الكولونيل شربل بركات/الخامس من أيار 1920 مجزرة عين إبل/مع رابط فيديو القداس الإلهي الذي أقيم في عين إبل في ذكرى الشهداء ال 104

272

الخامس من أيار 1920 مجزرة عين إبل
الكولونيل شربل بركات/05 أيار2024

صغارا كنا نعتقد بأن الدنيا تتلخص بقريتنا الوديعة وما حولها وكان عالمنا يدور في ملاعبها وكرومها وبالطبع المدرسة والكنيسة والدير وتداخلها. أما الخامس من ايار فقد كان يوما مهما من ايامنا حيث تحتفل القرية مجتمعة بذكرى شهداء عين إبل. وما كان يلفتنا في تلك الأيام أن لبنان الدولة كان يحتفل بعيد الشهداء بعدنا بيوم أي في السادس من ايار حيث يرتبط هذا العيد بمجازر الاتراك العثمانيين خلال الحرب الكبرى في لبنان وهي الحرب العالمية الأولى. ولكن هل كان هناك من علاقة بين شهداء لبنان وشهداء عين إبل وما هي تلك العلاقة؟

كانت القصة التي تحكى عن مجزرة عين إبل في الخامس من أيار سنة 1920 تدور حول هجوم قامت به عصابات مسلحة من بعض أبناء المناطق المجاورة الذين يختلفون عنا من حيث الطائفة والدين ولذا فقد كان البعض يعتقد بأننا باصرارنا على الاحتفال بهذه المناسبة نقوم باثارة نوع من الفتنة بين سكان المنطقة الواحدة والذين نتعامل معهم بشكل طبيعي ونتعاطى كالجيران بدون مركبات الحقد التي لا يمكن أن تنسى خلال جيل من الزمن. وقد كانت كل القصص التي تحكى بالتفصيل تدور حول البطولة في الدفاع عن البلدة والصمود الذي أظهره الأهل والاصرار عند المهاجمين على الدخول وكأن قريتنا هي موقع عسكري مهم لهؤلاء يجب أحتلاله مهما كلف الثمن. ولكننا لم نفهم ما هو الدافع الذي كان وراء هذا الهجوم الذي تميز بالحقد الكبير من خلال عدد القتلى والفظائع التي جرت. فهل أن الدين يدعوا إلى مثل هذه الأعمال ونحن نعتقد بأن من تبع دينه لا يمكنه أن يتمنى الضرر للغير فكيف به يقوم بقتل ونهب جيرانه؟

ولكن هل هي حالة خاصة بقريتنا ووضع لم يكن يحصل في مناطق أخرى؟ ولماذا تطور الوضع إلى هذه الدرجة من الخطورة؟ وكيف نعيش بشكل طبيعي مع الجيران بعد كل ما جرى؟ وهل كان هناك دوافع حقيقية لتلك الأحداث؟

للأجابة على هذه الأسئلة كان علينا البحث بشكل عميق عن تلك الفترة وما جرى خلالها وبالتالي مقاربتها بما يحدث اليوم لتقييم الأمور ووزنها بمقياس الفكر فماذا جرى في تلك الفترة من تاريخ المنطقة كلها؟

خلال الحرب العالمية الأولى كان هناك مجموعتان من الدول المتقاتلة فرنسا وبريطانيا وصربيا وروسيا القيصرية من جهة وقد شكلوا ما سمي بدول “الوفاق” وانضمت اليهم لاحقا أيطاليا واليونان والبرتغال ورومانيا والولايات المتحدة، بينما كانت امبراطورية النسما والمانيا والمجر تشكل دول “المركز” وقد انضمت اليهم لاحقا السلطنة العثمانية وبلغاريا. وبما أننا نخضع للسلطنة العثمانية فقد وقعت علينا نتائج هذه الحرب حيث عمد جمال باشا وزير البحرية والحاكم العسكري لبلاد الشام، خاصة بعد فشله الذريع بالحملة العسكرية على قناة السويس، إلى مضايقة اللبنانيين فالغى استقلالية المتصرفية وحاصر جبل لبنان ومنع عنه التموين وأقام المحاكم العسكرية حيث أمر باعدام الكثير من الوجهاء والمثقفين في لبنان وسوريا، وقد جرى الاعدام في ساحة المرجة في بيروت بتاريخ السادس من ايار 1916 والتي سميت بساحة الشهداء لاحقا، ومن هنا احتفال لبنان بعيد الشهداء في السادس من ايار، ومن جملة الذين صدر بحقهم حكم الاعدام العلامة الخوري يوسف فرح كاهن رعية عين إبل الذي توارى عن الانظار فتم شنق شقيقه نقولا بدلا منه في ساحة الكنيسة في البلدة.

عند انتهاء الحرب في 1918 وقبول السلطنة بوقف الأعمال العسكرية بموجب هدنة مودروس واشراف الحلفاء على الممرات المائية في المضائق، بدأت عملية تسريح قسم كبير من الجيش العثماني الذي انسحب إلى الأراضي التركية. وانتشرت قوات فرنسية في سوريا ولبنان حتى كيليكيا جنوب تركيا بينما انتشر البريطانيون في فلسطين والعراق وكانت كيليكيا وجوارها مسرحا للمجازر التركية ضد الأرمن وغيرهم من السريان والآشوريين خلال سنة 1915 وكان نفذها الضباط الاتراك وعلى رأسهم جمال باشا الذي تسلم وزارة البحرية وأنور باشا الذي تسلم وزارة الحربية وطلعت باشا الذي أصبح “الصدر الأعظم” وغيرهم، وقد كانوا أعضاء في “جمعية الاتحاد والترقي”، وهي تدّعي العلمانية والتي كان لها أتباع حتى في عين إبل. وقد خاف هؤلاء أن يواجهوا محاكمات بسبب ما قاموا به من مجازر فرفضوا أوامر السلطان وتمنعوا عن حل الوحدات العسكرية التي يقودونها وبدأوا بخلق حالة من الفوضى في المناطق التي سيطروا عليها تحت شعارات دينية لمواجهة القوات الفرنسية والبريطانية. فقد كانوا استقدموا بعض الاتراك من المناطق الداخلية في الاناضول وغيرها وأسكنوهم في الأماكن التي افرغوها من سكانها. ومن ثم وبعد وقف الاعمال الحربية، قاموا بتوزيع الأسلحة على هؤلاء السكان واقنعوهم بضرورة القتال ضد الحلفاء كمجموعات مسلحة للحفاظ على مكتسباتهم، لأن الجيش لا يمكنه متابعة القتال. ومن جهة أخرى اتصلوا بالبلاشفة في روسيا الذين لم يكونوا قد انتهوا من مقاومة القوات القيصرية على كامل الأراضي الروسية، حيث أن الثورة كانت حدثت في تشرين الأول من سنة 1917 أي قبل أقل من سنة على توقف القتال، ولذا فقد كان الجيش الأبيض الروسي لا يزال يقاتل مجموعاتهم في أماكن كثيرة من البلاد، ما جعلهم يخافون أن يبادر الحلفاء إلى الاتصال بهذه القوات واعادة السيطرة على روسيا.

إذا كان للبلاشفة مصلحة في قيام هؤلاء الضباط الاتراك بمواصلة القتال ضد قوات الحلفاء ومنعهم من الوصول إلى حدود روسيا. فعرضوا تزويدهم بالمال والعتاد الحربي لمتابعة القتال ومنع اتصال الحلفاء بارمينيا. وهكذا عندما كلف اتاتورك بتنفيذ الاوامر السلطانية وحل بقايا الجيش العثماني في الاناضول قام هؤلاء الضباط باقناعه بالخروج على ارادة السلطان والسيطرة على كامل الاراضي التركية بواسطة المساعدات البلشفية من المال والعتاد. وهذا ما يفسر الحرب الشرسة التي قامت ضد الفرنسيين في كيليكيا بعد المواجهات الأولى مع القوات اليونانية في ازمير ومن ثم تنفيذ خطة اشغال الفرنسيين والبريطايين في سوريا والعراق وفلسطين في نفس التوقيت أي أيار سنة 1920 وذلك باستعمال بقايا المخابرات العثمانية والضباط العثمانيين من أصول عربية أمثال يوسف العظمة والحاج أمين الحسيني وغيرهم والذين كانوا التحقوا بقوات فيصل حيث تسلم يوسف العظمة، وهو ضابط تركماني كبير كان عمل كمساعد لأنور باشا وزير الحربية، تسلم وزارة الحرب في حكومة فيصل ودفع إلى المواجهة بين فيصل والحلفاء باعلان المملكة العربية في دمشق، بالرغم من اجتماع فيصل مع كليمنصو والاتفاق بينهما، وشكل ما سمي بالجيش العربي وزج به لمواجهة الفرنسيين في معركة ميسلون والتي جرت في الخامس من تموز 1920 أي بعد شهرين من الهجوم على عين إبل.

كانت المخابرات العثمانية متمكنة جدا في موضوع نقل المعلومات وبث الاشاعات واثارة القلاقل منذ تأسيس السلطنة، فقد كانوا نجحوا في الفسخ بين الموارنة والدروز بعد خروج محمد علي المصري وقواته من لبنان، ما أدى إلى أحداث 1860 و1864 بعدها، ومن هنا ندرك كيفية تصرفهم في محاربة الفرنسيين والبريطانيين، خاصة في بث الأخبار وتأليب الرأي العام. ولكن بمجرد ربط الأحداث بين لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، يمكن ايجاد قاسم مشترك هو التاريخ أي ايار 1920 حيث بدأت المشاغبات في كل من هذه البلاد بشكل مدروس وبوقت واحد، ما اضطر الفرنسيين لسحب قوات من كيليكيا وارسالها إلى لبنان ودفع بالبريطانيين إلى ارسال قوات من الهند مباشرة إلى العراق لضبط الأوضاع هناك.

أما في تفاصيل واقعة عين إبل فلم يكن الأمر بالسهل لأن الأمير فيصل كان قد التحق بقوات الحلفاء ودخل الشام على هذا الاساس. وكانت اعمال جمال باشا معروفة لدى العامة ومبغوضة. ولذا فقد اضطر يوسف العظمة لاختلاق مشكل طائفي لم يكن واردا بين سكان جنوب لبنان، ولا كان من السهل قبول الزعامة الشيعية به. ولذا فهو اعتمد على بعض رجال المخابرات لتنظيم نوع من العصابات المسلحة أطلق يدها في فرض الخوات ومهاجمة القرى والمزارع الآمنة في جنوب لبنان، وبالتالي دغدغ المشاعر باستعمال بعض السياد المأجورين أو المغرر بهم والذين صوّروا بأن فيصل من آل البيت وهي فرصة ليستعيد الشيعة دورهم وهو بعيد كل البعد عن ذلك.

المجزرة التي تمت في عين إبل كانت مطلوبة لكي يشعر الشيعة بأنهم خارج معادلة الحلفاء، وقد نجح يوسف العظمة بذلك ولا يزال هذا الشعور مرافقا لأبناء المنطقة حتى اليوم. وبالرغم من محاولات الباحثين في التاريخ لايجاد مبررات للمجزرة إلا أنهم فشلوا لعدم وجود مثل هذه المبررات، ولأنهم اتخذوا مسارا مغايرا للواقع، وحاولوا أثبات نظرية تقول بأن الفرنسيين والبريطانيين هم من أشعل الفتنة للتمكن من السيطرة. ولكنها نظرية ضعيفة جدا لا تعتمد على أي واقع، فقد كان الحلفاء سيطروا على الأرض والعثمانيون خرجوا نهائيا منها. وكان الزعيم كامل بيك الأسعد، ولو أنه تابع دورة تدريبية في المدرسة العسكرية في اسطنبول، مثل الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش وغيرهم من المنطورين في المناطق العثمانية في بداية القرن العشرين، ولكنه في الفترة الانتقالية تلك لم يقبل بأن يتبع لأوامر الفاعور ويصبح الشيعة منفذون لما يرسم لهم يوسف العظمة. فهو يعرف جيدا تاريخ العلاقة مع السلطات العثمانية، ولذا يوم طلب منه تأييد حكومة دمشق قرر الدعوة لمؤتمر شيعي في وادي الحجير لكي يطرح مخاوفه ويضبط الشارع ويفهم المنظورين في الطائفة بالأخطار المحدقة. ولكن ردة فعل العظمة كانت أرسال العصابات لتفشيل المؤتمر، وهذا ما منع كامل بيك من الحضور وما جعل الأمور تسير بعكس المرتجى.

من هنا نقول بأن الزعامة الطبيعية للشيعة لم تكن مع الأعمال العدائية ضد القرى المسيحية في جنوب لبنان، وهو ما أشار إليه كامل بيك عندما التقى الخوري يوسف فرح بعد الحادثة إذ قال بأن “عين إبل خسرت رجالها صحيح ولكن الشيعة خسروا شرفهم”. ومن مجريات الأحداث ايضا أنه كان مجتمعا مع الكولونيل نيجر في النبطية لتنظيم تشكيل مجموعة من الحرس الوطني ومنع الاعتداءات على المواطنين وضبط العصابات المتفلتة. وقد تم الهجوم في ذلك النهار لمنع تنفيذ هذه الفكرة، وهو ما أساء إلى سمعة وصورة الزعيم العاملي عند الفرنسيين، فالكولونيل نيجر لم يتصور أن يتم هجوم بهذا العدد بدون علم كامل بيك، فأعتبرها عملية تضليل.

القوات التي شاركت في المجزرة كانت تألفت من كل العصابات التي عملت تحت أوامر العظمة ومن بعض رجال القبائل العربية في الجولان والتي كانت تتبع للفاعور بالاضافة إلى قوة خاصة عسكرية من جماعة العظمة المباشرة أرسلت من دمشق لدعم الفاعور وهي بالنهاية من قاد المعركة.

وما يدعم هذا الطرح هو موقف زعيم بنت جبيل محمد سعيد بزي في 1936 عندما قامت المظاهرات في سوريا لتوحيدها ما أثار بعض ابناء المنطقة للقيام بالتظاهر أيضا فما كان منه إلا أن ينتقل إلى عين إبل اعتراضا على أي مشروع فتنة ويبقى فيها حتى يشكل وفد من زعامة الشيعة في المنطقة ومن ضمنهم السيد شرف الدين للحضور إلى عين إبل والطلب منه العودة إلى بيته في بنت جبيل وهي بادرة مهمة أظهرت اعتراض الزعامة الشيعية على ما جرى في سنة 1920 وأعطت العينبليين الثقة بالمستقبل وأعادت العلاقات الطبيعية بين الجيران.

++++++++++++++++++
Ain Ebel, Our Heaven is in Aïn Ebel, Lebanon
استشهدوا لنبقى…
ذكرى ١.٤ سنوات على مجزرة عين ابل.
الرحمة و الخلود لدم شهدائنا الطاهر

في أسفل رابط فيديو القداس الذي أقيم اليوم في بلدة عين ابل للصلاة من أجل راحة نفوس شهداء البلدة في الذكرى ال 104 لأستشهادهم