أحمد عدنان: أزمة الصحافة اللبنانية

172

أزمة الصحافة اللبنانية
أحمد عدنان/العرب/29 أيار/16

بين حين وآخر تعلو الصرخات في المشهد الصحافي اللبناني، فصحيفتا النهار والمستقبل لم تسددا الرواتب منذ أشهر، والسفير تواصل صرف العشرات من موظفيها ويوما يريد ناشرها طلال سلمان إغلاقها ويوما يريد استمرارها.

تركيبة الصحافة اللبنانية لها خصائصها، فالغالب أنها منابر أصيلة أو وكيلة لزعيم أو حزب سياسي، فكما هو معلوم أن صحف النهار والمستقبل والجمهورية واللواء تعبر عن قوى 14 آذار، وصحيفتا الأخبار والسفير تعبران عن قوى 8 آذار، أما صحيفة الديار لمالكها شارل أيوب، فمع من دفع، وظهرت تجربة صحيفة صدى البلد كمشروع تجاري صرف، لكنها فشلت عن جدارة بسبب سوء التنفيذ وضعف الكفاءات القيادية وضبابية الرؤية.

ولو أردنا بعض الشيء توضيح الصورة السابقة سنقول ما يلي، صحيفة المستقبل، هي ملك آل الحريري ولسان حال تيار المستقبل، جمهورها سني بالدرجة الأولى، ولا فرق بينها وبين صحيفة اللواء التي يقودها صحافي محترم هو صلاح سلام، إلا الصفحات الإسلامية التي تميز اللواء، فتيار المستقبل يرى نفسه تيارا ليبراليا ويظن جمهوره كذلك.

صحيفتا السنة محدودتا التأثير والانتشار، كانت المستقبل متوهجة زمن رفيق الحريري كتيار المستقبل ومؤسساته الإعلامية، لكن بعد استشهاد الحريري الأب تغير المشهد كليا، ولم يبق في الصحيفة الزرقاء ما يستحق القراءة إلا الملحق الثقافي، لكنه أغلق قبل فترة. وفي زمن الحريري الأب ضمت خيرة الكتاب اللبنانيين والعرب، لكن منهم من توفّي ومنهم من غادر، فلم يعد هناك داع لقراءتها كاللواء تماما.

وإذا انتقلنا إلى الصحف “المسيحية”، سنجد فضيحة اسمها شارل أيوب، كان قد نشر قبل سنة أو سنتين رسالة مفتوحة إلى بشار الأسد يطلب تمويل الصحيفة متعهدا بعدم صرف المعونة على القمار، وطالب من الرئيس السوري الرد فقط، ولا يهم إن كان موافقة أو رفضا، وإلى الآن لا نعلم ماذا كان رد الأسد العملي على رسالة أيوب المنشورة، لكن الصحيفة مستمرة، يوما مع عاصفة الحزم ويوما ضدها، وقد قرأت فيها شخصيا أقذع الألفاظ في حق ميشال عون ذات يوم، وفي يوم آخر مجدت الصحيفة عونا بأقدس الكلمات.

الديار هي الأخرى محدودة الانتشار والتأثير، ومنذ عرفناها وهي في أزمة مالية خانقة.

صحيفة الجمهورية، وهي من أحدث الصحف اللبنانية، ملك آل المر، الزعامة المتنية الأرثوذكسية، في الصحيفة شيء من الرصانة وخطها السياسي واضح لمصلحة 14 آذار، ولم نسمع تأثرها بأزمة مالية.

أما صحيفة النهار تحتاج إلى مبحث أطول لا مجال له هنا، لكننا لو أردنا الاختصار، فهي من أعرق الصحف اللبنانية وأكثرها احتراما، ولا يمكن قراءة تاريخ لبنان الحديث من دونها، لكنها تلقت ضربة مزدوجة قضت على مسيرتها التصاعدية أو المستقرة، استشهاد جبران تويني ناشرها بعد استشهاد سمير قصير أحد أبرز كتابها في خضم ثورة 14 آذار، ووفاة عرابها غسان تويني.

تتلاقى في النهار مستويات متنوعة من الهويات، العصبية الأرثوذكسية داخل العصبية المسيحية، ومسحة استقلالية لبنانية، وربما تكون الصحيفة الوحيدة لبنانيا التي تأسست لغرض الصحافة، لكنها اليوم شاخت وتوقف قطار تحديثها رغم محاولات الإدارة الراهنة، تجربة استثمارهم في الصحافة الإلكترونية لم توفق إلى الآن، أصبحت صحيفة النهار نسخة موازية لصحيفة اللواء برودة وغبارا، وحضورها يعتمد على بعض كتابها بعد إغلاق ملحقها الثقافي.

في المقلب الآخر، تأسست صحيفة السفير قبيل الحرب الأهلية بقليل، وشعارها كاشف لهويتها واتجاهها “صحيفة لبنان في الوطن العربي وصحيفة الوطن العربي في لبنان”، وقفت السفير في صف الفلسطيني والسوري والإيراني كخلاصة لمراحل متعددة لم تخل من نفحات خليجية وليبية وعراقية، واعتبرت ذات زمن المرادف “الإسلامي/العربي” للنهار “المسيحية/اللبنانية”، وقدمت السفير أهم الصحافيين والكتاب، وهي اليوم تعيش أيامها الأخيرة.

صحيفة الأخبار من أحدث الصحف اللبنانية، أسسها جوزيف سماحة الصحافي اللبناني المرموق والمعروف، وتتميز هذه الصحيفة رغم اختلافي الجذري معها سياسيا في أنها تحتفظ بروح الصحافة المشاكسة، صحيفة شابة وحيّة وسط كومة من المسنين، بعد وفاة سماحة خلفه صحافي ممتاز هو خالد صاغية، لكنه أقصي مع قسم واضح من فريق التحرير بعد الثورة السورية، وتولى مسؤوليتها مباشرة إبراهيم الأمين، ومنذ ذلك الحين أصبحت الأخبار مثل غيرها وربما أسوأ، بوقا سياسيا لما يسمّى “حزب الله”.

الإشارات السابقة مقدمة لخلاصة صارمة، في لبنان يوجد صحافيون، لكن الصحافة لا وجود لها، إنها نشرات سياسية لزعامات وأحزاب غالبا، وحين تحضر النشرات تنتهي “صناعة الصحافة”.

انتميت إلى مدرسة اعتبرت الصحافة صناعة لا رسالة، وحين ننظر إلى المشهد الصحافي في لبنان، نلاحظ أولا أن عدد الصحف الورقية في السوق يتجاوز حجم السوق الإعلانية والتجارية بكثير، وحتى على صعيد القراء، عدد الصحف قياسا بنسبة المقروئية متضخم للغاية.

في الصحافة اللبنانية لا توجد صفحات “محليات” جدية، وأعني تحديدا ذلك القسم الصحافي الذي يتناول قطاعات الخدمات في دول الخليج ومصر، والسبب أن أغلب الصحف تتبع مرجعيات سياسية حاكمة، وهذه المرجعيات لا يمكن أن تمول صحيفة تنتقدها.

اعتمدت بعض الصحف اللبنانية زمنا طويلا على التمويل الخارجي، لكن هذا التمويل انقطع كليا ونهائيا لعدة أسباب، الظروف الاقتصادية المتغيرة للبلدان الممولة وظروف الصحافة فيها، سيادة الصحافة الإلكترونية الأوفر تمويلا والأوسع انتشارا، وتأثيرها أن المطبوعات اللبنانية لم تستثمر أبدا التمويل الخارجي الذي امتد زمنا طويلا لتصل إلى مرحلة استقرار اقتصادي.

فعلى سبيل المثال، ليس منطقيا أن تقوم السعودية بتمويل صحيفة لبنانية تبيع ألف نسخة وبعض الصحف السعودية التي توزع عشرات الآلاف من النسخ تصرف عشرات الموظفين، وليس منطقيا أن تقوم السعودية بدفع 8 مليون دولار على صحيفة ورقية بينما تستطيع تمويل صحيفة إلكترونية بـ80 ألف دولار، ولو افترضنا أنها دعمت هذه الصحيفة أو تلك لا يعقل أن يستمر هذا الدعم إلى الأبد.

تنتهي أزمة الصحافة اللبنانية بإعادة الاعتبار الى الصحافة أولا، وقراءة مؤشرات السوق الإعلانية بصورة دقيقة ثانيا، أما ثالثا -الأهم- مواكبة روح العصر.

الصحافة اللبنانية بحاجة إلى الدمج مع بعض الصحف، وبحاجة التحول الإلكتروني مع صحف أخرى، ويجب أن يخضع الجميع لقيم المهنة وشروط صناعتها.