مأمون فندي: مسارات سوريا واختزال الأعداء/د. سلطان محمد النعيمي: الاتفاق بالنسبة إلى إيران.. ربح أم خسارة؟/عبدالله ناصر العتيبي: من الخلايا النائمة إلى الخلايا اليقظة

404

الاتفاق بالنسبة إلى إيران.. ربح أم خسارة؟
د. سلطان محمد النعيمي/الشرق الأوسط/27 تموز/15
تناول الإعلامي القدير الأستاذ عبد الرحمن الراشد في مقالته بصحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 26 يوليو (تموز) 2015، المعنونة بـ«خلاف الخليج مع الأميركان تفاصيل» في جزئها الأول، جوانب خلُص بها إلى أن الاتفاق هو في حد ذاته انحناءة بزاوية تسعين درجة من نظام إيران، وأن الغرب قد رَكّعَ إيران، وأن ما لدى دول الخليج، وتحديدًا المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات والكويت وقطر من إمكانية يحول دون أن يجعل إيران بديلا لها.
نسير مع القارئ في هذه المقالة لنرى حقيقة ما إذا ربحت إيران أم كانت خاسرة من هذا الاتفاق النووي.
بداية، وللوصول إلى مقاربات لهذا التساؤل، فإنه يتعين علينا بادئ ذي بدء أن نضع معايير لقسطاس خسارة إيران أو نجاحها من هذا الاتفاق. فهل المعيار يرتكز على عقد مقارنة بين ما حققته إيران وما خسرته من هذا الاتفاق في مقابل دول الخليج والعكس؟ أم نعقد المقارنة بين إيران والدول الغربية وتحديدًا الدول التي سعت لفرض عقوبات دولية وقامت بفرض عقوبات أحادية عليها؟ أم أن قسطاس الربح والخسارة بين إيران نفسها قبل وبعد الاتفاق وما إذا كانت رابحة أم خاسرة؟
أتفق تمامًا مع الأستاذ عبد الرحمن الراشد في أن إيران لن تكون بأي حال من الأحوال بديلا عن دول الخليج وثقلها الإقليمي والدولي، حتى وإن عادت إلى أوج قوة اقتصادها وإن كان بعد سنوات.
ولكن السؤال هنا: هل من عقد الاتفاق كان يسعى لتحقيق هذه المعادلة؟ أي أن الوصول إلى هذا الاتفاق يعني إزاحة دول الخليج والاستغناء عنها؟ واقع الحال أن كلا الطرفين، ونقصد هنا إيران ومجموعة «5+1»، لم يكن ذلك ضمن حساباته. فلا النظام الإيراني قادر على ذلك، ولا مجموعة «5+1»، وتحديدًا الولايات المتحدة، تسعى لخسارة حلفائها التقليديين في المنطقة.
ما الذي تحقق في هذا القسطاس إذن؟ يكفي التصريحات الغربية المباشرة بعد توقيع الاتفاق وحتى قبلها، ومنها تصريح وزير الخارجية البريطاني الذي أكد على ضرورة التعاون مع الجانب الإيراني، انطلاقًا من دورها وحضورها الإقليمي لنستدرك أن النظام الإيراني حقق مبتغاه هنا، والذي ظل يُصرّ عليه والمتمثل في اعتراف الدول الغربية بنفوذها وحضورها الإقليمي، لينتقل من مجرد تعاون غير رسمي إلى تعاون مُعترف به، بل ومطلوب من قبل الغرب نفسه، وهو ما جعل مستشار المرشد للشؤون السياسية والدولية يقول إن إيران تطالب بأن يكون لها حضور ودور أكبر في القضايا الإقليمية.
هل في المقابل يتوجب علينا القول إن دول الخليج هي الخاسرة هنا؟ يتوقف الأمر هنا على جانبين:
الأول: هامش المساحة الذي يقصد الغرب منه بأن إيران دولة إقليمية مؤثرة ولا بد من حضورها في ملفات المنطقة، ومدى دفع النظام بهذا الهامش إلى أقصى درجاته.
الثاني: تلك المساحة التي يتوجب على دول الخليج والدول العربية فرضها بحيث يأتي هامش المساحة للنظام الإيراني وفق أهميتها الإقليمية وضرورة حضورها، وليس وفق طموحاتها ورغباتها التي لا تخفى على أحد، ويصرح بها المسؤولون الإيرانيون علانية، ولا يجدون فيه غضاضة، فها هو عباس عراقجي مساعد وزير الخارجية الإيراني وكبير المفاوضين الإيرانيين يقول: «حين تدعو الضرورة لإرسال أسلحة إلى حلفائنا في المنطقة، فإننا سنفعل ولن نخجل من ذلك».
وعودًا إلى الاتفاق النووي، ولمعرفة ما إذا كانت إيران خاسرة أم رابحة، فإنه لا مفر من تمحيص ذلك وفق المنظور القريب والمنظور البعيد لتبعات هذا الاتفاق. فعلى المنظور القريب فإن هذا الاتفاق في حد ذاته انحناءة بزاوية تسعين درجة من نظام إيران، كما تفضل الأستاذ عبد الرحمن الراشد، ولكن يرتهن الأمر على منظورنا لهذه الانحناءة:
الأول: هل هذه الانحناءة تكتيكية حتى مرور العاصفة، وتُجسد بدورها ما يُعرف في القاموس السياسي للمرشد الإيراني بـ«المرونة البطولية» التي تأتي في أبسط صورها بأن تتماشى مع الخصم في خطواته، لأن رد الفعل بصورة عكسية في ذات الوقت يؤدي إلى أضرار جسيمة لك، وبالتالي تسايره علّك تعود لاحقًا وتنتهز فرصةً أفضل؟ أم أنه ركوع إيران لمطالب الغرب ورغباته؟
الحقائق تجيب عن هذا التساؤل، وتتمثل في:
• احتفاظ إيران بجميع منشآتها النووية.
• انتزاع الموافقة من الطرف المقابل بالاستمرار بالاحتفاظ بدورة التخصيب الكاملة، وهو في الواقع درة تاج الاتفاق النووي بالنسبة إلى إيران.
• برنامج نووي متكامل تم تأييده من قبل مجلس الأمن.
• انتعاش اقتصادي واستثمارات مستقبلية منتظرة حتى ولو بعد حين.
• العودة إلى السوق النفطية ورفع معدل الإنتاج، إذ من المتوقع أن يصل تصدير النفط الإيراني مع نهاية 2016، إلى ما يقارب مليونين ونصف مليون برميل، وهذا هو الهدف المنشود من النظام الإيراني والعودة إلى موقعها الطبيعي إلى في منظمة أوبك، وليس القصد أن تعوض الغرب عن نفط دول الخليج العربي.
• رفع القيود عن البنك المركزي الإيراني والتحويلات المالية، وكذلك شركة النفط الإيرانية، وبالتالي رفع القيود والتردد من التعامل مع إيران في الجانب الاقتصادي.
إذن ما خسائر المدى القريب للجانب الإيراني من هذا الاتفاق؟ وهل يعوضها المدى البعيد له؟ لنمحص التالي:
• تقييد البرنامج النووي لمدة عشر سنوات. ولكن ما المنظور البعيد لذلك؟ يكفينا هنا ما يراه أعتى المتشددين لهذا الاتفاق لندرك نتيجة المنظور البعيد، إذ يرى أن قمة نجاح هذا الاتفاق في حرمان إيران من الحصول على القنبلة النووية لمدة عشر سنوات، ثم يحيل الأمر برمته بعد ذلك إلى الرئيس والإدارة التي ستأتي لاحقًا للبيت الأبيض ليتصرف وفق ما يراه مناسبا.
هل الإرث التاريخي يُنقش على الصخور، أم يُكتب على رمال شواطئ البحر ويُدعى له أن لا تمحوه أمواج البحر؟
• ستُحرم إيران من استيراد الأسلحة لمدة خمس سنوات وتقنية الصواريخ الباليستية لمدة ثماني سنوات، ولكن يأتي المدى البعيد ليُعيد لها ذلك.
أما في ما يتعلق بعمليات التفتيش وتحديدًا المنشآت العسكرية، فإنها أعقد بكثير مما نتوقع، وقد تركت مساحة يتقنها الإيرانيون بشكل كبير وهي مسألة التسويف والمماطلة لا تتسع مساحة هذا المقال للخوض فيها. إذن فالـ90 درجة ما هي إلا انحناءة المرونة البطولية التي جنى منها النظام الإيراني مكاسب، يتبعها مباشرةً 270 درجة أخرى يحقق فيه النظام الإيراني مكاسب أخرى على المدى القريب والبعيد. كل ما تقدم لا يزال رهنا بمدى التزام الأطراف بالاتفاق وتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقبل هذا وذاك مراجعة الكونغرس الأميركي له. القول بأن قسطاس هذا الاتفاق يصب في جهة ربح النظام الإيراني لا يعني أننا نصفق له، كما أن خسارته لا تعني أننا شامتون فيه. إن الأمر برُمته يتمثل في ضرورة قراءة الأمور بواقعية لكي تبنى الاستراتيجيات وفق معطيات صحيحة تُعطي لإيران حضورها في المنطقة وملفاتها وفق هامش اعتبارها دولة إقليمية وليس وفق رغباتها. بين الرغبات والهامش الإيراني تأتي المساحة الخليجية والعربية التي لا يمكن المساومة عليها أو تركها للآخرين ليقرروا أبعادها أو يجتزوها.

مسارات سوريا واختزال الأعداء
مأمون فندي/الشرق الأوسط/27 تموز/15
ترى ما هي المسارات التي يمكن أن تأخذها الأزمة السورية؟ هل هو مسار الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت خمسة عشر عاما ودفع لبنان فيها الثمن غاليا، ولسخرية القدر لم يستقر لبنان إلا بعد دخول القوات السورية؟ أم أن مسار سوريا هو العراق بعد إزاحة صدام حسين عن الحكم في 2003. وما تلاها من اجتثات البعث وحل الجيش الذي أوصل العراق بعد اثني عشر عاما إلى ما هو عليه الآن من حالة سيولة واضطراب سياسي؟ أم أن مسار سوريا هو التقسيم على أساس طائفي يكون الساحل فيه للعلويين، وجبل العرب للدروز، إلى آخر التقسيمة الطائفية التي يعرفها الجميع؟ أم أن مستقبل سوريا هو الـ(status quo anti) أي كما كانت قبل الثورة السورية؟ أن يعود النظام القديم ببعض التعديلات؟ أسئلة كثيرة لا بد من التفكير فيها، إذا كنا أو ما زلنا نعتقد أن مستقبل سوريا كبلد عربي يهمنا.
مرت أربع سنوات على ثورة سوريا التي أصبحت حربا أهلية فيما بعد. أربع سنوات والعالم العربي منقسم ليس بالتساوي بين من ينتظر سقوط الأسد، ومن ينتظرون نجاحه في حسم الصراع المسلح لصالحه. ولكن بعد أربع سنوات لم يحسم الصراع لا للنظام ولا للمعارضات بأنواعها، لا غالب ولا مغلوب، التعادل بلا أهداف هي نتيجة المباراة، رغم أنه من العيب الشديد أن نشبه صراعا ثمنه فادح على مستوى خسارة آلاف الأرواح من البشر بمباراة، ولكن فقط لتقريب الفكرة، فهل سيبقى العالم العربي سجين فلسفة «ادي زوبه زقة؟» أي فقط بقيت أيام ويسقط النظام أو أيام وتسحق المعارضة، من دون أن نكلف أنفسنا حساب ثمن هذه الفلسفة على بلد محوري بالنسبة للعالم العربي.
قبل البحث في مسارات سوريا وإلى أين تذهب، لا بد من تفكيك المخاوف التقليدية التي أصبحت صورا ذهنية جاهزة تملكت من الرؤوس، وأعرف أن هذا ربما لا يعجب قراء كثرا منهم أصدقاء لي، ولكن لا بد من التعامل مع الأفكار المختلفة إذا كنا جادين في البحث عن حل لأزمة طال أمدها، وبتكلفة إنسانية عالية جدًا. وبعد تفكيك الأفكار المسبقة والصور الذهنية الجاهزة، لا بد من التعامل مع الدروس المستفادة من حرب لبنان الأهلية، ومن تجربة تفكيك المؤسسات في العراق حتى تتمكن سوريا من التعافي، ويجب ألا يكون عندنا شك أن أمد التعافي طويل. الخوف التقليدي من مسار status quo anti، هو القائل أن عودة النظام القديم بتعديلات تعني انتصارا لإيران. هذا التخوف يحتاج إلى تفكيك. بداية، تعايش العالم العربي مع علاقة سورية – إيرانية أيام الأسد الأب، ولكن هذا لم يمنع حافظ الأسد من الالتزام العربي، سواء في دخول لبنان كقوة ضامنة لاتفاق الطائف أو التزامه بدخول تحالف تحرير الكويت، رغم أنه كان ضد صدام في حربه مع إيران. إذن التعاطي السياسي مع المتناقضات السورية لم يكن يوما أزمة بالنسبة للدبلوماسية العربية. أضف إلى ذلك أن الفرس تاريخيا لم يسيطروا على سوريا، كما سيطر الرومان والأتراك العثمانيون والفرنسيون. الحقيقة هي أن الخوف المبرر تاريخيا بالنسبة للسوريين، هو من تركيا وليس من إيران. إذ سيطر العثمانيون قرونا على سوريا واقتطعوا منها لواء الإسكندرون. واليوم ينسق رجب طيب إردوغان مع واشنطن للتدخل في سوريا بحجة مواجهة «داعش»، رغم أن خوف إردوغان الحقيقي يأتي من الأكراد فقط، ومن احتمالية قيام دولة كردية، وليس من «داعش». الأكراد لا «داعش» هم مصدر الخطر الحقيقي على تركيا. النقطة التي أريد التركيز عليها هي أن العيون على طهران، رغم أن الخطر قادم من أنقرة وهنا المقلب الحقيقي. وهذا ما أقصده بتفكيك الصور الذهنية الجاهزة فيما يخص ما هو خطر على الأمن القومي العربي. سوريا كبلد يمكن سلخها من إيران، ولكن الخوف كل الخوف هو سقوط جزء منها تحت السيطرة التركية، وهذا أمر صعب حسمه أو التعامل مع تبعاته. سيناريو التقسيم من أخطر المسارات. فتقسيم سوريا يعني تفكيك سايكس بيكو تمامًا، ومعه تتساقط أحجار الدومينو بداية من الأردن وبقية الهلال الخصيب وربما إلى الخليج. وهذا المسار يحتاج إلى تأمل وتفكير جاد في اللوحة الاستراتيجية الأكبر الخاصة بالأمن القومي العربي. المسار اللبناني هو مسار مكلف للغاية، ولا طائف هناك لسوريا، ولا توجد سوريا أخرى للدفع بقواتها لخلق حالة استقرار في سوريا. سيناريو الحرب الأهلية الممتدة كما في حالة لبنان ومن قبلها السودان له تبعات وخيمة، لا بد أن يتأملها الراغبون في إزاحة الأسد بأي ثمن. الدروس المستفادة من تجربة لبنان هي أن «الطائف» لا يقضي على الطائفية، حتى لو أحدث صيغة استقرار. وسوريا أعقد بكثير من لبنان من حيث التركيبة السكانية الداخلية وتوازناتها واللوحة الجيوسياسية الأكبر. المسار الأخير هو مسار العراق من خلال تفكيك حزب البعث وحل الجيش العقائدي وتفكيك المؤسسات، وهذا رأينا تبعاته خلال الاثني عشر عاما الماضية. لن يستطيع العالم العربي التعاطي مع (عراق) منفجر آخر إلى جانب العراق. كل ما أريد قوله حتى لا ندخل في حوار يلخص المقال بأكمله، وكأنه يدعو لبقاء النظام السوري، أو على أنه تنظير لما قاله وزير الخارجية البريطاني مؤخرًا، لا بد أن نفكر بشكل خلاق وفيه قدرة على تجنب شخصنة صراع خطير ومكلف للسوريين والعرب في الوقت ذاته. حل الأزمة في سوريا يحتاج إلى تفكير خارج الصندوق التقليدي الخاص بالتمدد الإيراني. الخطر على المنطقة من بقاء الأسد لن يكون بحجم الخطر إن وقعت سوريا بقبضة «داعش» وجماعة البغدادي أو الإخوان. حل الأزمة السورية يحتاج أولا إلى الانتقال من فلسفة «ادي زوبه زقه» إلى تأمل كل المسارات والسيناريوهات المحتملة، وترتيبها من الأسوأ إلى الأقل سوءا، فالوضع الراهن لا يمكن احتماله أو تقبله لا للسوريين ولا لبقية العرب. إيران ليست العدو الإقليمي الوحيد للعرب. فالجوار غير العربي ممثلا في إسرائيل وتركيا وإيران كله له مطامع في عالم عربي أصابته حالة من الوهن، فكرة أن إيران هي العدو الوحيد والتصدي لها في لبنان يشبه التصدي لها في اليمن أو في سوريا هي فكرة غير استراتيجية في أحسن حالاتها، فكرة العدو الذي يناسب كل الحالات تشبه فكرة الملابس التي تقول بمقاس واحد يناسب الجميع (one size fits all) وهذه فكرة محدودة خصوصا في سوريا، حيث هناك جزء منها تحت الاحتلال الإسرائيلي، وجزء آخر تحت الاحتلال التركي، والبقية نفوذ إيراني وليس احتلالا. إذن الأعداء الثلاثة مجتمعون في الحالة السورية، واختزالهم كما في إعلان القهوة «الثلاثة في واحد»، هو اختزال مخل وخطر على الأمن القومي العربي

من الخلايا النائمة إلى الخلايا اليقظة
عبدالله ناصر العتيبي/الحياة/27 تموز/15
لسنوات طويلة، ظلت طهران ترعى «الخلايا النائمة» في دول المنطقة وتمدها بأسباب البقاء، سواء على المستوى المادي أم على المستوى الفكري. وكانت في كل مرة تنكشف علاقتها بهذه الخلايا، تلتف حول عنق الحقيقة وتغلف موقفها بغطاء ديبلوماسي من الكلمات الباردة.
كانت طهران تعتمد هذه الإستراتيجية لبعض الوقت، لكن يبدو أن «كل الوقت» أجبرها على أن تدعم «الخلايا اليقظة» بدل الخلايا النائمة. كانت «منظمة بدر» في العراق (تأسست في 1980) و «حزب الله» في لبنان (تأسس في 1982) هما كل الخلايا اليقظة للنظام الإيراني في المنطقة إلى وقت قريب، وكان لكل منهما ظروفه الخاصة التي جعلت منه تشكيلاً يقظاً. فالأول استمد يقظته من حاجة الإيرانيين إلى وجود قوى ظاهرة وواضحة للعيان في العمق العراقي للعمل على إسقاط نظام صدام حسين وتقويضه من الداخل، وخلق حال إرباك للجبهة الداخلية تساهم في تعجيل انتصار الخمينيين، ولمّا لم تكن الخلايا النائمة لتفي بهذا الغرض الرئيس، كان لزاماً على الإيرانيين أن يتبنوا «فيلق بدر» قولاً وفعلاً وإعلاماً ورسمياً، لعله يحقق ما لم يحققه المجهود الحربي. أما «حزب الله» في لبنان، فلم يكن هناك داعٍ لصناعته في الخفاء، فالظروف اللبنانية حينها – ولا تزال – كانت مواتية لإدخال التشكيلات ذات الوجوه المحلية والمرجعيات الأجنبية، كون البلد كان (وما زال) مقسماً على المسطرة الطائفية والإثنية، وخاضعاً لإمرة عصا الفرقة التي كانت – ولا تزال – على استعداد لاستضافة الشيطان والملاك على طاولة واحدة. كان من السهولة جداً اختيار المكان والزمان المناسبين لزراعة «حزب الله»، وكان من الأسهل إدخال الحزب في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية اللبنانية، اعتماداً على تناقضات الوضع اللبناني وقابلية زعامات الطوائف والأقليات والجماعات المتحاربة للتنقل من حضن إلى آخر، سعياً خلف المصالح الشخصية والمكاسب الآنية. لكن السؤال يبقى: لماذا تسعى إيران دائماً إلى تجاوز حدودها وخلق شبح الخميني من جديد في دول المنطقة؟ منذ الثورة الخمينية في العام 1979 وحتى اليوم والنظام الحاكم في طهران يعمل على توطيد حكمه الشمولي بطرق شتّى. جاء الخمينيون للإيرانيين على ظهر الثورة مبشرين بالديموقراطية، لكنهم استبدلوها ما إن خضعت لهم الرقاب بالديكتاتورية. ولتجاوز مأزق النظرية الديموقراطية والتطبيق الديكتاتوري، سعوا على الدوام إلى إبقاء الشعب في حال طوارئ تنسيه الشعارات الأولى للثورة التي كانت تتحدث عن حرية الشعب ورفاهه وحكمه لنفسه. اختار النظام طريقة حكم مرسومة بعناية تجعل الناس في مختلف الأراضي الإيرانية، غصباً أو إيماناً، خاضعين لفكرة ولاية الآيات وانفرادهم بالسلطة المطلقة.
ت خلال السنوات الست والثلاثين الماضية لإلهاء الشعب الإيراني وتضليله وتجهيله، لكن كانت هناك طريقتان رئيستان ظلتا على الدوام فاعلتين حتى اليوم. الأولى هي إفقار الشعب الإيراني ووضعه تحت القبضة الأمنية الحديدية، بحيث ينشغل دائماً بنصف الدائرة السفلى المتمثل في الجري القاتل خلف الرغيف، ورعاية هذا الماراثون اليومي الذي يشترك فيه الصغير والكبير والفارسي والبلوشي والعربي والكردي والآذري والتركماني، بهراوات الباسيج وسياطهم. كانت هذه الطريقة كفيلة بإبقاء الناس في النصف السفلي من الدائرة من غير أن تكون لهم القدرة، فضلاً عن الرغبة في النظر إلى «زخرف الحكم» في نصف الدائرة العلوي. «لنأكل أولاً ثم نمد نظرنا إلى ما هو خلف سور الحاجة والفقر»، ظل الإيرانيون طوال هذه السنوات مخلصين لهذا القول، مؤمنين به، شادين بالنواجذ عليه، في بلد يعتبر بالمقاييس كافة من أغنى بلاد العالم. الطريقة الثانية كانت مد الأذرع الثورية خلف الحدود واستعداء الجيران وإشغالهم بالخلايا النائمة واليقظة، وكل ذلك من أجل خلق حال طوارئ سياسية تتكامل مع حال الطوارئ الاقتصادية الداخلية فتعميان وتضللان وتجهّلان المواطن الإيراني ليبقى أسيراً للخمينية الاستبدادية. وكانت الإستراتيجية في الطريقة الثانية مثلما ذكرت في أول المقالة تتمثل في دعم الخلايا النائمة في الدول التي يتعذر خلق خلايا يقظة فيها، لكن شرط أن تنشط هذه الخلايا بين الحين والآخر لزرع الحس الخميني القادر على إبقاء العلاقة «الخارجية – الداخلية» مشتعلة مع المواطن الإيراني. لكن يبدو أخيراً أن الشعب الإيراني بات يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى عدد أكبر من الخلايا اليقظة، فتململه بدأ يظهر للعلن، وثورته الصامتة أخذت في الاتساع أكثر فأكثر، ورفضه لحكم الآيات صار جزءاً من برنامجه اليومي، وهو ما جعل النظام يفكر جدياً في خلق مزيد من الخلايا اليقظة علّها تساعد في عودة الأمور إلى طبيعتها، ولاسيما بعدما فقدت «منظمة بدر» و «حزب الله» الكثير من رصيدهما في الشارع الإيراني. الحوثي كان خياراً مناسباً لخلية يقظة. فوجوده في جنوب الجزيرة العربية كان ملائماً جداً لأن يكون أحد الأهداف الرئيسة لعملية التضليل والتجهيل من جديد، فهو يقبع في خاصرة السعودية التي هي، وفق الأدبيات الخمينية، العدو الأول للثورة في إيران. كان الحوثي خياراً مناسباً لخلية يقظة، لكنه كبر من غير مناسبة وتشكل جسداً وقفز على الحكم في اليمن، وهذا ما لا يتناسب مع الهدف الرئيس من إيجاده المتمثل في الكر والفر والبقاء في منطقة وسطى بين الحكم وبين الثورة. الخلية اليقظة لا يمكن أن تكون «خلية حكم»، وهذا ما لم يفهمه عبدالملك الحوثي، بينما وعاه منذ البدء حسن نصرالله المؤمن والفقيه بالنظرية الخمينية، والذي لم يفكر مطلقاً في حكم لبنان؛ لأنه يعلم أن نهايته ونهاية حزبه مرتبطتان بتحول الخلية اليقظة إلى خلية حاكمة. هنا وهناك وفي هذه المنطقة وتلك، واليوم جاء دور البحرين، لكن البحرين ستظل كما كانت شوكة في قلب الخمينية إلى الأبد. وغداً سيجيء دور دولة خليجية أخرى، وستكون أصلب وأقوى أيضاً، ففي النهاية عندما يتعلق الأمر بمواجهة ما بين نظام ودولة، ستتغلب الدولة، وتنقذ في طريقها شعب النظام وسجناءه.