يوسف بزي/إنهم يسرقون البحر والسماء أيضاً

233

إنهم يسرقون البحر .. والسماء أيضاً
يوسف بزي/المستقبل/14 حزيران/15

هناك مستثمرون عقاريون، شركات بناء، أصحاب مشاريع هندسية، رجال أعمال.. يشكلون اليوم أسوأ مظاهر الطمع المتوحش، أشبه بالغيلان النهمة، رموز الجشع الوقح والعديم الأخلاق. هؤلاء هم أسوأ مظاهر التربح والنهب المنظم.

بكل بساطة، إنهم يسرقون البحر وشواطئه، ويحولونه إلى ملكية خاصة. يستولون على الفضاء المفتوح، على وجه المدينة ورأسها ورئتها. ولا شيء يردعهم، لا القوانين ولا شروط البيئة ولا حقوق السكان ولا حتى اعتبارات العمران. رأسمال غبي وبلا تهذيب واستفزازي.

هو الفجور الفادح الذي يحول الشواطئ إلى منتجعات مسوّرة ومخصوصة للأثرياء، ويعزل المدينة عن البحر عزلاً خانقاً وكئيباً، بما يفاقم بشاعة العيش وبشاعة الاكتظاظ الإسمنتي، في قضم لا يتوقف لكل فسحة بحرية، لكل منفذ على شاطئ، لكل صخرة على موج، لكل منبسط رملي على المياه. قضم يحيل بيروت إلى مدينة محرومة من بحرها ومن هوائها وأفقها. يكفي أن نبدأ من الشمال الغربي، حيث المرفأ، ثم يليه «البيال» الذي احتل واجهة الوسط التاريخي، وبعده المشروع «الغامض» لسوليدير عند الواجهة البحرية للزيتونة، يليه «الزيتونة باي» الفاحش ومرفأ «المارينا» لليخوت، ليلاصقه مسبح السان جورج، الذي تليه مسابح خاصة تقفل المشهد البحري وصولاً إلى عين المريسة وسلسلة المطاعم والمقاصف التي بدورها احتلت الشاطئ، فسحة قليلة إلى المسبح الخاص بالجامعة الأميركية، ومن بعده الشاطئ الذي استحوذ عليه فندق الريفييرا، ويجاوره مرفأ للصيادين، وصولاً إلى أرض وشاطئ المنارة الجديدة، التي تحول محيطها كله إلى مقاه ومقاصف خاصة، ومن هناك تمدد «المسبح العسكري» حتى مدينة الملاهي، وكل الشاطئ خلفها هو منتجعات خاصة. ومن هناك صعوداً إلى الروشة حيث الجرف الشاهق مغلق. ومن مبتدأ الروشة إلى وسطها، تحتل سلسلة مطاعم ومقاهٍ كل المطل البحري، لتبقى الفسحة الصغيرة التي تظهر قبالتها صخرة الروشة، وفوراً من هناك، حيث أرض ميناء الدالية يصير الشاطئ مجدداً أرضاً محظورة وملكية خاصة، يجاورها على نحو متصل منتجع «الموفنبيك»، وبعده أيضاً قامت سلسلة من العقارات (مقاهٍ ومطاعم) استحوذت على كل المنافذ إلى الشاطئ، وصولاً إلى الرملة البيضاء.. آخر شاطئ عمومي مفتوح. وها هو اليوم مهدد جدياً، على ما يبدو، بأن يسقط تحت احتلال شركات الاستثمار التواقة لـ»سرقة» آخر ما تبقى لسكان بيروت من متنفس. وإذا انتبهنا أن ما بعد الرملة البيضاء، يأتي موقع «الإيدن روك» والشاطئ الذي يليه (السمرلاند والكورال بيتش)، وكل هذه المساحة هي أيضاً ملكية خاصة ومنتجعات بحرية خاصة، فلا يكون قد بقي من بحر حر ومفتوح حقاً سوى الرملة البيضاء. فإن تم سيناريو الاستيلاء والاستملاك ومن ثم البناء، عند شاطئ الرملة البيضاء، فهذا يعني فعلاً مصادرة بحر بيروت كله. وإذا كان من المعروف أن استملاك الشواطئ، ووضع اليد عليها، وفرض أمر واقع يتمثل بعشرات المنتجعات السياحية والفنادق، على طول الساحل اللبناني، قد تم في سنوات الحرب والفوضى، فإن استمرار القضم والاستملاك على هذا النحو، طوال السنوات القليلة الماضية، يشير بوضوح إلى عمق الشراكة بين نخبة المال ونخبة السياسة، كجسم واحد، لا يتورع عن النهب العلني وعن إشهار فساده من دون خجل. ويكفي أن نعرف أن كل محاولات فرض ضرائب أو غرامات أو إعادة النظر في أوضاع الأملاك البحرية أو تحصيل تعويضات مالية لمصلحة الدولة أو البلديات، تفشل، ما يدل على تلك الشراكة المافياوية بين من هم في السلطة ومن هم أصحاب «المشاريع الاستثمارية».

أي مواطن من بيروت يود الذهاب إلى البحر كي يتنعم بالسباحة والاسترخاء لساعات صيفية قليلة، عليه أن يدفع قرابة الـ30 دولاراً أميركياً، فقط كي يتاح له الوصول إلى شاطئ نظيف. أي أن هناك من يؤجر البحر بالساعات لسكان بيروت. هذه تجارة فريدة من نوعها في العالم، طالما أن لا بحر مجانياً لا في حدود بيروت ولا خارجها تقريباً. الجشع العقاري الذي يستحوذ على سماء بيروت بالأبراج المتطاولة، والمتكاثرة كالفطر حتى في أضيق الزواريب، والتي تحجب النظر إلى حد شعور الواحد منا أنه يعيش في صندوق هائل، وحيث يعيش سكان تلك الأبراج في عزلاتهم «الفخمة»، كغيتوات معلقة في الهواء، لا يخرجون منها إلا نحو «مولاتهم» و»مقاصفهم» و»منتجعاتهم».. هو نفسه الجشع، المجبول باحتقار «عمومية» المدينة وازدراء الاختلاط والتواصل، الذي «يسرق» البحر والكورنيش، كما يحاول أيضاً الاستيلاء على الحدائق والمساحات الخضر. هؤلاء الذين يتنعمون بالسماء وبالبحر من دون سائر السكان، هم للمفارقة يمضغون يومياً ضجرهم الوجودي، سقم تسلياتهم، ملل رفاهيتم، تفاهة استهلاكيتهم.. لفرط غربتهم عن نبض الحياة المدينية وصخبها ومغامراتها، ولفرط ابتعادهم عن طاقة الشوارع وأرصفتها الباذخة بتجاربها الإنسانية، المفعمة بالمفارقات وبمتع التعارف. وربما لهذا السبب يكنون هذه الضغينة للمساحات المفتوحة، لروح المدينة، للرحابة. إنهم يريدون الاستيلاء عليها وقتلها.