نديم قطيش: جعجع. مشعل. عدن: الرياض تتأهب/وليد شقير: مساعي تجار العقوبات للتعويض عن الانتصار/حسام عيتاني: في مآلات إعادة إعمار لبنان

449

جعجع.. مشعل.. عدن: الرياض تتأهب
نديم قطيش/الشرق الأوسط/24 تموز/15
لا تنتظر مراكز القرار في العالم تغييرات جذرية تتصل بمصير الاتفاق النووي بين إيران والمجتمع الدولي. الاتفاق دخل دائرة الوقائع السياسية والاستراتيجية في حسابات كل القادة والعواصم.
ضجيج الكونغرس الأميركي لن يعطله. ولا الاعتراض الإسرائيلي ولا «الملاحظات» العربية والخليجية تحديدًا.
لا مناص إذن من التعاطي مع الاتفاق باعتباره واحدًا من عناصر أي معادلة سياسية واستراتيجية أو سياسة ستبنى أو موقف سيتخذ.
تتفرع عن القرار ونتائجه وتداعياته صراعات داخلية. صراعات بين أجنحة إيران في الداخل. ظهر هذا جليًا في موقف الحرس الثوري الإيراني الذي اعتبر قائده الجنرال محمد علي جعفري أن قرار مجلس الأمن الذي تبنى الاتفاق «غير مقبول» وأن «بعض أجزاء المسودة تجاوزت بوضوح الخطوط الحمر للجمهورية الإسلامية وخصوصًا ما يتعلق بقدرات إيران العسكرية»، مشددًا على أن الحرس «لن يقبله أبدًا».
وتتفرع عنه صراعات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في داخل الولايات المتحدة، في سياق معركة سياسية واستراتيجية و«ثقافية» كبيرة مع الرئيس باراك أوباما وإرثه في الحياة السياسية الأميركية.
وتتفرع عنه صراعات بين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وخصومه في الداخل الإسرائيلي.
إلى ذلك تتفرع عن الاتفاق صراعات ومناكفات بين إيران وخصومها في المنطقة.
الخبرة والتجربة مع إيران تقول إن دولة الملالي لن تتأخر عن السعي إلى ترجمة الاتفاق النووي مع الغرب مزيدًا من النفوذ في الشرق الأوسط. وهذا يخالف بعض الافتراضات بأن إيران ستجنح إلى التسويات والحلول والتفاهمات والتهدئة، فهي أولاً ليست إيران واحدة، واشتباكها الداخلي سينعكس في الخارج، وسيكون للحرس دور مهم في إطالة عمر الالتهابات المندلعة في المنطقة.
وبالتالي من المتوقع أن يشتد التجاذب السعودي الإيراني من هذه الزاوية تحديدًا، حيث ستسعى الرياض بشراسة إلى منع طهران من تثبيت مكتسباتها الراهنة في المنطقة دعك عن زيادتها، كما ستسعى للدفاع عن مرتكزات السلم الأهلي في دول الإقليم وسلامة دوله وهوياته الوطنية.
لعل واحدة من الساحات التي ستكون مسرحًا للتجاذب والاشتباك السعودي الإيراني هي بيروت، بعد أن كانت المدينة محيدة نسبيًا بتسويات الحد الأدنى والاتفاق على إدارة دولة فاشلة في لبنان عبر هيكل مؤسسات مفرغة من مضامينها وفاعليتها.
كان لافتًا أن يذهب الجنرال ميشال عون مدعومًا من حزب الله إلى تصعيد مستوى الاشتباك مع الحكومة اللبنانية ورئيسها ومع اتفاق الطائف، بصفته «النظام» في لبنان، عشية توقيع إيران لاتفاقها النووي بعد تعايش هادئ نسبيًا أنتج الكثير من القرارات الحكومية التي استفاد منها الجنرال عون كما غيره. لا شك أن التصعيد العوني المدعوم والمرعي مباشرة من حزب الله مرتبط باستحقاقات ومهل زمنية بشأن تعيين قائد جديد للجيش اللبناني، في سبتمبر (أيلول) أو عدد من كبار الضباط قبل هذا التاريخ. كما يرتبط باستحقاق حلول موعد تسريح صهره العميد شامل روكز، ومرشحه لقيادة الجيش. كل هذا صحيح، لكن أمام عون أشهر قبل الدخول في حالة الطوارئ السياسية والمطلبية والحقوقية التي أعلنها، ما يعزز الاعتقاد أن التصعيد العوني ظاهر، و«الحزب اللاهي» ضمنًا يرتبط أكثر بتحمية إيرانية جدية للمنازلة مع المملكة العربية السعودية في بيروت، كواحدة من الساحات، المنازلة ما بعد توقيع الاتفاق النووي.
لعله في سياق التحمية نفسه جاء استقبال المملكة العربية السعودية للدكتور سمير جعجع، رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية، بوصفه مرشح العرب لرئاسة الجمهورية، التي طال الفراغ في سدتها، في مقابل الجنرال عون بوصفه مرشح محور المقاومة للرئاسة. وبصرف النظر عن عدم قدرة أي من المحورين على إيصال مرشحه، والاتجاه الأكيد إلى مرشح توافقي أكد على حتميته الرئيس سعد الحريري في خطابه الرمضاني الأخير، فإن صورة التجاذب والتحمية هي هذه.
معلوم أن عددًا من القادة اللبنانيين كانوا وما زالوا ينتظرون زيارة تشبه زيارة جعجع إلى الرياض، مما يعني أن استقباله هو قرار سعودي محسوب في سياق المواجهة السياسية مع إيران في لبنان، من بوابة رئاسة الجمهورية، وحلقة من حلقات الدفاع عن الهويات الوطنية في دول المنطقة ما بعد الاتفاق النووي. تعكس هذه التحمية بالرسائل المبطنة، سخونة ستشهدها الأسابيع المقبلة في لبنان واليمن وسوريا وغيرها. فاستقبال جعجع سعوديًا يعني أن المملكة لن تسمح لإيران بترجمة الاتفاق في لبنان من بوابة رئاسة الجمهورية، أو الظن بأن سقف الرياض منخفض في عملية التفاوض والكباش الإقليمي على الساحة اللبنانية. وعلى الرغم من تقليل السعودية رسمياً للتفسيرات السياسية لزيارة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، الا ان ذلك لم يمنع مراقبين كثرًا من وضع الزيارة في سياق سياسي وافتراض احتمالات سياسية لها. فقد جاء استقبال مشعل في الرياض، لا سيما مستوى اللقاءات التي عقدها، بعد قطيعة بين الحركة والسعودية. وهو استقبال له دلالاته البالغة في هذا التوقيت. ليس خافياً أنه في سياق تحصينها للساحات الداخلية تعتبر الرياض أن المصالحة بين الإخوان، وبين مصر ضرورة استراتيجية كي لا تنجرف مصر في صراع يستنزف قدرتها على النهوض إلى دورها العربي الذي تستحقه. ليس بعيدًا من هذه السياقات، التسخين الميداني الذي ترجم في عملية تحرير عدن والتهيؤ لعودة الشرعية إلى اليمن وإعادة التوازن الفعلي إلى هذا البلد وإعادة تكوين السلطة بالبناء على المرتكزات الفعلية للهوية الوطنية فيه. بين جعجع ومشعل وعدن، مع فارق القياس بين الحالات الثلاث، المملكة تتأهب. مرحلة ما بعد النووي بدأت.

 

مساعي «تجار العقوبات» للتعويض عن «الانتصار»
وليد شقير/الحياة/24 تموز/15
في27 نيسان (أبريل) الماضي، رد الرئيس الإيراني حسن روحاني على اتهام نواب متشددين إياه وأحد قادة «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» بـ «التبعية لأميركا» في التفاوض على «النووي»، فدعا «المستفيدين من العقوبات» الدولية على إيران الى «أن يفكروا بتغيير عملهم ودرس وسائل أخرى لملء جيوبهم». التهمة بالتبعية لأميركا، في حينها، جاءت على خلفية التنازلات التي كان الوفد الإيراني أخذ يقدمها في المفاوضات، بما فيها تحويل مفاعلي «فوردو» و «أراك» من إنتاج اليورانيوم الى وظائف أخرى، منها الأبحاث…
عاد «الحرس الثوري» فاحتج قبل يومين بلسان قائده محمد علي جعفري، على تضمين قرار مجلس الأمن الذي صدر الإثنين الماضي، والذي فيه قوننة لاتفاق فيينا، استمرار الحظر على توريد أنواع من الأسلحة، تشمل تكنولوجيا تطوير الصواريخ الباليستية، لمدة 5 سنوات… فاعتبرها «تجاوزاً للخطوط الحمر»، و «تقييداً للقدرات التسليحية الإيرانية…». قد يكون روحاني هيأ في تصريحه قبل أشهر للمعركة التي سيخوضها في الداخل مع المتشددين، خصوصاً أركان «الحرس الثوري»، الذين اقتطعوا جزءاً من الاقتصاد الإيراني لمصلحتهم، وأقاموا مؤسسات على هامش مؤسسات الدولة والقطاع الخاص واستثمارات ومنشآت اقتصادية للتحايل على العقوبات من أجل ضمان استمرار تمويل تزايد قوة «الحرس» في الداخل ومشاريعه التوسعية في الخارج. قام هؤلاء بذلك بحجة مواجهة العقوبات، لكن الفساد الذي استشرى بحكم الاقتصاد الموازي الذي أنشأوه، بات جزءاً من النقمة الشعبية على ما آلت إليه أحوال الإيرانيين الذين خضعت حياتهم اليومية لمفاعيل العقوبات، فيما استطاع «الحرس» ومناصروه تجاوزها بالاستثمارات التي أقاموها.
إلا أن «تجار العقوبات» كانت لهم وظيفة سياسية، لا تقتصر على الإفساد والإثراء بتمويلهم الحروب المباشرة وبالواسطة التي قاموا ويقومون بها في العراق وسورية واليمن ولبنان وفلسطين وغيرها، من تدخلات طهران في أوضاع داخلية لدول عربية.
إذا كان روحاني يرمي الى الحؤول دون استخدام «تجار العقوبات» المال الذي سينجم عن رفع هذه العقوبات في الوضع الداخلي، فإن هذا سيطلق من دون شك صراعاً داخلياً على كيفية استثمار المال الجديد الذي سيضخ في عروق الاقتصاد الإيراني. ومع أن العقوبات التي سترفع هي تلك المتعلقة ببرنامج إيران النووي، وأن تلك المتعلقة بنشاط طهران «الداعم للإرهاب»، وبسياساتها الإقليمية «التي تزعزع استقرار جيرانها» مؤجلة، فإن وجهة إنفاق الأموال بعد أن يبدأ الإفراج عنها تدريجاً، بالتزامن مع خطوات تنفيذ الاتفاق، ستكون موضوع نزاع داخلي طبعاً، لكن المرشد الأعلى للثورة السيد علي خامنئي حسم الأمر لمصلحة استثمار جزء من هذه الأموال في نشاط «الحرس الثوري» الخارجي، حين أكد أن بلاده لن تتوقف عن «دعم شعوب العراق وسورية (وحكومتيهما) واليمن والبحرين والمجاهدين في لبنان وفلسطين». هذا يعني أن الوظيفة السياسية الخارجية لتجار العقوبات لن تتغيّر. فضلاً عن أنها تحتاج وضعية سياسية داخلية متفوقة، لأنه من غير المعقول أن يكون لهم هذا القدر من التأثير في دول عدة في المنطقة إذا تراجع نفوذهم الداخلي.
قد يظن البعض أن آمال روحاني بتغيير عمل «تجار العقوبات» ستصاب بالخيبة، وقد تشهد الساحة الإيرانية الداخلية تجاذباً حول هذه المسألة، إلا أن القيادة الإيرانية موحدة حول الوظيفة السياسية الخارجية للأموال قبل رفع العقوبات وبعدها، فروحاني وفريقه لا يختلفان عن «الحرس الثوري» والمرشد في استثمار المكاسب التي حققتها طهران في الدول المذكورة، بالتفاوض مع الغرب والولايات المتحدة على النفوذ الإقليمي. لن يقف المحور العربي المتضرر من هذه السياسات الإيرانية متفرجاً، وهذا يؤذن باشتداد الصراع الميداني في كل الساحات التي عددها خامنئي، وفق أوضاع كل ساحة. وإذا كان الإصرار على استعادة اليمن من نفوذ طهران، بدليل تحرير مدينة عدن، مؤشراً الى ذلك، فإن حاجة طهران الى أن تعوّض عن التنازلات التي قدمتها في النووي، سيطلق مرحلة جديدة من مساعيها لإثبات قوتها، فالحملة الدعائية الكثيفة التي أعقبت التوقيع على الاتفاق، على أنه انتصار لإيران في وجه «الاستكبار العالمي»، والتي روّج لها حلفاء طهران أكثر من المسؤولين الإيرانيين أنفسهم، سرعان ما تكشفت عن تنازلات، بات بعض المسؤولين الإيرانيين يقرون بها لمجرد اعتراضهم على بنود في قرار مجلس الأمن. ولذلك يحتاج هؤلاء الى إظهار الانتصار في ميادين الصراع الأخرى. وقد تكون المهلة المعطاة في الاتفاق نفسه، لإبرامه نهائياً، آخر السنة، هي الفسحة الزمنية التي تعطي فرصة لأذرع طهران أن تحقق بعض الانتصارات. الجديد هو أن الساحة لم تعد خالية أمامها، كما كانت في السابق.

 

في مآلات إعادة إعمار لبنان
حسام عيتاني/الحياة/24 تموز/15
تغرق شوارع بيروت وجبل لبنان بالنفايات في ظل نزاع سياسي يعوّق تدبّر اللبنانيين شؤونهم ويكاد يوقف دورة الحياة العادية في هذا البلد. معروف أن الحفاظ على نظافة المدن يرقى إلى البداهات في واجبات السلطات المحلية والحكومات. وليس من خلاف حول الأهمية الكبرى لجمع النفايات والتخلص منها في عالم يعاني من أزمات بيئية تهدّد بعض جوانبها بانقراض الحياة فيه. في لبنان، ارتبطت أعمال التنظيف بما اصطلح على تسميته إعادة الإعمار التي شهدها بعد وضع الحرب الأهلية أوزارها في أوائل تسعينات القرن الماضي. أزمة التخلص من النفايات اليوم تندرج، على ما بات جلياً، في أزمة شاملة يمرّ بها لبنان بدأت تخرج إلى العلن مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005. نظرة أوسع إلى منجزات فترة إعادة الإعمار التي استمرت عقداً بين منتصف التسعينات وأواسط العقد الماضي، تعطي فكرة عن أحوال الناس والمجتمعات والسياسات في لبنان. فإضافة إلى خصخصة عملية جمع النفايات التي قُدّمت وقت حصولها كخطوة متقدّمة على طريق تخفيف أعباء الدولة و»ترشيقها»، ثمة صروح نشأت في تلك الفترة مثل مجمّع الجامعة اللبنانية في بلدة الحدث ومستشفى بيروت الحكومي والمطار الدولي والمدينة الرياضية وعشرات الجسور والطرق السريعة، ناهيك عن مدارس عالية القدرة الاستيعابية في المناطق وقبل هذا وبعده وسط بيروت الذي دمرته الحرب واعتبر درّة التاج في إعادة الإعمار.
يستطيع كل ذي بصيرة الحكم على مآلات هذه المؤسسات والمنشآت التي كلّف بناؤها المواطنين اللبنانيين بلايين الدولارات والغرق في ديون لا أفق للخلاص قريباً منها، في أقل من دقيقة واحدة: كارثة كاملة. المدينة الرياضية أقرب ما تكون إلى الخرابة، المستشفى الحكومي والمجمع الجامعي وقعا في قبضة الفساد المحلي، الكثير من المدارس في المناطق تشكو من قلة التلاميذ وسط مبان اكبر من الحاجة. اكثر من نصف وسط بيروت يشبه مدن الأشباح لأسباب تتراوح بين اخراج هذه المنطقة من النسيج المديني المحيط ووقف السياحة العربية وفرض اجراءات امنية غير مفهومة ولا مبررة. آية ذلك أن إعادة اعمار لبنان تأسست على مجموعة من الأوهام والأحلام انقلب أكثرها كوابيس. لقد اتضحت ضحالة التسوية التي انهت الحرب الأهلية وعدم قدرتها على ادارة لبنان سياسياً واقتصادياً بعد خروجه من التقاطع العربي- السوري- الأميركي الذي اسفر عن اتفاق الطائف. عادت النزاعات الطائفية والمذهبية عودة حادة لم يشهد البلد مثيلاً لها منذ قيامه. وبدا أن التراضي وتوزيع الغنائم على المنتصرين المحليين والإقليميين في الحرب واللذين حَكما حقبة التسعينات مجرد جرعة مُسكّنة لآلام التعايش المضني والممضّ بين الطوائف التي سرعان ما انتبهت، بعد رفع مخالب وصاية النظام السوري عنها، الى مظلومياتها التي لا تنتهي. الأدهى أن حاصل جمع المظلوميات هذه لا يكفي لعلاجه توزيع الثروات والسلطات والمناصب المتاحة. اللبنانيون مظلومون الى درجة لا تكفي معها ثروات الأرض لإرضائهم. وتحول جروح المظلومية ورضوضها المبرحة دون قدرتهم على الاتفاق على حد ادنى من التسويات اللازمة لتسيير امورهم. نتائج اعادة الإعمار ومنشآته، تتفكك وتنهار الواحدة تلو الأخرى امام اعين لا مبالية. اتفاق الطائف موضع تشكيك يومي من دون بدائل جدية سوى حديث نزق عن مؤتمر تأسيسي. الاقتصاد من سيء الى أسوأ. الهجرة حلم من الأحلام القليلة التي توحّد الأعداد الغفيرة. ولا يبقى هنا غير ديون هائلة يرزح تحتها اناس أوكلوا مصائرهم الى من لا يملك مصيره في الأصل.