امير طاهري: مخاطر الأصدقاء العمالقة/أمير طاهري: الحشد الشعبي العراقي من يمثل، وما الغاية منه

327

مخاطر الأصدقاء العمالقة
أمير طاهري
الشرق الأوسط/30 تشرين الأول/15
تغير الخط خط النسخ العربي تاهوما الكوفي العربي الأميري ثابت شهرزاد لطيف
لا يمكن لأحد أن يعرف الآن موعد انتهاء التدخل الروسي في سوريا؛ فالدخول في حرب غالبا ما يكون سهلا، لكن الخروج دائما ما يكون صعبا. وبالنظر إلى التاريخ، نادرا ما يحقق هذا النوع من التدخل الذي نشهده الآن هدفه المعلن.
وإذا كانت الخطابات القادمة من موسكو جديرة بالثقة، فإن الهدف الروسي هو منع سقوط الرئيس السوري بشار الأسد المحاصر. وبغض النظر عما إذا كان الهدف قابلا أو غير قابل للتحقيق، فإنه من الجيد ألا يعول الأسد كثيرا على مثل هذه الوعود. والسبب بسيط للغاية؛ وهو أن روسيا لا تُقْدِم على مثل هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر لمجرد عيون بشار. وسواء كان الأمر صحيحا أم خاطئا، تعتقد موسكو أن لديها مصالح استراتيجية معينة في سوريا قد تتعرض للخطر في حال الإطاحة بنظام الأسد قبل تأمين موسكو تلك المصالح.
ومع ذلك، ربما لا يكون فرض الأسد على أمة لا ترغب فيه هو السبيل الوحيد لحماية المصالح الروسية. وإذا عثرت موسكو أو عُرِضَت عليها سبل أخرى، فإنها لن تتردد في إسقاط الأسد مثل البطاطا الساخنة. لكن ما هو أسوأ الآن استنتاج موسكو أن إسقاط الأسد يقوض مصالحها التي ترغب في حمايتها.
ومع تحليق الطائرات الروسية في سماء سوريا، ليس من المبالغة الاقتراح بجلوس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الآن على مقعد الطيار ما دام مستقبل الأسد يهمه لهذه الدرجة.
ومن الجيد أن يلقي الأسد نظرة سريعة على التاريخ الروسي. ومن المرجح أن يستنتج الأسد سمتين مهمتين:
السمة الأولى هي أن الأسلوب الروسي لاستعراض القوة في الخارج غالبا ما يثمر عن التحكم المركزي المباشر من موسكو. ولا يتسم الروس بالنسخة المتحررة من الإمبريالية التي مورست في بلاد فارس وروما القديمة، ناهيك عن الإمبراطورية العثمانية الأخيرة، التي سمح فيها المركز للمناطق المحيطة بحرية التصرف في كيفية الحكم الذاتي، حتى إن الحاكم العثماني كان يطلق عليه العديد من الألقاب: «خان» بالنسبة للأتراك، و«بادشاه» للمتحدثين باللغة الفارسية، و«قيصر» للمسيحيين، و«سلطان» للعرب، و«خليفة» للمسلمين السنة.. إلخ.
السمة الثانية هي أن روسيا لم تتردد أبدا في التخلي عن حليف لم تعد منه فائدة. ولا يعد الارتباط العاطفي البريطاني بالحلفاء القدامى، حتى شاه شجاع الفاسد في أفغانستان، أمرا مفهوما بالنسبة للروس.
منذ بداية القرن التاسع عشر، عندما برزت روسيا كإمبراطورية متوسعة، كانت العاصمة الروسية بتروغراد – التي أصبحت في ما بعد موسكو – تغزو الأراضي الأجنبية في الغالب تحت مظلة حماية الحكام المحليين ضد الأعداء الحقيقيين والمتوهمين. وهذا ما فعله الروس في أكثر من عشر خانات وإمارات مسلمة في القوقاز وآسيا الوسطى وسيبيريا. وفي كل حالة، يتم إلقاء الخان والأمراء «المحميين» سريعا في مزبلة التاريخ، مثلما ضمت روسيا ببساطة أراضيهم.
شاهدنا الأسلوب ذاته في شرق ووسط أوروبا بعد الحرب، عندما ضم الزعيم السوفياتي السابق جوزيف ستالين – بذريعة إنقاذ المحليين من النازية – أكثر من عشر دول إلى إمبراطوريته.
وفي الآونة الأخيرة، شاهدنا نماذج من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وشبه جزيرة القرم، التي تدخلت فيها روسيا كمخلص، وانتهى بها الحال كحاكم. وعلى مستوى مختلف، خدعت روسيا أيضًا حلفاءها في شرق أوكرانيا، وحثتهم على الثوران في منطقة ما، وشددت قبضتها على منطقة أخرى.
في عام 1945، شجع السوفيات حركة انفصالية في إقليم أذربيجان، الواقع شمال غربي إيران، بقيادة جعفر بيشيفاري. وبعد ذلك بعام، تخلت موسكو عن بيشيفاري التعيس في مقابل وعد الامتياز النفطي في شمال إيران؛ وهو الوعد الذي لم يتحقق أبدا. توفي بيشيفاري بعدها بعام، بعدما تدمر الرجل المحطم من الكحول والغم الذي أصابه.
وفي خمسينات وستينات القرن العشرين، تدخل السوفيات في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا لما يفترض أنه إنقاذ الأنظمة المحلية ضد «أعداء الاشتراكية». وفي البداية، جرى إنقاذ فلاديسلاف غومولكا في بولندا، ويانوس كادار في المجر، وألكسندر دوبتشيك في تشيكوسلوفاكيا، ومن ثم تخلى السوفيات عنهم.
ويقدم التاريخ الحديث لأفغانستان أسبابا أخرى للأسد للتفكير وهو يستجدي حاميته الروسية الجديدة..
في عام 1979، دبرت المخابرات الروسية انقلابا عسكريا في كابل أخرج نور محمد تراقي – الشخصية التاريخية للحركة الشيوعية الأفغانية – خارج السجن، ووضعه داخل القصر الرئاسي. وفي أكتوبر (تشرين الأول) من العام ذاته، اغتيل تراقي من قبل مجموعة من الجيش الأفغاني تتلقى أوامرها بشكل مباشر من المخابرات السوفياتية. وكان تراقي قد بدأ يتصرف بشكل أكبر من حجمه، متوهما أنه وصل إلى السلطة بفضل حركة جماهيرية من المضطهدين الأفغان.
وكان الرجل الذي جرى تنصيبه بعد تراقي هو حافظ الله أمين، وهو ناشط شيوعي مخضرم قضى سنوات في موسكو. وفي ذلك الوقت، اعتقد أولئك الصحافيون الذين غطوا المأزق الأفغاني أن روسيا تخلت عن تراقي لأنه لم يشعر بأنه مدين لأي شيء للسوفيات، وأن أمين قد يستمر نظرا لولائه الثابت لموسكو. لقد كنا مخطئين! في ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، أرسلت المخابرات السوفياتية فرقة اغتيال لقتل أمين في قصره، ومن ثم جرى تعيين بابراك كارمل، الرجل الذي جلبه السوفيات معه من موسكو، مكانه. ومما يزيد الطين بلة، أن موسكو نشرت «وثائق» تثبت في ما يبدو أن أمين المغتال كان عميلا لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) على مدى عقود.
وُضِع كارمل – الرئيس الذي «جاء في حقيبة صغيرة» وتمكن من البقاء على قيد الحياة لكنه اختُطِف في نهاية المطاف في وقت متأخر من الليل – في طائرة، وجرى شحنه من كابل إلى مكان ما في قرغيزستان.
كان خليفته الرئيس محمد نجيب الله، رئيس الشرطة السرية، وبذلك كان على اتصال وثيق بالمخابرات السوفياتية. لكن حتى ذلك الأمر لم يضمن سلامته في نهاية المطاف. ففي عام 1992، قرر السوفيات الانسحاب من أفغانستان، ورفضوا حتى أخذ عائلة نجيب الله إلى بر الأمان معهم.
تمكن نجيب الله – الذي كان يلقب بـ«القصير ممتلئ الجسم» – من السيطرة لفترة أطول قليلا، لكنه اضطر في النهاية إلى البحث عن مأوى في مجمع للأمم المتحدة في كابل. ومن هناك، قيل إنه ظل يتوسل رفاقه السوفيات لما يقرب من أربع سنوات من أجل أخذه إلى بر الأمان، بيد أن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل.
جاءت نهاية نجيب الله عندما استولت حركة طالبان على كابل، وداهمت مجمع الأمم المتحدة، وقبضت على الرئيس السابق وشقيقه من هناك. فقد نزعت طالبان خصيتيهما، ومن ثم شنقتهما علنا. وبعدها أدانت موسكو هذا «العمل الوحشي» في بيان مقتضب.

«الحشد الشعبي» العراقي.. من يمثل؟ وما الغاية منه؟
أمير طاهري
الشرق الأوسط/30 تشرين الأول/15
هدف إيران بناء «جيش مواز» يخدم استراتيجيتها الإقليمية
«إن جيشًا يؤسسه (آخرون) يستحيل أن يتشكل وينشط، بل لا بديل عن حله والاستعاضة عنه بجيش مخلص للثورة». لما يقرب من أربعة عقود كان هذا المبدأ من المبادئ الأساسية للاستراتيجية الإقليمية التي اعتمدتها إيران الخمينية. وكان وراء هذه الاستراتيجية مصطفى شمران، الحركي المتخصص في العلوم التي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة، وهو الذي أسهم بتأسيس «حركة المحرومين» في لبنان، قبل أن يعود إلى إيران بعد تولي الملالي السلطة.
كان شمران أحد المؤسسين الرئيسيين لـ«الحرس الثوري» وأحد الأعضاء الخمسة للجنة التي تولت تصفية الجيش الإيراني النظامي من «الضباط المشتبه بولائهم». وعندما تولى شمران منصب وزير الدفاع في عهد الخميني، كان الجيش النظامي قد انتهى عمليًا، وأعيد تنظيمه جزئيًا كـ«جيش موازٍ» مهمته المساعدة في التعامل مع الجيش العراقي في الحرب العراقية الإيرانية عام 1980.
خلال 1979 وجزء من 1980 كان الزعيم الإيراني آية الله الخميني يأمل بالقدرة على الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين، عبر تكرار «السيناريو» الذي اتبعه مع الشاه. إلا أنه أدرك لاحقًا أن صدام حالة مختلفة تمامًا، ولن يتردد في الدفاع عن نفسه لو اقتضى الأمر أنهارا من الدم.
عند هذه النقطة ولدت في طهران ترتيب انقلاب عسكري في بغداد.. وهذا، مع أنها لم تكن جديدة تمامًا. فخلال عهد الشاه، ساعدت إيران البعثيين على تولي الحكم إثر الإطاحة بحكم عبد الرحمن عارف عام 1968، وعام 1970، حاولت إيران تنظيم انقلاب، ضد البعثيين هذه المرة، إلا أنه فشل.
عام 1980 استخلص الملالي بسرعة تعذر استيلائهم على السلطة في العراق عبر انقلاب عسكري. وكان بين الأسباب قلة عدد الضباط الشيعة الكبار في المواقع الحساسة في الجيش، وكذلك أن كثرة من الضباط الشيعة ما كانوا مستعدين بالعيش في ظل حكم الملالي.
بناء عليه، كان لا بد من العودة إلى فكرة شمران القائمة على إيجاد «جيش موازٍ» في العراق.
ما سهّل المهمة كون صدام حسين قد هجّر أكثر من مليون شيعي عراقي وطردهم إلى إيران. وهكذا، مع اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988) تشكلت نواة هذا «الجيش الموازي» من آلاف العسكريين العراقيين المهجّرين، بينهم الكثير من الضباط، الذين لجأوا إلى إيران. أيضًا من العوامل التي سهّلت المهمة وجود عدد من القبائل العربية الشيعية التي تنتشر على جانبي الحدود العراقية الإيرانية. وكان عدد كبير من الجيل الأول من المجندين، بينهم القائد المستقبلي هادي العامري، من الجناح الإيراني لهذه القبائل العربية التي قسمت مناطق انتشارها الحدود.
وعام 1982، كان «الجيش الموازي» قد أبصر النور وتجهز للعمل، واختير له اسم «فيلق بدر» تيمنًا بالمعركة الإسلامية الشهيرة قرب المدينة المنورة. ومع أن «فيلق بدر» اعتبر وجرى التعامل معه على أنه وحدة في «الحرس الثوري»، كان ثمة حرص في طهران على إعطائه هوية عراقية وجعله الجناح العسكري لـ«المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق»، وهو هيئة علمائية – سياسية معادية لحكم صدام يقودها آية الله محمد باقر الحكيم.
لقد كان وجود الحكيم في إيران مصدر منفعة ومصدر خطر في آن معًا بالنسبة للخميني وجماعته. فمصدر المنفعة أن الحكيم يمثل أسرة دينية عريقة ومحترمة تضرب جذورها عميقة في العراق وإيران. ولقد عاشت أسرة الحكيم التي تعود أصولها إلى مدينة شيراز بجنوب إيران، في مدينة النجف لعدة أجيال، واعتبرها العراقيون أسرة عراقية. وكان والد محمد باقر، آية الله العظمى محسن الحكيم الطباطبائي، أبرز مراجع التقليد وعالم علماء الشيعة حتى وفاته عام 1970، وبالتالي، كان وجود محمد باقر و«المجلس الأعلى» الذي يرأسه يخلق انطباعًا بأن للحركة بركة دينية ما دامت نحتفظ بهويتها العراقية.
في المقابل، كان مصدر الخطر على الخميني، أنه ما كان بالإمكان التعامل مع محمد باقر الحكيم على أنه تابع مطيع لملالي طهران. وحقًا، أصر الحكيم بعناد على المحافظة على هوية مستقلة لشيعة العراق، ولا سيما مع تشديده على أن مركز المرجعية الدينية لا يزال النجف، ممثلة بآية الله العظمى أبو القاسم موسوي الخوئي، الذي خلف في موقع المرجعية آية الله محسن الحكيم.
بحلول عام 1983، بلغ عدد «فيلق بدر» نحو 15 ألف مقاتل، سلحوا بأكثر من عشرين دبابة أمكن الاستيلاء عليها من الجيش العراقي، بجانب عدد من المدرعات وبطاريات المدفعية القصيرة المدى والصواريخ الصغيرة. تحت قيادة وإشراف ضباط إيرانيين، نشر «فيلق بدر» في عدد من المعارك، غير أن معظم التقارير تشير إلى أن أداءه كان متواضعًا، ما حدا بمحسن رضائي، قائد «الحرس الثوري» يومذاك، إلى الإيعاز بإبقاء الفيلق في المواقع الجانبية ما أمكن.
مع هذا، صار ينظر إلى «فيلق بدر» على أنه «الجيش الموازي» المستقبلي في العراق بعد طي صفحة حكم صدام حسين. ولكن بحلول 1988 اتضح تمامًا أن إسقاط الرئيس العراقي ونظامه ليس بالأمر السهل. وعندها قررت طهران إعادة تقديم «الفيلق» بشكل قوة سياسية. وحقًا، بهذه الصفة دخل «فيلق بدر» الأراضي العراقية عام 2003 بعدما أسقطت القوات الأميركية الغازية صدام ونظامه.
حميد زمردي، الخبير في شؤون الميليشيات التي تدعمها إيران، يقول: «إن تجربة فيلق بدر توفر مفارقة مثيرة مع حالة حزب الله، وهو جيش موازٍ آخر خلقته إيران في لبنان». ويمضي زمردي موضحًا «لقد نجح حزب الله لأن ولاءه للقيادة الإيرانية الجديدة كان كاملاً، ولأنه كان يعتبر لبنان مجرد تعبير جغرافي. أما فيلق بدر، فكان ما زال يحمل نزعات عراقية قومية ووجد صعوبة في التماهي كليًا مع إيران».
غير أن هذا التحليل، ربما، فاتته نقطة أساسية. ففي العراق هناك شعور بأن الشيعة كونهم يشكلون غالبية عددية من سكان البلاد فإنهم سيتولون السلطة فيها حتمًا ذات يوم. أما في حالة لبنان فإن شيعة لبنان وإن كانوا أكبر طائفة في البلاد فإنه ليس بمقدورهم فرض سلطتهم من دون دعم قوة خارجية، هي في هذه الحالة إيران.
في مطلق الأحوال، عجزت إيران دائمًا عن تحويل «فيلق بدر» إلى نسخة أخرى عن «حزب الله» بتبعيته المطلقة لها. بل لقد كانت جماعة الخميني قلقة على الدوام من أن يقرر شيعة العراق تحدي إيران كونهم يمثلون «قلب» الوجود الشيعي. وتأكد هذا القلق إلى حد ما بعد إسقاط صدام، عندما حاول «فيلق بدر» في أعقاب عودته إلى العراق التصرف بشيء من الاستقلالية لبعض الوقت.
ماذا كانت النتيجة؟
ولجأت طهران إلى دعم «جيوش موازية» أخرى، منها «جيش المهدي» بقيادة مقتدى الصدر، وهو رجل دين شاب ينتمي إلى أسرة دينية إيرانية الأصل تعود جذورها إلى مدينة محلات. كذلك أسست طهران فرعًا عراقيًا لـ«حزب الله» للشيعة العرب وآخر للأكراد السنة. مع هذا، تفيدنا التجارب أن أيًا من الميليشيات الشيعية العراقية التي خلقتها إيران ومولتها لم يمحض طهران الولاء المطلق كذلك الذي يمحضه إياها «حزب الله» اللبناني. ولعل هذا ما يفسر ولو جزئيًا تذبذب العلاقات بين أشخاص مثل عمار الحكيم قائد «المجلس الأعلى» ومقتدى الصدر وغيرهما.
ومن ثم، كما توقع كثيرون، فإن «المجلس الأعلى» أعيد توضيبه وإعداده ليكون حزبا سياسيا منفصلاً عن «فيلق بدر». وبعد فترة «استقلال نسبي» عن نفوذ إيران، عاد الآن تحت إشرافها ونفوذها ولكن هذه المرة عبر «فيلق القدس» السيئ الصيت بقيادة الجنرال قاسم سليماني. وبعدما تخلى «فيلق بدر» نظريًا عن سلاحه، فإنه ظل يحتفظ بترسانات لا بأس بها، وبتنظيمات قتالية لا سيما في بغداد والبصرة.
عام 2011 صار واضحًا أن إيران ما عادت بحاجة إلى «حصان طروادة» يخدم مصالحها داخل العراق. ذلك أن حكومة نوري المالكي كانت أكثر من متحمسة لأن تجعل العراق جزءًا من دائرة نفوذ طهران لقاء دعم طهران جناح المالكي السياسي. غير أن ظهور تنظيم داعش والهزة التي أحدثها في العراق غيرا كل الأوضاع، وبالأخص، السهولة المطلقة التي احتل بها مدينة الموصل، موسعًا مناطق احتلاله من الأراضي السورية.
هذا المنعطف كشف أن معركة إيران من أجل الهيمنة ما زالت بعيدة عن الحسم. وكشف أيضًا للمالكي وداعميه في طهران أن الجيش العراقي المعاد تكوينه، والمدرب والمجهز أميركيًا، قد لا يشاطر قادة طهران طموحاتهم. وهكذا، عادت إلى الظهور وبسرعة نظرية مصطفى شمران عن «الجيش الموازي»، وليس فقط في العراق فحسب، بل في سوريا أيضًا، حيث بات ضروريًا تناسي الجيشين النظاميين بناء قوتين مقاتلتين موازيتين.
الجنرال حسين همداني الذي قتل في حلب بشمال سوريا، أخيرًا، كانت هذه مهمته كما أشار في آخر مقابلة أجريت معه. إذ قال إنه عمل على خلق وحدات قتالية موازية «أنقذت (الرئيس) بشار الأسد من الهلاك المحتوم». ومن ناحية أخرى، أنعش ظهور «داعش» أيضًا حظوظ «فيلق بدر»، ففي شتاء 2014 أرسل الجنرال إسماعيل قاآني، نائب سليماني، إلى العراق من أجل بناء «الجيش الموازي».
هنا كانت المشكلة الأساسية تكمن في كيفية تقديم هذا الجيش والتعريف عنه.. فقد لا يرحب الشعب العراقي بفكرة «جيش مواز» لجيشه الوطني تحت إمرة إيرانية. كذلك لا تريد إيران أن تظهر وكأنها في حرب مباشرة مع «داعش»، إذ سبق للقائد العسكري الإيراني بور دستان أن قال إن «طهران وداعش توصلا إلى تفاهم ضمني مؤداه ألا يقترب التنظيم إلى أبعد من 40 كلم من الحدود الإيرانية، وفي المقابل، لن تنشر إيران قواتها بهدف مقاتلة داعش حيث هي في سوريا والعراق».
بكلام آخر، إيران تريد حربًا بالواسطة مع «داعش». وهذا يقضي بوجود قوة عراقية، ستحتاج لبعض الشرعية. وهذا ما وفرته عدة فتاوى لعلماء في النجف على رأسهم آية الله العظمى علي السيستاني.
الجنرال قاآني نجح بسرعة في إنهاض هياكل «فيلق بدر» وتعيين قياديين لوحداته. والقوة الجديدة التي أزيح الستار عنها يوم 15 يونيو (حزيران) 2014 أعيد تسميتها بـ«الحشد الشعبي».
لقد روعي مع القوة الجديدة تحاشي استخدام كلمة «إسلامي-إسلامية» لتحاشي الربط مع «الحرس الثوري». إلا أن السواد الأعظم من قيادات «الحشد الشعبي» ضم من «فيلق بدر»، بما فيها قائده الأعلى هادي العامري، ومعظم هؤلاء القادة يحملون الجنسيتين العراقية والإيرانية.
من جانبه، حرص قاآني على «تسويق» القوة الجديدة، أي «الحشد الشعبي»، على أنه «قوة تمثل عموم العراق»، ولذا جلب إليها شراذم من هنا وهناك بعضها نائم، والبعض الآخر بالكاد موجود على الأرض وصورها على أنها «جبهة موحدة». وبالنسبة لـ«فيلق بدر» جرت الإشارة إليه على أنه أحد مكونات القوة الجديدة، كذلك من المكونات «جيش المهدي» الذي كان من المفترض أنه كان قد حُلّ، ومعه ضمت «كتائب حزب الله – العراق». أما الفصائل الشيعية الأخرى (والمدعومة إيرانيًا) التي ضمها «الحشد الشعبي» فهي: «كتائب الإمام علي» و«كتائب سيد الشهداء» و«صحابة السلام» و«وحدات علي المرتضى».
ولكن لتعزيز الزعم بلا طائفية «الحشد» ضمت إليه جماعات وزمر صغيرة من جماعات شيعية باطنية وما بين 2000 و3000 من «المتطوعين» السنة، جلّهم من عشائر شمال غربي العراق.
لتاريخ اليوم يقدر كثير «الحشد الشعبي» بأكثر بقليل من 120 ألف مجند، ولكن كثرة من المحللين يرون في هذا الرقم مبالغة كبيرة. في أي حال خلال المعارك القليلة التي خاضها «الحشد»، ولا سيما في محيط مدينة تكريت، فإنه كان يقاتل تحت إمرة إيرانية، وما كان بمقدوره حشد أكثر من 10 آلاف مقاتل في أي وقت من الأوقات. وهذا يعني إذا اعتبرت معايير التدوير والتبديل الميداني في الاعتبار فإن عدده قد لا يزيد على 30 ألفًا.
من ناحية أخرى، نظريًا يعمل «الحشد الشعبي» تحت سلطة الحكومة العراقية ممثلة بشخص مستشار الأمن القومي الذي هو عضو في مجلس الوزراء. هذا يعني أن هذا «الجيش الموازي» يخضع لأوامر مباشرة من رئيس الحكومة حيدر العبادي، وتحت رقابة البرلمان.
غير أن الواقع يشير إلى أن معظم قادة «الحشد» الميدانيين هم من قدامى المحاربين المرتبطين بإيران، ومنهم أبو مهدي المهندس (حزب الله العراق) وقيس الخزعلي (عصائب أهل الحق).
إن كلاً من طهران وبغداد تحاول تصوير «الحشد الشعبي» على أنه قوة مؤقتة الهدف منها محاربة «داعش»، إلا أن التاريخ يعلمنا أن «المؤقت» يستمر أحيانًا لفترات طويلة جدًا. وفي هذا خطر كبير على مستقبل العراق.
..