتخليصه من المفاهيم التي تدعو الى الانغلاق المذهبي أو الى كراهية الآخر أو اقصائه، اي انتاج قراءة حداثية للنصوص الاسلامية في ضوء الحريات الأساسية المجمع عليها، كالحرية الفردية وحرية التعبير والتعددية والمساواة. فهذا هو المعروف الذي أمرنا به القرآن، وهذا هو المنطق الذي أوصلتنا اليه عقولنا ولا ضير إن خالفنا مفهوم اسلافنا أو أزلنا القداسة عن تفسيراتهم لدينهم ودنياهم”.

كلام بليغ يبادر في طرح الحل والدعوة الى عمل اصلاحي بدءاً بفرنسا حيث الحريات متاحة فيها وغائبة في غيرها. وكلام صهيب يعبّر عن فكر اسلامي مندمج في المجتمع الفرنسي، وليس خارجاً من “الغيتوات الاسلامية” فيها. وهو فكر تنويري على شاكلة فكر رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وغيرهما، في القرنين التاسع عشر والعشرين، يقطع الطريق على اليمين الفرنسي الذي ينفخ في نار خطاب متطرف يواجه التطرف الاسلامي. ويأخذ على الاكاديميين من أمثاله، والسياسيين والمفكرين والمثقفين من أبناء الجالية الاسلامية في باريس وغيرها من المدن الفرنسية، أنهم أهملوا تسيير مؤسسات دينهم وتركوها في أيدي أناس هم في العلم أكثر ضحالة وأقل كفاية، و”أمست إمامة المساجد مهنة من لا مهنة له، وبات أصحاب التكفير، وذوو الهوس بالأشكال والمظاهر يدافعون ذوي الألباب والعقول”. وخشي أن يستغل اليمين المتطرف تخوّف الرأي العام الفرنسي وازدياد حذره وغضبه بسبب الأعمال الارهابية لتأليبه على المسلمين، خصوصاً بعدما “استقر لدى جمهور الناخبين الفرنسيين على أن الخطاب الاسلامي الحالي، والذي ينتشر في شبكة الانترنت أكثر منه في المساجد، يؤدي الى الكراهية والعنف”.

وعلّق على قول البابا إنّ “الإرهاب ينمو عندما لا يكون هناك خيار آخر وعندما يعبد المال ويوضع بدلاً من الانسان في قلب الاقتصاد العالمي”، فأثنى عليه بأنّه قول “حق وفيه الكثير من الحكمة”، وقال: الإجرام المرتكب باسم الاسلام اليوم انما هو مرض خطير يستدعي تشخيصه العودة الى أسبابه والكشف عن جراثيمه، فالسبب قبل أن يكون قراءة متشدّدة وحرفية للدين، هي الظروف السياسية والملابسات الاجتماعية التي وفّرت الحظوظ لهذه القراءة اللاعقلانية أن تنمو وتنتشر. فالظلم الاجتماعي والسياسي والفقر والتجهيل وسد الأفق أمام الآلاف من الطاقات الناشئة، كلّها أسباب تدفع بها الى تبني الفكر الغيبي الذي يحكم بالاعدام على نفسها قبل أن تحكم به على الآخرين. (إذا كان يقصد بهذا الكلام فرنسا، فقطعاً لا يقصدها وحدها) لكنني لا أريد بقولي هذا أن يفهم ولو من بعيد أنه التماس للاعذار أو لتبرير أعمال الارهابيين، فجرم هؤلاء بجرمين: جرم في حق البشرية، وجرم في حق الدين الذي شوّهوه وصوّروه بأبشع صوره مزعزعين بذلك عقيدة الملايين”.إنها دعوة عقلانية الى اندماج المسلمين في مجتمعاتهم الغربية، والعيش وفقاً لقوانينها الوضعية التي تحفظ حقوقهم الدينية والدنيوية، فيصح فيهم إذذاك قول الإمام علي: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.

وليس هذا حال الخطاب الاسلامي الحالي المتطرف، الذي يزيد الشرخ بين المسلمين والأوروبيين عموماً، ولن يكون لمصلحة وجود الجالية الاسلامية واندماجها.

■ العربي الجديد، الجمعة 19 آب.