اياد ابوشقرا: لبنان: عندما تختصر الزبالة أزمة وطن/طارق الحميد: سوريا والخيارات السيئة

349

لبنان: عندما تختصر «الزبالة» أزمة وطن
اياد ابوشقرا/الشرق الأوسط/26 تموز/15

أذكر من أيام الشباب شكوى اللبنانيين من أن «كل شيء في لبنان زفت (إسفلت) إلا الطُّرُق!». تلك الأيام يحنّ إليها اليوم مَن هم في مثل سنّي، الذين ما زالوا يتذكّرون ذلك الزمان الجميل على الرغم من «الزفت».. لأننا بتنا في وضع «أزفت». كنا حينذاك نشكو ما نسميه «الطبقة السياسية» وننتقد «الإقطاع السياسي» و«الزعامات التقليدية» من دون أن ندري ما ينتظرنا في الآتي من الأيام.. لم نكن نتصوّر – مثلاً – أن يدعي شخص ما الحق الحصري بتمثيل المسيحيين، بعدما كانت الساحة المسيحية تتسع لتنافس إميل إده و«كتلته الوطنية» وبشارة الخوري و«كتلته الدستورية»، وكانت هاتان الكتلتان تتسّعان لممثلي مختلف الطوائف. وفيما بعد، كانت الساحة المسيحية رحبة بما فيه الكفاية ليس فقط للرئيس فؤاد شهاب والبطريرك بولس المعوشي، بل لتنافس «الأقطاب الثلاثة الكبار» كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده. بل حتى إبان الحرب اللبنانية، وسعي بشير الجميل «لتوحيد البندقية المسيحية»، ظل هناك مسيحيون يقودون أحزاب «الحركة الوطنية» بيسارييها وعروبييها، رافضين التسليم باحتكار «اليمين» الوجود المسيحي كله.

وما كان المشهد مختلفًا في الجانب المسلم. إذ كان الميدان السنّي مفتوحًا أمام «التعدّدية»، وما كان بمقدور أي زعيم سنّي ادعاء السعي لاحتكار العروبة والوطنية والاعتدال الإسلامي. وكانت «التعدّدية» أوضح في الطائفة الشيعية، سواءً في البقاع أو الجنوب ولم تتمكّن زعامة واحدة من احتكار الحلبة السياسية. وعلى صعيد الموحّدين الدروز كانت «الثنائية» أصلاً سمة موروثة من باطن التاريخ العربي والانقسام القديم القيسي واليمني، واستمرت لاحقًا تحت مختلف التسميات. اليوم، بينما تكاد بيروت وغيرها من المناطق اللبنانية تختنق تحت ثقل تلال النفايات أو «الزبالة»، غدا من الممكن اعتبار «زفت» الماضي الجميل نعمةً حقيقية.. مقارنةً بـ«زبالة» الحاضر البائس!بالأمس طلب وزير البيئة، وهو رجل طيب وعاقل، من اللبنانيين مهلة بضعة أشهر لإيجاد مطامر نفايات مناسبة لحل «أزمة الزبالة»، لكنه نسي – على ما يبدو – أن أزمة وجودية تعصف بالوطن ما زالت مستعصية على الحل بعد مرور أكثر من سنة عليها.

نسي أو تناسى الوزير أن الفراغ في سدة رئاسة الجمهورية تجاوز سنة كاملة بسبب إصرار نائب اسمه ميشال عون على احتكار التمثيل المسيحي، وممارسة شعاره القديم «الحرية والسيادة والاستقلال» في بلد صار بجهده الشخصي.. أبعد ما يكون عن الحرية والسيادة والاستقلال! النائب عون يعتبر أنه وحده «الضامن» لحقوق المسيحيين، ووحده «الدرع الواقية» لهم ضد «الداعشية السياسية». كما أتحفنا أخيرًا صهره وزير الخارجية، مع أن منطق الأشياء يقول إنه في دولة أنشئت أساسًا بناء لرغبة المسيحيين ولطمأنتهم.. لا ملاذ للمسيحيين إلا بالدولة. نعم «الدولة» بمؤسساتها وسيادتها هي الملاذ، وليس «الحرس الثوري الإيراني» الذي يتستر بـ«حماية الأقليات» في حرب إبادة خرقاء يخوضها «على حسابه»، ومن أجل نفوذه، ضد محيط متلاطم من الإسلام السنّي يمتد من إندونيسيا إلى غيانا!

اليوم عندما يعطّل النائب عون آليات عمل «الدولة»، وينكأ صهره من داخل مجلس الوزراء جروح الطائفية البغيضة، لبيع أتباعه في الشارع المسيحي انتصارات وهمية يحققها «البطل المنقذ»، فإنه يراهن على سذاجة أولئك الذين لا يريدون الإقرار بأن حزب الله – الفرع اللبناني لـ«الحرس الثوري الإيراني» – هو ضابط الإيقاع الحقيقي والقوة المحرّكة والضاغطة في «تحالف» وهمي غير متوازن غايته تغطية مشاريع هيمنة أجنبية على مستوى الشرق الأوسط. ثم إن «عونيي» الشارع المسيحي يتوهّمون أن حزب الله يجهل، أولاً، ماضي عون السياسي، وثانيًا، أنه مستعد لتسليم «الجنرال» الحكم الفعلي في لبنان. في حين أن الحزب يعرف تمامًا خلفيات «الجنرال»، وأن هدف الحزب الاستراتيجي هو الهيمنة المُطلقة على لبنان، ومن ثم ربطه بكتلة الهيمنة الإيرانية الممتدة من إيران إلى البحر المتوسط مرورًا بالعراق وسوريا. من سوء طالع الشارع المسيحي اللبناني أن الظروف العامة في المنطقة خدمت حتى الآن، ولو ظاهريًا، المخطط الإيراني. وبالتالي، بدلاً من محاسبة عون ومن راهنوا رهاناته، ثمّة من يهمس بأن الرجل «رؤيوي» و«حكيم»، ورهانه على الاتفاق الأميركي – الإيراني ضد «السنّية السياسية» في محله. غير أن واقع الأمور لا يذهب بالضرورة في هذا الاتجاه. إذ ما زال من المبكّر الجزم بتفاصيل اتفاق واشنطن وطهران على الصعيد السياسي، ولا سيما أن في المنطقة لاعبين مؤثّرين ستجد واشنطن نفسها مضطرة لتحاشي تحدّيهم.

ثم إن حجم «السنّية السياسية» ومرونتها وقدرتها على التأقلم، إقليميًا ودوليًا، حقائق لا تختصرها ظواهر مثل «داعش» أو أمثال هذا التنظيم من الجماعات المتطرّفة المشبوهة التي ترفع ألوية الإسلام زورًا. أضف إلى ذلك أن واشنطن تدرك في قرارة نفسها أنها تجازف بالكثير إن هي اختارت طريق المواجهة في الشرق الأوسط.. وهي التي كانت قد برّرت كل تنازلاتها الأخيرة برغبتها بتسوية المشكلات وتخفيف التوتر والخروج من أماكن التورط العسكري المكلف. وبطبيعة الحال، في لبنان، وبالأخص من مناصري عون و«عروبيي» الأسد و«طائفيي» حزب الله، مَن ينسى أنه إذا كانت إيران دولة يحكمها نظام ديني أمني رأسه «الولي الفقيه» وفي صلب بنيته ميليشيا «الحرس الثوري»، فإن الولايات المتحدة دولة ديمقراطية تقوم على مبدأ تداول السلطة. وهذا يعني أن رهن مصير الوجود المسيحي، بل والأقلياتي المشرقي كله، بتفاهم بين «الولي الفقيه» ورئيس أميركي دستوري له فترة رئاسية محددة.. مغامرة كارثية حقًا. في أي حال، ثمة من يربط ارتفاع نبرة «الجنرال» وأتباعه خلال الأيام الماضية بورود تقارير من طهران بالذات تفيد باستعداد القيادة الإيرانية جديًا للتفكير بأحد ثلاثة أسماء مطروحة لرئاسة الجمهورية في لبنان، ليس بينها اسم عون! هذا تطوّر إيجابي، ولعله يحل أزمة لبنان مع رجل طارئ على السياسة، وقد يسهّل العمل الحكومي ويريح اللبنانيين من «الزبالة»، لكنه حتمًا لن يحل أزمة الوطن مع ذهنيات مريضة.

 

سوريا والخيارات السيئة
طارق الحميد/الشرق الأوسط/26 تموز/15

نحن أمام حدثين سياسيين متناقضين في سوريا كلاهما يظهران استمرار الخيارات السيئة تجاه الأزمة السورية، إقليميًا، وعربيًا، وبالطبع دوليًا؛ الأول هو شروع تركيا في عملية عسكرية على الأراضي السورية، والثاني إعادة الحكومة التونسية لعلاقاتها الدبلوماسية مع النظام الأسدي! فبعد تماهٍ تركي مع الجماعات الإسلامية بسوريا، والتغاضي عن «داعش» طوال العامين الماضيين، قررت تركيا الشروع بعملية عسكرية ضد «داعش» مبررة ذلك بأن بشار الأسد «إما غير قادر أو غير مستعد لمواجهة تلك الجماعة الإسلامية المتطرفة»، مع ملاحقة الأتراك أيضًا للمتشددين الأكراد، لكن دون التزام تركي حقيقي بدعم المعارضة السورية المعتدلة، وتحديدًا الجيش الحر؛ مما يعني أن تركيا مستمرة بارتكاب نفس أخطاء التحالف الدولي الذي يضرب «داعش» دون تعزيز حقيقي للمعتدلين السوريين، الجيش الحر، وكذلك في العراق، حيث يستمر تجاهل السنة المعتدلين، والمغيبين سياسيًا، وعسكريًا! وعليه، فنحن أمام تحرك تركي بسوريا، لكن دون اتخاذ موقف حقيقي ضد الأسد، وإنما تدارك لإهمال الأتراك مع الجماعات الإسلامية هناك، كما أننا أمام خطأ سياسي تونسي فادح من خلال إعادة العلاقات الدبلوماسية مع مجرم دمشق، رغم كل جرائم الأسد المختبئ في دمشق تحت حماية إيران، وميليشياتها الشيعية، ورغم تشريد ملايين السوريين. فالأتراك يتحركون الآن دون ضغط حقيقي على الأسد الفاقد السيطرة على جل سوريا، والتوانسة يعيدون العلاقة مع الأسد بدلاً من اتخاذ إجراءات كفيلة تمنع انضمام التوانسة لـ«داعش»، حيث يقاتل بصفوف التنظيم المتطرف أكثر من ثلاثة آلاف تونسي! وكل ذلك يقول لنا إن لا رؤية عربية حقيقية تجاه سوريا للآن، ورغم كل الدماء السورية، خصوصًا من قبل دولة يتغنى البعض بأنها أشعلت جذوة ما عرف بالربيع العربي؛ أي تونس، ولا رؤية إقليمية حيث يتحرك الأتراك عسكريًا دون رؤية حقيقية للحد من جرائم الأسد، ووضع حد لنهايته الحتمية، وذلك عبر تعزيز قدرات الجيش السوري الحر، وكذلك دون تعهد تركي، وبتنسيق عربي دولي، لإقامة مناطق آمنة على الحدود التركية – السورية لتمثل نواة حقيقية لوضع حد للنظام الأسدي المنتهي أصلاً. ولذا، فنحن أمام تحركات تكتيكية بالأزمة السورية، لا عمل يسير وفق رؤية استراتيجية للقضاء على الأسد، أو الشروع في تدشين عملية سقوطه! يحدث كل ذلك والمنطقة تعيش «دوار» الاتفاق النووي مع إيران التي تملك رؤية واضحة لما تريده بالمنطقة، وتعتمد استراتيجيتها على الحفاظ على النفوذ بسوريا، وليس الأسد بالضرورة، مع غياب الرؤية العربية والإقليمية بالمنطقة، وسوريا مثالاً، ولو من باب المصالح، طالما أن الجانب الأخلاقي غير مهم عربيًا، خصوصًا أن تونس الجديدة الديمقراطية تصالح المجرم الأسد! والرؤية العربية، والإقليمية، مطلوبة اليوم لوضع حد للتمدد الإيراني الذي تعد سوريا مركزه وغرفة عملياته، ولوضع حد لجرائم الأسد المترنح. ومع غياب تلك الرؤية، فإن كل الخيارات تجاه سوريا لا تزال سيئة للأسف!