عبدالوهاب بدرخان: التطبيع يكون أميركياً – إيرانياً – إسرائيلياً أو لا يكون/زهير قصيباتي: رسالة كيري إلى الخليج

272

«التطبيع» يكون أميركياً – إيرانياً – إسرائيلياً أو لا يكون
 عبدالوهاب بدرخان/الحياة/23 تموز/15

 انتبهوا الى ما يقوله المرشد الإيراني علي خامنئي، لكن انتبهوا أكثر إلى تصريحات الرئيس حسن روحاني، فالأول صاحب السلطة المطلقة والقائد الحقيقي لـ «الحرس الثوري» وهو ينطق كالعادة باللسان العقائدي الذي لا يتوقع أحد أن تتغيّر بنيته أو لهجته في المستقبل المنظور، وإذ يسأل البعض لماذا تتغيّر طالما أنها أثبتت فاعليتها فإن بعضاً آخر يقول أنها لن تتغيّر لأنها «على صواب» (؟) أما الثاني، روحاني، فيذكّر ببعض مصطلحات سلفَيه هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، إذ يحاول تكرار دوريهما «الإصلاحي» ولو بأسلوب آخر وظروف مختلفة، وقد ينتهي هذا الدور كما انتهى ما سبقه لأن تركيبة النظام لا تحتمل قطباً ثالثاً إلى جانب المرشد و «الحرس»، وليس مهمّاً أن «الرئيس» منتخب، فهو في المنصب الذي أراده له المرشد ولمهمة محددة، يمكنه أن يصنع صورة مقبولة للنظام، أما أن يغيّر طبيعته فهذه قصة أخرى.

فور التوقيع على الاتفاق قفز الدوران إلى الواجهة: التناوش الخطابي بين خامنئي وباراك أوباما، والتصافح «البزنسي» بين خطابي روحاني والأوروبيين. فالرئيس الأميركي اعتبر أن، حتى مع التوصل إلى هذا الاتفاق، «ستظل بيننا وبين إيران خلافات عميقة» لأنها لا تزال تمثّل «تحديات لمصالحنا وقيمنا»، فيما أكد خامنئي «سياستنا لن تتغير في مواجهة الحكومة الأميركية المتغطرسة». أي أن ثمة بعداً «أيديولوجياً» لا يزال مستوطناً في الأذهان، أما البعد المصلحي فيستلزم تكيّفاً على الجانبين مع «المسار الجديد» الذي أشار إليه أوباما ولم تتضح معالمه بعد إلا في واقع أن التفاوض الأميركي مع نظام كان يرفضه بات يعني الاعتراف به وبالإقلاع عن التفكير أو العمل لتغييره.

لكن هذا الاعتراف قد لا يكفي لتليين «الغطرسة» الفارسية التي احتفلت بالاتفاق النووي على أنه «انتصار» على «الاستكبار» الأميركي، مع أن إيران اعتبرت دائماً أن الأزمة النووية «مصطنعة» إلا أن مرشدها وحكومتها ومجلسها الشوري ارتضوا عقوبات أرهقت الشعب الذي لا يحسبون له حساباً ليحصلوا في نهاية المطاف على «برنامج نووي سلمي» كان متاحاً لهم منذ اللحظة الأولى لو لم يحرصوا على المراوغة وإخفاء حقيقة سعيهم إلى قنبلة نووية باتوا مضطرين الآن رسمياً لاستبعادها بموجب اتفاق أقرّه مجلس الأمن، وعليهم أن يحترموه ليبعدوا عن إيران صفة الدولة المارقة. وأصبح معروفاً أن طهران استعاضت عن تلك القنبلة بمجموعة «قنابل» بديلة حصّلتها بموجب «تصدير الثورة» و «تخصيب الحقد المذهبي» وإفساد تعايش المجتمعات العربية المجاورة واستنهاض مشروع إمبراطوري مما قبل التاريخ وما قبل الإسلام للعبث باستقرار المنطقة وخرائط دولها. وبعد الاتفاق النووي بدأت إيران تعدّ جاهزيتها للمفاوضات الأخرى مع «الشيطان الأكبر» لتكريس الإنجازات الاستراتيجية لتلك «القنابل»، ومن دون قنبلة نووية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتلاقي بـ «وفاق الغطرستَيْن» الأميركية والإيرانية.

وفيما شرع روحاني في استقبال زوار أوروبيين متلهّفين لعقود الاستثمار، فإنه يشيع جواً تفاؤلياً بأن الاتفاق النووي «سيعزز الأمن والاستقرار» في المنطقة، وكذلك «التعاون بين الجيران». وعندما يقول أن طهران «قلقة بسبب الحرب والمجازر في سورية واليمن»، فإنه يثير تساؤلات كثيرة، فإمّا أنه يجهل الواقع لأن هذه الملفات ليست من شأنه، وإمّا أنه يشير إلى ما يعتبره قضايا صعبة تريد إيران إشراكها في معالجتها أو أنه يحرص على إدامة التضليل الإيراني والإيحاء بأن بلاده تراقب أزمات المنطقة ولا علاقة لها بتأجيجها. هنا تولّى المرشد تكذيب الرئيس، إذ قال أن إيران «لن تتخلى عن دعم الشعبين المضطهدين في فلسطين واليمن، والشعبين والحكومتين في سورية والعراق، والشعب المضطهد في البحرين، والمقاتلين الأبرار في المقاومة في لبنان وفلسطين». أي أن خامنئي لم يبقِ لروحاني أي حجّة صلبة يحملها هو أو وزير الخارجية إلى عواصم الخليج، لأن «لائحة المدعومين» هي نفسها لائحة التدخلات التي دمّرت كل ثقة بين إيران وجيرانها. فعلامَ يمكن التحادث مع الجيران، عَلَى الاعتراف بمشروعية التدخل الإيراني في بلدانهم؟

لكن روحاني سيُدفع إلى الانهماك بالتعاطي مع الأوروبيين، لا سيما المستثمرين، وقد يكون هذا هامشه الوحيد للتحرّك، إضافة إلى أنه سيحاول انتزاع بعض الأموال المستعادة بفضل رفع العقوبات لإنعاش الوضع الاقتصادي الداخلي باعتبار أنه لن يمكَّن من إحداث إصلاحات سياسية أو مرتبطة بالحريات يتوقّعها ناخبوه. وفي كل الأحوال، لن يكون القرار عنده لأن الاقتصاد الإيراني انتقل أو اختُطف منذ فترة محمود أحمدي نجاد إلى كنف «الحرس الثوري»، وفي الوضع المستجدّ سيكون من الطبيعي أن يحصل تنافس وخلاف بين الرئيس و «الحرس» ومن الطبيعي أن المرشد هو من سيحسم. والأكيد أن موازين القوى الحالية تجعل أي قرار مالي أو استثماري خاضعاً لمعايير سياسية (عقائدية) – عسكرية لا يمكن أن تؤسس لأي «انفتاح» يتصوّره الغربيون أو يأملونه. لكن هذا لن يُحبط آمال الدول والشركات الغربية، ومع ذلك ستكون هناك صعوبات.

لعل في السجال الذي دار بين الخارجية الإيرانية والزائر الأول، سيغمار غابريال وزير الاقتصاد الألماني نائب المستشارة أنغيلا مركل، ما يشير إلى العقبة الشائكة التي قد تبطئ «التطبيع» بين الغرب وإيران وتفسد الود «البزنسي» بينهما، وهو ما ستستقبله موسكو وبكين على أنه أخبار جيدة. وذُكر أن غابريال تطرق إلى مواضيع خلافية تتعلق بالداخل الإيراني مثل «حقوق الإنسان وأوضاع النساء وحماية حقوق الأقليات الإتنية والدينية، وكذلك قوانين المنافسة ومكافحة الفساد». لكنه قال في حضور وزير النفط بيجان زنقانة أن «علاقات جيدة مع ألمانيا تعني أنه يجب عدم تهديد أمن إسرائيل». وردّت ناطقة الخارجية الإيرانية مرضية أفخم بأن «مواقفنا مختلفة تماماً مع ألمانيا حول المسائل الإقليمية»، مشيرة إلى «قلقنا في شأن تهديدات قائمة بما فيها تهديدات النظام الصهيوني». وكان خامنئي ذكّر بأن الولايات المتحدة دعمت «الفظائع الإسرائيلية» في قطاع غزة العام الماضي. إذا كان أوباما وخامنئي شدّدا على الفصل بين ما تحقق عبر الاتفاق النووي وبين المسائل الإقليمية، فإنهما حرصا على تطمين حلفائهما. الفارق أن المرشد لم يكن مضطراً لبذل أي جهد، فحلفاؤه واثقون بدعمه لهم إما لارتباطات مذهبية أو لإدراكهم حاجته إليهم كأوراق مساومة في يده، أما أوباما الذي أخضع سياسات أميركا وعلاقاتها لهدف واحد هو الحصول على اتفاق نووي فمضطر لإيفاد وزرائه وعسكرييه لتهدئة قلق الحلفاء كما لو أنه يعرف الأضرار التي سبّبها لهم، خلال المفاوضات وبنتيجتها أيضاً. لكن المفارقة أن إسرائيل أشد المعادين للاتفاق، الحليف الأقرب لأميركا في المنطقة، متجاهلة أن الجانب الأكبر من الأزمة والمفاوضات يتعلق بها وبـ «أمنها»، وأن إيران كفّت عملياً عن ازعاجها مُذ انشغلت بمقاتلة شعب سورية. وتعرف إسرائيل أنه لن يكون «تطبيع» أميركي – إيراني إلا إذا استطاع التمهيد لتطبيع إسرائيلي – إيراني. ولعل أوباما موقن بأن هذا لن يحصل في عهده، لكنه سيخضع لابتزازات إسرائيل حتى لو لم تكفّ عن تحريض جمهوريي الكونغرس عليه وعلى الاتفاق. هل هذا «التطبيع» ممكنٌ؟ لا مستحيلات عند المرشد، وعندما تشخّص له «المصلحة»، فإن فتواه ستكون جاهزة غلى غرار «الانعطافة البطولية» أو «الثورية» التي استنبطها لإقناع «الحرس» بأن ما سيقوم به المفاوضون النوويون هو أيضاً نوع من «المقاومة». لكن، في الانتظار يعتقد عتاة النظام، على رغم آراء متنامية تلحّ على إيلاء الداخل اهتماماً «أسوة بفلسطين»، أن أوان التخلّي عن الورقة الفلسطينية لم يحن بعد، فهي كانت مفتاح نجاح إيران في الاختراق الإقليمي ولا تزال قابلة للاستعمال. والدليل في رأيهم أن العرب استغلّوا القضية الفلسطينية ثم رموها كـ «هدية» مجانية لإسرائيل ولم يحصلوا في المقابل على «السلام»، ولا على أي مكسب استراتيجي، وبعدما خسروا فلسطين كرّت سبحة الخسائر التي تحوّلت في أيدي الإيرانيين إلى مكاسب استراتيجية.

رسالة كيري إلى الخليج
 زهير قصيباتي/الحياة/23 تموز/15

 حين تَعِد إيران بتعزيز دعمها «محور المقاومة» و «المناضلين» في المنطقة، بعد توقيعها صفقة الاتفاق النووي، فذاك قد لا يعني سوى تبديد قلقهم الصامت من شقٍّ خفيّ في الصفقة، يُترجَم ببيعهم… ولا يعني لدول الخليج والعرب عموماً سوى تلويح بمزيد من التدخُّلات الإيرانية في العراق وسورية ولبنان واليمن والبحرين. وما أعلنه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف وبعده مستشار المرشد علي أكبر ولايتي، إن كان يرجّح أولوية النفوذ الإقليمي لإيران، ما دامت «لا تسعى» أصلاً إلى امتلاك سلاح نووي، فهو يرجّح كذلك أن بلايين الدولارات التي ستُضخّ في الخزينة الإيرانية، سُتنعش ايضاً أوردة «المناضلين» دفاعاً عن «الشعوب المظلومة». حتى بعد الاتفاق الذي طوى الليالي «النووية» في فيينا، بل ربما بسببه خصوصاً، أثبت الإيرانيون أن ما يقولونه في الليل يمحونه في النهار. وأبسط مثال يعني المنطقة وشجونها، الحديث المتكرّر عن الصفحة «الجديدة» مع دول الجوار، ثم كسر كل التقاليد في تجاوز سيادات دول، للدفاع عن شعوب «مظلومة». وإذا كان منطق السياسة يرجّح مقايضة النفوذ النووي بالأصابع الإقليمية، من بغداد إلى صنعاء ودمشق وبيروت، في ظل نبرات تهديد إيرانية لدول الخليج، فإن رسالة واشنطن التي سيحملها وزير الخارجية جون كيري إلى نظرائه الخليجيين في اجتماع الدوحة (3 آب- أغسطس) سيلخّصها بدعوتهم إلى «رص الصفوف» في مواجهة الخطر! والخطر إذ يبدو اثنين، من طموحات طهران وتحريك أصابعها في المستنقعات والبراكين العربية، ومن «دولة داعش» التي تتمدّد، لا تُظهِر الإدارة الأميركية مجدداً أي ميل جدي إلى معالجة القلق الخليجي، إذا استُثنِيَت عروض تقديم السلاح والمنظومات المتطوّرة المضادة للصواريخ. فالمعضلة مع طهران والتي لم تدركها بعد إدارة الرئيس باراك أوباما، أن للتدخُّل الإيراني وجوهاً متباينة في المنطقة، لن تُمحى بمجرّد قرار سياسي أو رغبة، وأن دول مجلس التعاون لن ترغب بالتأكيد في خوض حرب مع جمهورية المرشد علي خامنئي، كما لا تتمنى رؤية عواصم أخرى عربية تسقط في قبضة حلفاء طهران. إيران بلا نفوذ نووي لعشر سنين، ستعني تعزيز احتمالات مزيد من التصعيد والمواجهة في المنطقة، لأن طهران لن تتخلى عن نفوذها الإقليمي، فيما تدخُل قفص فِرَق التفتيش التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرّية. وبعيداً من المبالغة في استحضار أزمات تلك الفِرَق مع نظام صدام حسين، واضح أن طهران ما زالت بعد اتفاق فيينا تستضعف العرب جميعاً، وهم يتلقّون ضربات من بعض أدواتها، ومن «داعش». والسؤال، بعد فيينا، إن كانت خريطة التحالفات في المنطقة تتبدّل فيما تسقط خرائط دول عربية مثل سورية والعراق، طموح إسرائيل إلى إحياء التعاون الأمني والاستخباراتي مع تركيا، هل يتحوّل حاجة متبادلة، بعد خروج إيران من قفص الحظر الدولي؟ والأهم، هل يكفي تعزيز القدرات العسكرية لدول مجلس التعاون الخليجي، ليردع فصولاً أخرى أكثر دموية إذا قررت إيران، القوية مالياً واقتصادياً، حسم صراعات إقليمية بالقوة، ثم انتزاع «شرعية» لأنظمة بديلة على الخريطة العربية؟ لا يعني العرب مَنْ حقّق مكاسب أكثر في ماراتون المفاوضات النووية الإيرانية، وقد ينجح كيري في الدوحة في عرض ما كسبته مجموعة الدول الست. ما يعنيهم أولاً وقف التلاعب الإيراني بمصير المنطقة، تحت شعارات الدفاع عن «الشعوب المظلومة»، والتصدي لـ «داعش» وتكفيرييه… والأكيد بعد فيينا، كما وعد المرشد خامنئي الجميع، أن لا تبديل في الخطاب العدائي الإيراني للجوار، وأما «الغطرسة الأميركية» فشأن آخر. وبتعزيز الدعم لـ «محور المقاومة»، ماذا ينتظر السوريين واللبنانيين والعراقيين واليمنيين؟