منى فياض: المعرفة بين أسلمة العلم والخطاب الحر المفتوح/زهير قصيباتي: لماذا يتحدّى الحرس السعودية/محمد شومان: مستقبل الإخوان المسلمين في مصر

337

المعرفة بين أسلمة العلم والخطاب الحر المفتوح
منى فياض/الحياة/10 شباط/16

توفي في 18 يناير الماضي، المؤرخ وفيلسوف العلم، المصري عبدالحميد صبرة غير المعروف كثيرا في عالمنا العربي لأنه قضى معظم حياته بين إنكلترا حيث درس ودرّس، وأميركا حيث درّس في هارفرد تاريخ وفلسفة العلوم خصوصا عند العرب. قضى صبرة الكثير من حياته في إعادة النظر في مفهوم الثورة العلمية مؤكدا أن دراسة تاريخ العلم لا تتم بمعزل عن السياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي إما تساهم في تقدم العلم والتفكير العلمي، أو تؤدي إلى تدهور العلم وسيادة الخرافة واللامعقول. وضع صبرة العديد من المؤلفات والترجمات باللغتين العربية والإنكليزية، فضلا عن تحقيقاته الرائدة في التراث العلمي العربي، بحيث تشكل هذه المؤلفات أساسا رصينا لأجيال جديدة من مؤرخي العلم تساعدهم على فهم التراث العلمي العربي فهما صحيحا بعيدا عن النزعة التراثية التي تتغنى بالماضي أو تلك التي تنفي أي إبداع قدمه العقل العربي. ومن بين من تتلمذوا على يديه الباحث المعروف توبي أهف، مؤلف كتاب فجر العلم الحديث المترجم إلى العربية عن عالم المعرفة. حصل عبدالحميد صبرة على العديد من الجوائز والأوسمة لعل أبرزها وسام جورج سارتون الذي ناله من جمعية تاريخ العلوم عام 2005، وهو المصري والعربي الوحيد الذي نال هذا الوسام في تاريخ هذه الجمعية منذ عام 1955. بنظري من أهم ما قدمه لنا صبرة هو إضاءته لسبب تخلف العرب المسلمين علميا. نسمع كثيرا عن أسلمة العلوم التي باعتقاد مطلقيها أننا بهذا، وبهذا فقط، يمكننا أن نتقدم وأن نحافظ على مجتمعاتنا من التأثيرات الغربية السلبية.

وعندما يدور الحديث عن البحث العلمي وتأمين ما يلزم لتطويره كي يقوم بدوره لا يعني ذلك أننا كباحثين ننشد حرية شخصية أو مطالب خاصة. العكس صحيح، لأنه مسألة تقع في صلب الهموم المجتمعية التي يرغب الجميع في العمل على تطويرها. هذا وحده ما سوف يساهم في تخطي العالم العربي حالة التدهور المريعة التي يعاني منها. الأمر الذي يسهم في تطوير مجتمعاته من أجل ازدهارها في ظل حكومات ديمقراطية تحترم حقوق الأفراد وتعمل على توفير مجتمع نمو ورفاهية. وسبق لتقرير التنمية الإنسانية أن أشار إلى أن أهم معوقات تقدم العرب التأخر المعرفي وتقييد حرية التعبير ووضع المرأة.

فهل حقا أن تطبيع العلم أو أسلمته هو الطريق إلى التقدم المعرفي؟ وماذا يعني هذا؟ وهل هذا مطلب جديد؟ هنا علينا أن نذكّر أولا بملاحظات المفكر الإسلامي عبدالكريم سروش المبدئية في أن مسألة إسلامية المعرفة تؤدي إلى الخلط بين العلم وبين الدين والمعرفة الدينية. فأن نكون علميين يعني أن نتقبل نتائج الأبحاث العلمية لأنها لا تحمل صفة معينة، فكما أن ليس هناك ماء ديني أو غير ديني، كذلك ليس هناك علم إسلامي وعلم غير إسلامي أو بحث إسلامي وآخر غير إسلامي. وكما أن للحكومات وظائفها وأدوارها، فللعلم أيضا وظائفه وأدواره. فالدين كنصوص يختلف عن فهم الدين، والمطلوب أن نحمّل الدين عبئاً خفيفا ما يطلق عليه سروش الدين الأقلوي. لكن أسلمة العلم ليست مسألة مستجدة أو طارئة لمواجهة التحديات الحالية؛ بل هي في صلب الفهم الإسلامي لعلاقته بالعلم.

عند محاولة فلاسفة ومؤرخي العلم الغربيين تفسير النجاح الفريد للعلم الحديث في الغرب من زاوية البحث في قصور الحضارات الأخرى، يشيرون إلى أن الأمر لا يرجع إلى نقص في التقنية العلمية وإنما إلى قصور في المجال الثقافي ككل؛ فقد أقامت تلك الثقافات قيودا على المشاركة المعرفية وعلى الخطاب العام. وباختصار فإنه وبدافع الانفتاح وحب الاستطلاع ولدوافع دينية، بلغ العالم العربي الإسلامي من القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر أعلى مستوى من التقدم العلمي، أما بعد ذلك وربما من القرن الثاني عشر فقد بدأ في التدهور، ولم يحدث هذا باطراد في كل الميادين. ولكن التقدم العلمي لم يصل إلى الثورة العلمية.

قامت الثورة العلمية في أوروبا على أساس التطورات في علم الفلك، وكان بعض علماء العرب قد توصلوا إلى نماذج فلكية قريبة من تلك التي لدى كوبرنيكوس أو متماثلة تماما مع اختلافات ضئيلة في بعض مقاييسها، لكن لم يستطع ابن شاطر ولا من خلفه، أن يقوموا بالوثبة الكبيرة نحو نظام مركزية الشمس مما يمكن أن نطلق عليه الباب الميتافيزيقي للثورة العلمية الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وبدلا من ذلك فقد جمد العالم العربي وبدأ في التدهور. لماذا لم يتابع العرب السير إلى “الميل الأخير” حتى الثورة العلمية الحديثة؟ والتي لم تكن تتطلب أكثر من نماذج رياضية؟

لأن الانتقال الميتافيزيقي كان بلا شك سيحدث انشقاقا فكريا مع النظرة الإسلامية التقليدية إلى الكون كما كان يفهمه العلماء. التحول الكوبرنيكي عُدّ نقلة فكرية أحدثت قدرا كبيرا من الصدام مع الدوائر الدينية والفكرية في الغرب. الأمر الذي تم تفاديه في العالم العربي الإسلامي. فتوقف العرب عند حافة واحدة من أكبر الثورات الفكرية في التاريخ، ثم انحدروا بعد أن أخفقوا في الوثبة الكبرى. ومن الملاحظ أن الأقطار الإسلامية تعلقت إلى اليوم بالتقاويم القائمة على الدورات القمرية. أما عن العوامل التي تسببت في إخفاق العلم العربي أن ينجب العلم الحديث فإنها تبدأ بالنسبة إلى البعض من العوامل العرقية (التي تأكد خلطها علميا)، إلى سيطرة السنّية الدينية، إلى الطغيان السياسي، أو عوامل متصلة بالبواعث النفسية والعوامل الاقتصادية، فضلا عن إخفاق فلاسفة الطبيعة العرب في أن يطوروا ويستخدموا المنهج التجريبي. مهما يكن إن جوهر ما حصل في العالم الإسلامي كان “تطبيعا” أو أسلمة للعلم؛ فأخضعت الحقيقة العلمية لكي تتماشى مع مقتضيات الثقافة الإسلامية المنسجمة مع الدين. إن “تطبيع” العلم في هذا السياق إنما يشير إلى توطين العلوم القديمة أو كما كانت تسمى، علوم الأوائل، ومن ثم إلحاقها بالمنظومة الفلسفية والثقافية المحلية، لا على أساس دمجها الكامل وإنما لتتخذ الطابع النوعي من الاستقلال والشرعية عن المحاذير الدينية للثقافة المحيطة. لكن في العالم العربي الإسلامي كانت المعركة الحقيقية أن ينال العلم استقلاله بعد أن يصبح إسلامياً أي خاضعا بالكامل للسلطة والثقافة الدينيتين. وهنا يجد صبرة أن تطبيع العلوم الأجنبية، أو بالأحرى اليونانية، في الإسلام هو ما أدى (للمفارقة) إلى تدهورها. هذا “التطبيع” أو “أسلمة العلم”، أدّى إلى تمثُّل العلوم اليونانية وفق مقتضيات الثقافة الإسلامية بما في ذلك الدين. إنه نسق من التقليد الفلسفي الإسلامي، حيث يفترض أن تكون الحقيقة العلمية في نسق متسق ومنسجم ومتناغم مع الدين. هذا ربما ما يوضح كيف يمكن للقيم الثقافية الكامنة في مجتمع أو حضارة أن تشجع أو تؤخر البحث العلمي. ربما التكريم الحقيقي الذي يمكن أن نقدمه لعبدالحميد صبرة هو في أن نعيد النظر في السبل التي أدت، وتؤدي دوما، إلى تقدم العلم حتى نخرج من سباتنا الثقافي والعلمي. فاللغز الذي لم يحله العرب بعد هو أن الطريق إلى العلم الحديث والمعرفة والتقدم والنمو، يظل الخطاب الحر المفتوح من دون قيد أو شرط.

 

لماذا يتحدّى «الحرس» السعودية؟
زهير قصيباتي/الحياة/10 شباط/16

من نافذة ميونيخ إلى «باب السلامة» على الحدود السورية- التركية، كم بقي من الوقت لدى الكرملين ليعلن، أن الظروف باتت مهيأة لفرض التفاوض بالقوة على المعارضين للنظام؟ ماذا تبدّل بعد تجميد محادثات جنيف التمهيدية، بسبب إصرار النظام على تحجيم وفد الهيئة العليا للتفاوض؟ لا رواية الكرملين تبدّلت حول دقة طائراته الحربية في اصطياد «الإرهابيين»، ولا مطالبته بأدلة على استهداف مدنيين، ولا موجات القصف العشوائي التي نشرت ذُعراً دفع موجات جديدة من النازحين إلى الحدود السورية- التركية. صحيح أن معنويات النظام السوري يرمّمها قيصر الكرملين بالقوة، فيما يحطِّم معنويات الفصائل المقاتلة، لكن الأكيد أن موسكو وجيشها ولو احتلا سورية بالكامل، يساندهما حلفاء النظام، لن يتمكّنا من فرض تسوية سياسية بالتوابيت والنعوش. وما بات بديهياً هو أن احداً من قادة المعارضة أو فصائلها، بعد سقوط أكثر من 260 ألف قتيل وتدمير عشرات المدن ومئات البلدات، لن يجرؤ على توقيع صك استسلام لنظام اتهمته الأمم المتحدة بارتكاب جرائم إبادة، ويظن أنه يستعيد شرعية بات بعض الغرب لا يمانع في التعامل معها. الذي تبدّل بعد محطة جنيف المتعثّرة، هو تقرير محقّقي الأمم المتحدة عن دولة السجون وإخفاء البشر قسراً، وتغييبهم من الحياة، وتأكيدهم أن ممارسات النظام تفوق ما يرتكبه «داعش» و «جبهة النصرة». ومطالبة اللجنة الدولية المعنية بالتحقيق، باللجوء إلى الفصل السابع من ميثاق المنظمة، لوقف جرائم «الإبادة»، هي عملياً رسالة إلى الكرملين بأنه يخوض حرباً دفاعاً عن هذه الإبادة. وبافتراض صمت الروس أمام نتائج التحقيق، واستكمالهم خطة الغارات المكثّفة، لمحاصرة الفصائل المقاتلة في حلب، فالحال أن النظام لم يعد يقوى على حرب استنزاف طويلة، بعد 5 سنوات من الصراع. يعقّد ذلك مهمة موسكو التي لن تجد في كل الأحوال تجاوباً من المعارضة، غير تلك التي تسبح في فلك النظام، يتيح لها القول إنها ستقطف ثمار تدخُّلها العسكري، بتسوية سياسية تنقذ النظام، وتمدّد عمره.

صحيح أن روسيا ما زالت تسجّل نقاطاً بأثمان دموية مرتفعة، وتشدّد الضغوط على تركيا والحملة النفسية على رئيسها رجب طيب أردوغان الذي اتهمته بالسخافة، لتحذيره من خطة «دويلة علوية»، لكن الصحيح أيضاً، أن موسكو باتت عملياً في موقع العاجز عن الحسم العسكري، إلا إذا اختارت بدء مواجهات برية… هذه هي اللحظة التي باتت فصائل معارضة تراهن عليها، مستعيدة تجربة دحر السوفيات في المستنقع الأفغاني. ما تبدّل أو طرأ بعد تعثُّر جنيف، قد يكون محاولة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، اختبار جدية الولايات المتحدة في الحرب على «داعش» لاستئصاله في سورية، عبر طرح المساهمة بقوات برية ضمن جهود التحالف الدولي، وبقيادة أميركية… أليس هدف الروس أيضاً كما يردّدون ليل نهار، هو ضرب الإرهاب؟ وحتى في بريطانيا وفرنسا، يسود تشكيك بقدرة الضربات الجوية على حسم المعركة مع «داعش»، بالتالي كلما طالت الحملة الروسية زاد الضحايا السوريون، وزاد الخراب ومدن الموت والحصار والجوع، ووحده «داعش» يكسب، وما بقي من النظام. والسؤال ليس عن سبب تحدي «الحرس الثوري» الإيراني السعودية أن تُرسل قوات خاصة برية الى سورية لمواجهة «داعش»، ما دام «الحرس» يعتبر الحرب هناك «شأناً داخلياً إيرانياً» على الأراضي السورية (!) بل إن السؤال لا بد أن يتمحور حول ظاهرة ميل الإيرانيين علناً وبجرأة، إلى بثٍّ لمشاهد شبه يومية عن تشييعٍ لضباط كبار من قادة «الحرس» سقطوا خلال معارك الدفاع عن نظام الأسد… هكذا ترسِّخ طهران دورها في «التسوية»، فيما لا تزال واشنطن تتكتّم على «أفكار» روسية لوقف النار في سورية يُفترض أن تُطرح في ميونيخ، خلال اجتماع مجموعة الدعم الدولية لسورية غداً. ولكن ألم يُنقل عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قوله في جنيف إن لا بدّ للمعارضين للأسد من التفاوض تحت القصف؟ لا شيء تبدَّل عملياً منذ تعثُّر جنيف، وصعود معنويات النظام في دمشق، منتفخة بالضربات الروسية الشمشونية. لا شيء تبدَّل سوى مزيد من الوعود الأميركية، موجات القتل قريبة من «باب السلامة» وقوات الأسد تقترب من حصار حلب بغطاء جوي روسي. مليون سوري تحت الحصار، بانتظار عملية سلام يُرجَّح ألاّ تأتي، لأن النظام وعرّابه بوتين يراهنان بكل بساطة على الحسم العسكري، وعلى بقاء إدارة أوباما رهينة للتردُّد والعجز. كل ما وعدت به الديبلوماسية الأميركية، هو جهود لوقف النار في سورية… كل ما توحي به السياسة الروسية هو رهان أكيد على سحق كل من يرفع السلاح ضد النظام، ولو كان عدوّاً لـ «داعش». فكيف يقبل العرّاب بالتنازل عن دوره للتحالف الدولي ضد التنظيم؟ سحق «داعش» لا يخدم استراتيجية الكرملين.

 

مستقبل «الإخوان المسلمين» في مصر
محمد شومان/الحياة/10 شباط/16

تعاني جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر صراعاً داخلياً عنيفاً بين جيلين ورؤيتين في شأن تقييم ما جرى للجماعة بعد الثورة ووصولها إلى الحكم، والاستراتيجية التي يجب أن تتبناها في مواجهة النظام الجديد في مصر، هل تلتزم السلمية أم ممارسة مستويات من العنف، أو ما أطلق عليه «الإخوان» السلمية المبدعة، وهي صياغة وسطية مراوغة تجمع بين السلمية والعنف، مع ملاحظة أن أي إقرار للعنف يفتح الباب لممارسة الإرهاب. وأتصور أن مجريات الصراع داخل الجماعة ونتائجه ستحدد مستقبل الجماعة، لكن هذا الصراع «الإخواني» سيتأثر إلى حد كبير بتفاعل ثلاثة عوامل أساسية هي:

أولاً: موقف غالبية المصريين الذين تغيرت مواقفهم من التعاطف مع «الإخوان» إلى العداء والرفض، وهو ما يمكن وصفه بزوال الحاضنة الشعبية لـ «الإخوان»، على رغم محاولة خطابهم توظيف أفكار المظلومية، و»المؤامرة التاريخية» ضدهم. لكن من يدري فقد يتغير موقف المصريين في حال لم ينجح الحكم الجديد في الحفاظ على شعبيته وتحقيق منجزات اجتماعية وتنموية.

ثانياً: رؤية نظام الرئيس السيسي لجدوى وجود جماعة «الإخوان» في المجتمع والنظام السياسي، وهنا يمكن القول إن «اجتثاث الإخوان» هو العنصر الغالب على هذه الرؤية. صحيح أن هناك إشارات إلى إمكانية المصالحة والتعايش لكنها غير واضحة ولا تعكسها السياسات الفعلية تجاه «الإخوان»، فالملاحقات الأمنية مستمرة، ومحاكمات قياداتهم متواصلة، ولكن من دون تطبيق أحكام الإعدام التي صدرت بحق المرشد وبعض قيادات الجماعة. القصد أن تشدد النظام ضد «الإخوان» لا يخلو من إشارات غامضة الى إمكانية المصالحة، وهو ما يربك حسابات «الإخوان» والعالم الخارجي، لا سيما أن إشارات المصالحة لا تتطرق إلى صيغة عودة «الإخوان» ومشاركتهم في النظام السياسي وهل سيسمح لهم بحزب أم بجماعة دعوية ليس لها علاقة بالسياسة.

ثالثاً: مدى توافر واستمرار الدعم الخارجي والإقليمي لجماعة «الإخوان»، فلا شك في أن هناك دعماً سياسياً ومعنوياً وإعلامياً ومالياً للجماعة من خارج مصر، يأتي في معظمه من قطر وتركيا اللتين توفران ملاذاً آمناً لعناصر الجماعة، كما يقدم التنظيم الدولي لـ «الإخوان» دعماً مالياً، علاوة على تبرعات من أشخاص متعاطفين عبر العالم، ولا شك في أهمية الدعم المالي للجماعة في ظل مصادرة مصادر تمويلها داخل مصر، ومن المرجح أن الطرف الأكثر قدرة على توفير التمويل سيكون الأقرب إلى حسم الصراع لمصلحته داخل الجماعة. وتجدر الإشارة إلى أن الجماعة نجحت في البقاء على رغم الملاحقات الأمنية في ظل الحكم الناصري، بفضل وجود دعم خارجي قدمته بعض الدول العربية، والتي وفرت ملاذاً آمناً لعناصر الجماعة، ومكنتهم من مراكمة ثروات ذهب قسم منها لدعم «الإخوان»، عندما سمح لهم الرئيس انور السادات باستئناف نشاطهم في منتصف السبعينات.

رابعاً: نتائج التفاعلات العربية والدولية المعقدة، والتي قد تعيد تشكيل النظامين العربي والإقليمي في ضوء الحرب على الإرهاب ومواجهة «داعش»، ورؤية أطراف عربية ودولية مختلفة إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وهل لها دور في المستقبل وما حدود وشكل هذا الدور في إطار الترتيبات الإقليمية الجديدة ومستقبل تيار الإسلام السياسي والذي ارتبط بنشأة وتطور «الإخوان»، والأدوار التي قام بها التنظيم الدولي للجماعة. وقناعتي بأن مجمل التفاعلات العربية والدولية ستلعب دوراً بالغ الأهمية في بلورة رؤية الحكم في مصر إزاء «الإخوان» سواء باتجاه الاجتثاث، أو المصالحة أو الاحتواء المشروط.

تفاعل العناصر الأربعة السابقة، مع صراع «الإخوان» الداخلي سيحسم مستقبل الجماعة، والذي لن يكون امتداداً خطياً للحضور الكبير والمؤثر للجماعة في المجتمع والسياسة في مصر، لأن التاريخ لا يكرر نفسه، وهناك متغيرات كثيرة في مصر والمنطقة العربية والعالم لن تحافظ على بقاء واستمرار الجماعة كما كانت، أو حتى بصورة قريبة مما كانت عليه. وهناك لن تجدي فرضية أن وجود واستمرار «الإخوان» كجماعة معتدلة مفيد في مواجهة تطرف بعض جماعات الإسلام السياسي مثل «القاعدة» و»داعش»، لأن «الإخوان» لم يقدموا ما يثبت ذلك قبل وأثناء وصولهم الى الحكم في مصر، فلم ينحازوا إلى قيم وآليات الديموقراطية، وإنما على العكس انفردوا بالحكم وتحالفوا مع تنظيمات تكفيرية إرهابية في سيناء. القصد أن الشكل التقليدي والممتد للجماعة والذي أسسه حسن البنا عام 1928 والثقافة المصاحبة له (السمع والطاعة)، لن تستمر، ولن تستمر الجماعة ككيان تنظيمي متماسك أو موحد، وبالتالي يمكن أن يأخذ مستقبل الجماعة واحداً من السيناريوات الثلاثة الآتية:

أولاً: سيناريو البقاء والاستمرار الرمزي غير الفعال: يقوم هذا السيناريو على قدرة رجال الحرس القديم على حسم الصراع الداخلي لمصلحتهم نظراً إلى ما لديهم من خبرة طويلة ومصادر تمويل ودعم خارجي، لكن انتصار الحرس القديم سيكون مكلفاً للغاية، فقد ينسحب أو يطرد من الجماعة آلاف الأعضاء خصوصاً من الشباب وجيل الوسط، ما يلحق أضراراً بالغة بقدرات الجماعة التنظيمية وفرص تحركها في الشارع، والتجنيد في ظل ظروف أمنية واجتماعية معادية لخطاب «الإخوان»، وبالتالي ستظل الجماعة متمسكة بأفكارها القديمة، وتنظيمها السري، وأساليبها في العمل، مع انتظار أن يسمح لها الحكم الجديد بالعمل الدعوي وتقديم الخدمات، أي أن حضورها وفرصها في التوسع والانتشار ستكون رهناً بحسابات النظام، والذي لن يمنحها ما كان معمولاً به في ظل حكم الرئيس حسني مبارك. ووفق هذا السيناريو فإن الجماعة ستبقى في شكل رمزي، سواء كان سرياً أو علنياً، لكنها لن تحوز مرة ثانية القوة والتأثير. وأتصور أن هذا الاستمرار التاريخي الضعيف للجماعة له في التجربة المصرية أكثر من نموذج أشهرها الشيوعيون و»مصر الفتاة» وحزب الوفد، فهذه التيارات ظهرت قبل ثورة 1952 ثم عادت إلى الحياة الحزبية في السبعينات من دون أن تعود إلى سابق قوتها وتأثيرها، لأن ظروف النشأة والنمو التنظيمي لها اختلفت تماماً بعد مضي عشرات السنين، فقد تغيرت أوضاع المجتمع وظهرت أحزاب وتيارات فكرية جديدة، ولن تكون جماعة «الإخوان» استثناءً من حكم التاريخ الذي سرى على هذه الأحزاب الأيديولوجية.

ثانياً: سيناريو الانقسام الثاني بين المعتدلين والمتشددين: يفترض هذا السيناريو أن تنقسم الجماعة داخل مصر وخارجها إلى جماعتين، الأولى تعبّر عن التيار التقليدي المحافظ (الحرس القديم وأنصاره) والذي يتسم في فكره وسلوكه السياسي بالاعتدال والقدرة على التكيف وعقد صفقات للإبقاء على الجماعة ودورها. أما الجماعة الثانية فتضم المتشددين من أنصار استمرار الصدام مع الحكم الجديد ومحاولة إسقاطه، من خلال استخدام مستويات من العنف مع التظاهر المستمر لإنهاك النظام، وإقامة تحالفات مع أحزاب سياسية وتنظيمات مدنية لتشكيل جبهة معارضة. والحقيقة أنني لا أميل إلى هذا السيناريو لأنه يبسط الخلافات داخل الجماعة بين معتدلين ومتشددين، والتي تتسم بالتعقيد كما تشمل قضايا كثيرة، لذلك ليس من المنطقي افتراض أن انهيار الجماعة سيؤدي إلى ظهور جماعتين فقط.

ثالثاً: سيناريو التفتت: انهيار الشكل التقليدي لجماعة «الإخوان» لتظهر جماعات عدة أو تنظيمات صغيرة تتصارع على مشروعية تمثيل فكر حسن البنا وتقاليد «الإخوان المسلمين»، وقد يكون من بين تلك الجماعات تنظيم أو أكثر يلتزم المنهج التقليدي لـ «الإخوان» في الدمج والخلط بين الدعوة والسياسة، كما قد تظهر جماعة تقدم بعض الاجتهادات لفكر حسن البنا و»الإخوان»، ومن غير المستبعد أيضاً ظهور جماعة أو أكثر تلتزم الدعوة وتجمع بين التصورات التنظيمية لـ «الإخوان» وبين الأفكار السلفية التي تخاصم السياسة، لكن أخطر سيناريوات التفتت هو ظهور جماعة أو أكثر تمارس العنف والإرهاب، أو التحاق بعض مجموعات وأفراد «الإخوان» بتنظيمات تكفيرية إرهابية، وهو ما تحقق فعلياً وفي شكل جزئي، فقد أعلنت الأجهزة الأمنية التحاق عناصر سابقة من «الإخوان» بتنظيمات إرهابية صغيرة.