راغدة درغام: خيارات مجلس التعاون للرد على أوباما/طارق الهاشمي: الوجه الآخر للاتفاق النووي مع إيران/عبد الرحمن الراشد: انقلاب داعش على الأتراك

310

خيارات مجلس التعاون للرد على أوباما
راغدة درغام/الحياة/24 تموز/15
الآن وقد ختم الرئيس باراك أوباما تركته التاريخية بالاتفاق النووي مع إيران وبإحياء علاقة ثنائية قوامها الشراكة الإستراتيجية بين واشنطن وطهران، أمام دول مجلس التعاون الخليجي خيارات محدودة ليست كلها سيئة أو سلبية. الوقت ليس وقت الندب أو الندم. منذ البداية، أوضحت الولايات المتحدة ان المصالح لغتها وأن آخر همومها أن تُتهَم بالخيانة والانقلاب على الحليف. واضح الآن ان «الصبر الإستراتيجي» مارسته الديبلوماسية الإيرانية بحنكتها المعهودة واعتمدته الديبلوماسية الأميركية تكتيكاً مدروساً للوصول الى تحقيق غايات النقلة النوعية في العلاقة مع ايران. ما سيترتب على تلك النقلة ينطوي على شراكة أمنية أميركية – إيرانية تريدها طهران، تنصّب نفسها فيها الطرف الموثوق به للانتصار على «داعش» وأمثاله ممن يمثل التطرّف السنّي ويتسم بالإرهاب، وتقدم نفسها فيها الراعي للمصالح الأميركية البديل عن مجلس التعاون الخليجي. لا يكفي ان تصرخ دول في مجلس التعاون احتجاجاً أو أن تتسرّع الى التهديد بتلقين درس هنا أو المكابرة هناك. الأمر يتطلب مقاربةً إستراتيجية جديدة وواعية وحكيمة تشمل الاستعداد للتخلي عن فكر «المواقف الثابتة» باعتباره مصدر الكرامة ورفض التنازل. لا عيب في التأقلم مع وقائع أفرزها «الصبر الإستراتيجي» – ليس بمعنى الانحناء والخضوع أمامها، وإنما بمعنى الإقرار بها وأخذها في الحساب لدى الجلوس إلى طاولة رسم الإستراتيجيات في مقاربة شاملة تنطلق من مراجعة النفس والاعتراف بالأخطاء واستعادة الثقة بالذات والجرأة على المفاجأة. باراك حسين أوباما خَتَم على صنع سيرته وتركته للتاريخ ختم البيت الأبيض، ولن يتراجع. قد ينجح الكونغرس بحجب رفع العقوبات الأميركية عن إيران، إنما الأرجح أن يسيل لعابه وهو يدقق في تدفق الوزراء ورجال الأعمال الكبار من ألمانيا وفرنسا وروسيا والصين وبريطانيا إلى طهران للاستفادة من الانفتاح وأسواق النفط أو السلاح.
فما إن بدأ يجفّ حبر قرار مجلس الأمن الذي حوّل التفاهم بين إيران و5+1 إلى اتفاق دولي، حتى اسرع الى طهران نائب المستشارة الألمانية انغيلا ميركل وزير الاقتصاد والطاقة زيغمار غبريال لحصاد ما استثمرته ألمانيا في ايران – وهو ضخم لأن ألمانيا نصّبت نفسها المدافع الأول عن المصالح الإيرانية. ألمانيا تنظر الى ايران كما تنظر الى اسرائيل من منطلق علاقاتها مع العرب. فهي ترى ان ايران لم تعتدِ على أي جار عربي بغزوه عبر الحدود – شأنها شأن اسرائيل وفق الفكر الألماني. وبالتالي ان الطرف المعتدي في الحالتين هو العرب بغض النظر عن الأدوار الإيرانية في سورية مثلاً، بالتدخل العسكري هناك أو في لبنان حيث ايران نفسها و «حزب الله» معها يقرّان بالتحالف بينهما ونفوذ القرار الإيراني في لبنان. فألمانيا قد «تتعاطف» مع اللبنانيين في هذا الصدد لكنها «تتحالف» عملياً مع ايران حيث مصالحها الاقتصادية. حاول زيغمار غبريال رفع الغبار عن السمعة الألمانية فطرح في طهران مسائل حقوق الإنسان وأوضاع المرأة وسمع الجواب بأن ذلك ليس من شأنه أو شأن بلاده. لم يخطر على باله طرح الأدوار الإيرانية الإقليمية التي أصرّ على دعم طهران في رفض التحدث عنها أثناء المفاوضات. لم يحتجّ على التدخل العسكري الإيراني في سورية شأنه شأن الـ 5 الآخرين، لأن هذه الدول قرّرت تصنيف التدخل الإيراني العسكري في سورية والعراق في خانة سحق «داعش» ومكافحة الإرهاب. قرّرت الدول الخمس المكلفة ضمان احترام قرارات مجلس الأمن ان تغض النظر عن انتهاكات ايران لقرارين تم تبنيهما بموجب الفصل السابع الملزم تضمنا منع ايران من تصدير السلاح والرجال والعتاد خارج حدودها – لا الى معركة ميدانية ولا الى ميليشيات.
حتى وزير خارجية فرنسا، لوران فابيوس، الذي كان أكثر الوزراء الست تدقيقاً في نصوص الاتفاق النووي، سارع الى طهران لمناقشة «كل المواضيع» في أول زيارة لوزير خارجية فرنسي للجمهورية الإسلامية منذ 12 سنة. كان فابيوس صريحاً عندما قال لإذاعة فرنسا الدولية «صحيح ان فرنسا كانت صارمة للغاية. هل تُعاقَب الشركات الفرنسية؟ جوابي هو لا لأنه في الماضي كان لنا وجود مهم في ايران. ما لنا (من خبرة) في الكثير من المجالات ممتاز، والإيرانيون جديون».
بريطانيا متأهبة للاستفادة من الانفتاح والتطبيع مع ايران وهي كانت في طليعة استعادة العلاقات الديبلوماسية معها. الصين جاهزة كالعادة لقطف الثمار، بالذات نفطياً، وفي الأسواق الإيرانية حيث للبضاعة الصينية آفاق. روسيا تُعتبر الحليف الأقرب الى ايران سيما في علاقاتهما الثابتة في الشأن السوري والقرار الإستراتيجي الإقليمي وفي الحرب على الإرهاب السنّي، وموسكو جاهزة للاستفادة من السوق العسكرية الإيرانية ومتأهبة ليس فقط لتصدير السلاح اليها وإنما لإنماء القدرات النووية السلمية. لعل الولايات المتحدة تبدو أقل المستفيدين من الصفقة النووية مع ايران، لكن الرغبة الأميركية الصارمة انطلقت من رفض المواجهة العسكرية مع الجمهورية الإسلامية ومنع اسرائيل من جرّ الولايات المتحدة الى مواجهة عسكرية مع ايران. المؤسسة العسكرية الأميركية ستستفيد لأن الولايات المتحدة ستحاول طمأنة دول مجلس التعاون الى استمرار العلاقة التحالفية معها من خلال بيع السلاح وربما من طريق «مظلة أمنية» تتطلب استثمارات خليجية ضخمة في المؤسسة العسكرية الأميركية. بالتأكيد اسرائيل ستستفيد مهما تظاهرت بأنها تتعالى على زيادة الدعم العسكري الأميركي التي حملها وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر إليها هذا الأسبوع. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يتظاهر بالاحتجاج القاطع على الاتفاق النووي، إنما في الواقع، هو احتجاج ضعيف منذ البداية. واليوم تتسرّب أنباء بأن نتانياهو سيغيّر إستراتيجيته العازمة على حضّ أعضاء الكونغرس على رفض الاتفاق النووي. سيتصرّف بإستراتيجية جديدة على ضوء ما حصل. سيستمر في الخطاب السياسي التصعيدي، لكنه مرتاح جداً الى ما أضفاه الاتفاق التاريخي من اعتراف بشرعية ايران وشرعية فرض الدين على الدولة. فهذا ما يسعى وراءه وسيمضي الى الحصول على اعتراف دولي بشرعية الدولة اليهودية في اسرائيل. والسابقة الإيرانية مفيدة لإسرائيل.
أشتون كارتر عقد محادثات في السعودية والأردن في أعقاب زيارته اسرائيل وحمل الى البلدين تطمينات ثنائية أمنية. وزير الخارجية جون كيري سيتوجه الى الدوحة الأسبوع المقبل لإجراء محادثات مع دول مجلس التعاون لإعطاء التطمينات السياسية.
على دول مجلس التعاون أن تتجهّز بإستراتيجيات مبدعة وجديدة ومدهشة. ذلك أن الغرب والشرق اعتادا على نمطية السياسات الخليجية وبات الإثنان يأخذان في الحساب هامشاً من التوقعات بناءً على تلك النمطية. وللصراحة، لقد أعطى بعض دول مجلس التعاون ذخيرة للتنبؤات ولأخذ ردود فعلها كمادة مضمونة في الحسابات، الاستياء والتذمّر ثم الانسياق إلى الخيارات المحدودة. هذا مؤذٍ للمصالح الخليجية والعربية بعامة وربما من المفيد الآن استنهاض جدوى المفاجأة والإدهاش. أولاً، ليس في المصلحة العربية اعتبار الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية هزيمة للعرب – حتى ولو كان حقاً كذلك في تفسير بعضهم. نفسية الهزيمة بحد ذاتها مؤذية ومكلفة ولا داعي لها. إيران رابحة بالتأكيد من الاتفاق النووي الذي يرفع العقوبات عنها، ويخرجها من العزلة، ويصنّفها شريكاً إستراتيجياً، ويؤهّلها لاعباً إقليمياً مهماً. إنما هذا لا يعني تلقائياً أن الربح الإيراني يساوي الخسارة العربية. الرابح واضح، وهو طهران. إنما الخاسر ليس بالضرورة الرياض أو القاهرة سيما إذا أحسنت العواصم العربية المعنية التفكير إستراتيجياً وخرجت بمفاجأة الإدهاش الإستراتيجي. ثانياً، مثل هذا الإدهاش يتطلّب التفكير في الحلول الضرورية والملحّة للنزاعات في الدول العربية ويتطلّب التخطيط الجدي لما ستؤول إليه منطقة الشرق الأوسط بعد 10 سنوات، أي بعد نفاد الوصاية الدولية على الطموحات الإيرانية. هذا يعني أن على أصحاب القرارات العربية وعلى القيادات الخليجية بالذات عقد العزم على معالجة جذرية للنزاع في اليمن إما بتصعيد عسكري حاسم أو عبر تسوية سياسية تنطوي على تنازلات مؤلمة. وفي الحالتين لا مناصَ من أخذ زمام المبادرة إلى خطة إنقاذ وتنمية تضع حداً للكارثة الإنسانية المؤلمة في اليمن.
بكلام آخر، لا داعي لانتظار بوادر حسن النية أو سوء النية من إيران في أعقاب الاتفاق النووي، ولا فائدة من التوسل إلى الولايات المتحدة وشريكاتها في نادي 5+1 للتأثير في طهران ولجم شهيتها الإقليمية في اليمن أو كبح عزمها على امتلاك سورية – أو جزء منها بعد تقسيمها – لتكون ممراً إستراتيجياً لها إلى إسرائيل وعبر «حزب الله» في لبنان. فلقد اكتسبت دول خليجية سمعة في الحرب السورية تستغلّها طهران اليوم وهي تحيك الشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة تحت عنوان الشراكة الميدانية لسحق «داعش»، وفي بال طهران زجّ جميع أقطاب المعارضة السورية المسلّحة تحت عنوان مكافحة الإرهاب في سورية. وفي بالها أيضاً بناء شراكة أميركية – إيرانية أمنية في العراق تمهيداً لترتيبات أمنية بديلة عن مجلس التعاون الخليجي. طروحات هذه الترتيبات معروفة وأوضحتها طهران وهي عازمة على المثابرة الإستراتيجية لتصل إلى أهدافها. الدول العربية الفاعلة تعتمد تقليدياً أنماط ردود الفعل الإستراتيجية بدلاً من المثابرة الإستراتيجية والاستفادة من زخم المبادرة.
فإذا كان مصير سورية التقسيم، فليكن سريعاً بدلاً من المزيد من القتل والتشريد بهدف استكمال التنظيف العرقي الضروري للتقسيم الطائفي. إذا كان رفض التقسيم جدياً، على الدول العربية المعنية تبنّي إستراتيجية تصعيديّة جديّة، الأرجح أنها غير راغبة فيها ولا هي قادرة عليها. وبالتالي، على القيادات المعنية اتخاذ قرارات جديدة عنوانها إما الانخراط العسكري الكامل أو الانخراط السياسي مع طهران مهما كان ذلك مؤلماً لها. وإذا كانت دول مجلس التعاون الخليجي عازمة على منع تفكيك المجلس كجزء من إستراتيجية طهران لإنشاء نظام أمني جديد، من الضروري لها الإمعان في ورشة فكر تأخذ في الحساب شقّ المجلس نفسه وشقّ الوزن العربي في موازين القوى الإقليمية وما يتطلبه من سياسات جذرية نحو مصر. إنما في الوقت ذاته، مثل هذه الورشة الفكرية يجب أن تدقّق في إمكانية الاستفادة من طروحات لنظام أمني جديد يضم إيران والعراق ومصر وتركيا إلى جانب دول مجلس التعاون. فلتأخذ هذه الدول مسار تلقي الطرح وأخذ زمام المبادرة. أخيراً، هناك رأيان حول الاتفاق النووي، أحدهما ينذر بتسليط إيران على الدول العربية وتمكينها من السطوة، والآخر يبشّر بعلاقات آمنة وتعاونية بين إيران الاعتدال والدول العربية بعد التخلص من التطرّف في الصفوف العربية والإيرانية، السنّية والشيعية. كلا الاحتمالين يتطلب جديداً في الفكر والفعل العربي غير ذلك المعهود تقليدياً. فلقد حدث اهتزاز في المعادلات الإقليمية والدولية، وهذا يتطلّب أكثر من ردود فعل على تداعياته. يتطلّب نقلة نوعية في الفكر والإستراتيجية العربيين.

الوجه الآخر للاتفاق النووي مع إيران
طارق الهاشمي/نائب الرئيس العراقي السابق/الحياة/24 تموز/15
بعد ما يزيد عن عشرين شهراً من مفاوضات مكثّفة بين إيران من جهة، والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا من جهة أخرى، تم الاتفاق على البرنامج النووي الإيراني. دليل جديد يبرز أهمية طاولة المفاوضات كبديل لساحات المعارك والحروب، وخيار مجدٍ بل ومثمر في حلّ النزاعات الدولية حتى الشائك والمعقّد منها، ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، الى القول إن الاتفاق يمثل دليلاً قوياً وشاهداً على قيمة الحوار والتفاوض، معبّراً عن إعجابه بالمفاوضين. الاتفاق، بقدر تعلّق الأمر بالمصالح لم يكن متوازناً، ذلك أن الطرف الذي قدم تنازلات هائلة تمسّ السيادة والكرامة هو إيران، ومن الآن فصاعداً سيحصي الغرب حتى أنفاس إيران، وليس فقط صناعاتها العسكرية وبرنامجها النووي والمغامرات المتعلّقة بها، بعدما أبقى على العقوبات المتعلّقة بدعم الإرهاب. تجربة الغرب مع العراق ستتكرر.
المفاوضات لم تنجح لمجرد أن المتفاوضين يملكون حساً استثنائياً ورغبة في السلام، ويتميزون بمهنية راقية في التفاوض، ولا هي الأجواء المريحة مرة في فيينا وأخرى في باريس وثالثة في بروكسيل… لا هذه ولا تلك. ما أنجح المفاوضات وأجبر إيران على قرارات مؤلمة، هو من جانب، إبقاء الغرب على الخيار العسكري ماثلاً بالأساطيل البحرية على مرمى حجر في مياه الخليج العربي محمّلة بالطائرات وصواريخ «كروز» و «توماهوك»، التي تضاعفت خلال فترة التفاوض، ومن جانب آخر تنامي غضب شعبي ولا سيما من الشباب، قد يخرج عن السيطرة إذا لم تتدارك الحكومة الإيرانية الوضع الاقتصادي المتردّي بسرعة، وتضع حداً للعقوبات الاقتصادية القاسية التي أثقلت كاهل الوطن والمواطن. الغرب فاوض إيران وهي تحت الضغط، لذلك نجحت المفاوضات، ولو لم تكن هناك ضغوط لما حصل اتفاق، بل تسويف ومماطلة، كذب وتضليل وتقيّة، مناورات لا نهاية لها، «الشيطان الأكبر» ومعه «محور الشر»، يتقنانها من دون شك، ومع ذلك لا أحد يبز إيران في هذه المهارات، فالإيرانيون والحق يقال، أساتذة (ماسترز) في هذا الشأن، وعلى رغم ذلك فشلوا هذه المرة والفضل للضغوط التي مورست عليهم. في حساب الربح والخسارة، إيران بالمطلق هي الطرف الخاسر، والمفاوضات في قضها وقضيضها كانت تجري في مساحة مصالح إيران الحيوية فحسب، وما آلت إليه هذه المفاوضات بل ما تم الاتفاق عليه، هو ببساطة حصيلة مقايضة بين مصلحة إيرانية اقتصادية ومصلحة إيرانية استراتيجية تكنولوجية، حررت فيها إيران أموالها المجمّدة لكنها قيّدت نشاطاتها النفطية والبنكية والملاحية والتجارية، ووافقت على تحجيم مخرجات برنامجها النووي وتعليق طموحاتها النووية. الغرب لم يفرّط بموارده بل وظّف أموال إيران نفسها في كبح جماح برنامجها النووي. ليس هذا فحسب، بل إن القبول بإخضاع منشآتها النووية على اختلافها للمراقبة، بل وحتى المرافق والأماكن الحساسة، ما يوحي بأنها عسكرية بحتة، هو تفريط بالسيادة، وهكذا تكون إيران قد باعت سيادتها وكرامتها بثمن بخس. لن يغير الشعار المستهلك «الموت لأميركا» «الموت لإسرائيل»، من واقع الحال بعد الآن، إذ إن الحقائق تشير الى أن ايران اختارت فعلاً وبدل ذلك، شعار «الموت للسيادة».
المحافظون في إيران وفي مقدّمهم «الحرس الثوري»، على دراية بهذه الحقائق ولهذا يرفضون، أما الإصلاحيون فهم يتجاهلون في خطابهم التنازلات الاستراتيجية التي وافقت عليها إيران، ومن بينها استخدام ثلث أجهزة الطرد المركزي فقط، وتخفيض التخصيب الى 3,67 في المئة بدلاً من 29 في المئة، وتسويق اليورانيوم المخصب الى الخارج، وإجبارها على شراء الوقود النووي من روسيا، وتحويل مفاعل آراك من إنتاج الماء الثقيل الى الماء الخفيف، وتحويله بالكامل الى أغراض سلمية. لن تبني إيران أي مفاعل نووي جديد على مدى 15 سنة، وضع تجارب مفاعل فوردو تحت إشراف المجتمع الدولي… الخ، فالمحافظون بالكاد يذكرون حسنات أو مكتسبات ذات مغزى، غير حديث لا يسمن ولا يغني من جوع، كالحديث عن الانتعاش الاقتصادي المنتظر بعد تحرير ثروة إيران من الحجز، وإطلاق الاقتصاد من الحصار، وانتهاء عزلة إيران وعودتها الى المجتمع الدولي، والاعتراف بها قوة نووية، وأنها الدولة الأقوى في الشرق الأوسط… إلخ.
على رغم التصويت بالإجماع من جانب أعضاء مجلس الأمن، تباينت المواقف على الصعيد العربي بين مرحّب ومهنئ، وآخر موافق بحذر، وثالث فضّل التريّث والانتظار، ورابع رافض ومتشائم… المحصّلة، استقبال عربي فاتر على رغم أن الاتفاق حصل واكتسب الشرعية الدولية، لكن أبرز الرافضين والمندّدين كان إسرائيل واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. الرفض لغرض الرفض ليس إلا، وسيلة وليس غاية، وهي فرصة لن تعوّض أبداً يمكن استثمارها في ابتزاز الرئيس أوباما المتهافت جداً على إنجاح الاتفاق، حيث لا شيء في السجل على مدى سبع سنوات، يصلح لكتابة إرث رئيس يفخر بإنجازاته وليس لديه حتى الآن سوى ما اشتهر به أوباما من غياب الرؤية، والتردد، والحركة الوئيدة، والتنصّل من الالتزامات، وتغيير المواقف في اللحظة الأخيرة، وتقديم التنازلات من دون مبرر… هذا اللهمّ إلا إذا كان الرئيس أوباما يعتبر أن تشريع زواج المثليين إنجاز إنساني وحضاري يمكن أن يفتخر به رئيس! بينما يصرخ نتانياهو رافضاً ومندداً ومتخوفاً من الاتفاق النووي، فإن عينيه على عقود مؤجلة ومطالب كانت رفضتها الإدارة الأميركية، إضافة الى قائمة تسليح جديدة، يسعى الى الحصول من خلالها على امتيازات استراتيجية أو أمنية أو اقتصادية. ألم يتحدث الرئيس عن دعم غير مسبوق لإسرائيل؟ إذاً، عليه أن يبرهن عن ذلك، لقد حان الوقت للسداد، لن يتراجع الرئيس أوباما، وهو أكد ابتداءً أنه سيواجه رفض الكونغرس بالفيتو، بل سيسعى الى تشريع الاتفاق النووي بأي ثمن، والثمن هنا إرضاء إسرائيل واللوبي الصهيوني، ومن المتوقع أن يضطر للسخاء والكرم بما لم يسبق له مثيل في تاريخ العلاقة الأميركية – الإسرائيلية. هذا ما سيحصل، والخاسر الوحيد هو نحن، العرب، حيث حُرمنا من حق المشاركة في المفاوضات ابتداء، كما فشلنا في استثمارها بالابتزاز لاحقاً، بينما لا يزال لدينا الكثير يمكن أن نطالب به الإدارة الأميركية.

انقلاب «داعش» على الأتراك
عبد الرحمن الراشد/الشرق الأوسط/24 تموز/15
بخلاف ما يقوله المشككون، فإن الرواية الرسمية التركية معقولة. الأرجح أن تنظيم داعش هو وراء التفجير في بلدة سروج، جنوب شرقي البلاد، والذي خلف أكثر من ثلاثين قتيلاً. فانقضاض التنظيم ليس مفاجأة بل إنه متوقع، حتى إن الرئيس الأميركي لم يفوّت الفرصة للاتصال بالرئيس التركي، وإقناعه بوقف تدفق المقاتلين عبر الحدود إلى سوريا. وهذا يدفع للمراجعة والتساؤل، أين الخلل في الأحداث الماضية؟ الحقيقة أن موقف تركيا ضد النظام السوري جاء طبيعيًا حتى ازدادت القضية تعقيدًا مع مرور الوقت. ففي السنة الأولى، وإلى منتصف الثانية، كانت الانتفاضة سورية خالصة؛ شباب سوري حمل السلاح بعد عمليات القتل الواسعة ضده من قبل قوات النظام وأجهزته. وكان موقف أنقرة مؤيدًا للحركة المعارضة التي تشكلت من عدة تنسيقيات محلية وتظللت تحت مظلة «الائتلاف» و«الجيش الحر». وبنهاية السنة الثانية كان النظام يترنح، فقد خسر الكثير من المدن الرئيسية، وكانت أطراف العاصمة دمشق تشهد معارك ليلية بين الجانبين. بعد هذا التاريخ، أمران حدثا في نفس الفترة؛ الأول، سوريا صارت تمثل قضية كبيرة في العالم الإسلامي، تشبه مأساة البوسنة في التسعينات، بسبب عمليات القتل والتدمير الواسعة التي ارتكبها النظام، وأشاعت غضبًا ضد اللامبالاة الدولية، وفشل الوساطات بلا عقوبات، ومنع تسليح المعارضة. الأمر الثاني، دخول إيران وحلفائها عسكريًا في سوريا لرفد النظام المتهاوي في دمشق. وصار المقاتلون من «الجهاديين» على الجبهتين يتدفقون إلى الداخل. في الوقت الذي كانت الطائرات الإيرانية تنقل مقاتليها، وميليشيات العراق ولبنان تعبر الحدود بالآلاف، كان مقاتلون يعبرون من الجانب التركي ضد النظام. وهكذا تحولت سوريا إلى مغناطيس جاذب ومحور حرب إقليمية وطائفية. وكان الغرب يراها حربًا داخل معسكر المسلمين لا شأن له بها. تركيا أغمضت إحدى عينيها عن العابرين لدعم الثورة السورية، ثم مالت إلى أهون الشرين: «جبهة النصرة»، كما يقول ناقدوها. و«النصرة» ليست إلا تنظيمًا آخر لـ«القاعدة» لكن دون فيديوهات ذبح الرهائن. ظنت أنقرة أنه لا يمكن مواجهة ميليشيات عراقية ولبنانية وأفغانية وإيرانية «جهادية» إلا بجماعات تشابهها، مثل «داعش» و«النصرة»، وهذا التفكير الخاطئ تسبب في إضعاف وتجاهل أهل القضية: «الجيش الحر» والقوى المماثلة، التي لا ترفع شعارات دينية، لكنها صاحبة قضية وطنية ومشروع سياسي يستطيع أن يلم معظم السوريين تحت شعاره. بالطبع، من يعرف سيرة تنظيم «القاعدة» ليس صعبًا عليه أن يتنبأ كيف سينتهي «داعش». مثله، بادر «داعش» مبكرًا باختطاف وقتل غربيين، مثل العبث بذيل الثعبان جلب على نفسه أعداء يفوقونه قدرات. وهذا طبع التنظيمات الإرهابية، فهي لا تملك قضايا وطنية، ولا أخلاقية، بل جماعات فوضوية تدميرية تعتقد أنها قادرة على هزيمة العالم كله، وهي في طريقها إلى الجنة. كما أن أنقرة انخرطت في خلافات المنطقة وفوضى الربيع العربي. مع هذا تركيا تبقى الدولة الوحيدة القادرة على تحقيق التغيير في سوريا. وليس غريبًا انقلاب «داعش» على تركيا، ولاحقًا «النصرة»، لأن التنظيم صار محاصرا بعد أن منعت آلاف المقاتلين من المرور عبر أراضيها، وأوقفت مواقعه الإلكترونية. ويجب ألا ننسى أن «داعش» الذي حقق انتصارات كبيرة، حقق أيضًا للنظامين السوري والإيراني ما يريدانه؛ تخريب الثورة، وتشويه صورة الحركة الوطنية السورية، والإضرار بمعسكر الحلف المضاد، مثل تركيا ودول الخليج. ورغم الفوضى والضغوط أعتقد أن أنقرة، مثل بقية حكومات دول المنطقة، هي في وسط معركة التوازنات، لا تستطيع ترك جارتها الجنوبية، سوريا، تحت سيطرة إيران، خاصة بعد توقيع الغرب الاتفاق حول برنامجها النووي، الذي يفك كل القيود عن نظام طهران، وقد يزيد ثقتها للمزيد من التمدد في المنطقة. بإمكان الأتراك أن يعيدوا علاقتهم مع القوى السورية الوطنية لأنها تملك شرعية وقضية حقيقية، ولا يستطيع العالم تجاهلها.