شارل الياس شرتوني/التدمير الإرادي ليس صدفة

38

التدمير الإرادي ليس صدفة
شارل الياس شرتوني/27 أيلول/2023

إن مجرد معاينة الواقع اللبناني بكل مندرجاته كفيل بالانباء عن سياسة تدمير منهجية تلتئم حول تقويض كيانه الوطني والدولتي من خلال تشريع حدوده للنزوح السوري، والجريمة المنظمة بكافة أشكالها، وتفعيل السياسات الانقلابية في كل الاتجاهات. أما الحراك السياسي فلا يعدو كونه تمويها ومسرح ظلال للديناميكيات السياسية الحقيقية التي تعمل على تفكيك البلاد، وتغيير النسيج الديموغرافي والاجتماعي والثقافي وقواعد الاجتماع السياسي، في بلد لم يعد يمتلك الحد الأدنى من التماسك الوطني والدولتي. الوجه الآخر لهذه الصورة هو بداية المرحلة الجديدة لانهيار ما تبقى من النظام الاقليمي وتداعياته الاستراتيجية والأمنية، في وقت تتركز فيه قواعد الحرب الباردة الجديدة.

نحن أمام مشهد جديد من الانهيارات المتلاحقة، والنزاعات المجمدة، وعمل دؤوب تقوده الصين من أجل إيجاد نطاقات إستراتيجية مضادة قائمة على تجميع الدول المارقة، ومنازلة النظام الدولي الليبرالي الذي أرسي غداة الحرب العالمية الثانية.يقابل هذا المشهد حركة أميركية وأطلسية بإتجاه حلف إستراتيجي جديد يتحرك على خط طرق التوابل الموازي لطرق الحرير، واستكمال الديناميكية الابراهيمية، وقطع الطريق على استنهاض السياسات الانقلابية وديناميكيات الفوضى المتأهبة. لقد أدت السياسة الانقلابية الشيعية إلى تدمير النسيج الدولتي في المنطقة، وإلى تزخيم الحركات الارهابية في الأوساط السنية، والدفع قدما بإتجاه إستحداث مناطق نفوذ تتوزع بين السياسات الامپريالية الإسلامية (إيران، تركيا، السعودية) كبديل وظيفي عن كيانات دولتية متداعية، وتفعيل الهجرات بإتجاه الديموقراطيات الغربية. أمام هذه المشهد المعقد، لا بد من تلمس سبل احتواء مفاعيل هذه الديناميكية التدميرية في بلادنا، وإعادة بناء السياق الدولتي من خلال البت في الملفات التالية:

-إعادة تكوين السلطة انطلاقًا من معادلات ميثاقية ودستورية تعزز منطق دولة القانون على حساب سياسات النفوذ الهمجية التي تسعى الى تثبيت أحوال الفراغ المؤسسي في البلاد، من أجل إحداث تبدلات استراتيجية تنهي الرواية التاريخية المؤسسة، وما نشأ عنها من خيارات ليبرالية وديموقراطية تعرضت لعمليات قضم مديدة خلال المئوية التي انقضت على إنشاء الكيان الوطني اللبناني. إن إجراء الانتخابات الرئاسية وتشكيل حكومة ائتلافية تتولى مهمة إخراج البلاد من الأزمات المؤسسية والمالية وتداعياتها المدمرة، هو المدخل الأساس من أجل وضع حد لسياسات التسيب الارادي التي اعتمدت منذ أربع سنوات إمعانا في تدمير البلاد على كل المستويات. إن ربط التطبيع السياسي في البلاد بسياسات النفوذ الإيرانية المتحركة هو متابعة للنهج الانقلابي في كل مندرجاته، واستنهاض لكل السياسات الانقلابية المتوازية على تنوع محاورها. هذا يعني بالتالي، مواجهة سياسة الموت الانسيابي البطيء أصبحت واجبة على قاعدة سياسة الانقلاب تستدعي سياسة انقلاب مضادة.

-لقد انقضت أربع سنوات ناجزة على سياسة الانهيار المالي الإرادي دون أن تبادر الاوليغارشيات الحاكمة من خلال الحكومات الثلاث المتعاقبة الى وضع إطار ثابت لمعالجة الأزمات المالية المتراكمة: لا مفاوضات جدية مع صندوق النقد الدولي والدول المانحة على قاعدة السياسات الشرطية والإصلاحات الهيكلية؛ لا تحقيقات جنائية مالية وأعمال مقاضاة تطال كل المواقع الحكومية والادارية والمصرفية والنيابية التي شرعت وغطت ونفذت سياسة الديون البغيضة خارجًا عن كل الاعتبارات التشريعية والقانونية والمالية الناظمة؛ متابعة سياسة شفط أموال المودعين من خلال لعبة أسعار الصرف المتقلبة التي تحكمها مافيات الصرافة الشيعية وأقرانها، وقرارات المصرف المركزي، وسياسات جمعية المصارف؛ التمنع الإرادي عن وضع خطة إصلاحية مبنية على التقاطع بين الإصلاحات المالية الهيكلية وتحفيز الاستثمارت في كل القطاعات الانتاجية، والتعليمية والتكنولوجية والاستشفائية والبنيات التجهيزية وتطوير بنية سوق العمل؛ تدمير العمل الاقتصادي المشروع لحساب الاقتصاد الريعي وتشعيب الحيازات والمحاصصات (البترول والغاز، كمصدر احتمالي للنهب تديره المافيات الشيعية وشركاها)، نشاطات الجريمة المنظمة، لجهة التهريب على مستوى المعابر البرية والجوية والبحرية، وتبييض ألاموال، مدغمًة بفتاوى الفقه الجعفري؛ متابعة نهب موارد وأملاك الدولة من خلال السيطرة على المشاعات العامة، التي تمهد لمشاريع بيع ما تبقى من أصول الدولة وإحتياط الذهب؛ التمنع عن أي إصلاح إداري يضع حدا للتضخم السرطاني الذي يعانيه القطاع العام نتيجة للسياسات الزبائنية التي تحكم مفاصلها سياسة النفوذ الشيعية، وتردداتها الكارثية على سبل إستقامة المالية العامة؛ إستخدام القضاء مدخلًا لتشريع عمليات النهب المنهجي …،.

يقع التعاطي الهزلي مع مسألة النازحين السوريين على تقاطع سياسات إنقلابية متنوعة المصادر تستثمر في عملية تسييب الحدود اللبنانية-السورية التي تأسست مع الاستوائية الإستراتيجية الممتدة بين جبل عامل والنطاقات العلوية في شمالي سوريا، ومن خلال سياسة التنظيف الاتني التي نفذها التحالف العلوي- الشيعي خلال الحرب السورية، وعبر الحدود المستباحة على التخوم البقاعية والعكارية التي استخدمها المهربون وإرهابيو داعش على حد سواء، بالتنسيق مع حزب الله مواربة أو مباشرة، الأمر الذي أسقط بشكل تدرجي الحصانات السيادية وجعل من عملية العبور شأنًا مطبعا، أضيفت إليه عودة بشار الأسد من خلال سياسة مزدوجة: متابعة سياسة التنظيف الاتني في الدواخل السورية، والسعي الحثيث لضرب الاستقرار في لبنان، وتبلد النازحين السوريين الذين انتقلوا من واقع التهجير والعمل الموسمي الى التسييس ومنازعة شرعية لبنان الكيانية، والتسلح، والنشاط التجاري غير المشروع، والإعلان عن مشاريع انقلابية يعبر عنها ببذاءته المعهودة كمال اللبواني، أحد المعارضين السوريين، وتفجر العقد التي تحكم السلوك السوري تجاه كل ما هو لبناني.

لن تستقيم الأمور في هذا الشأن ما لم تستعد الدولة اللبنانية سيادتها، وتبادر الى الخوض في عمل امني، وسياسي، ودپلوماسي يضع حدًا لهذا التسيب الإرادي. على لبنان إطلاق حركة دپلوماسية باتجاه خطة عودة جماعية الى الدواخل السورية باشراف الأمم المتحدة وانهاء سياسة التعاطي مع هذه المسألة كقضية إنسانية وإجتماعية ليس إلا، وإلا كل عمل إنقلابي يستدعي عملًا انقلابيا مضادًا. هذه الاعتبارات تنطبق على واقع الاستثناءات السيادية في المخيمات الفلسطينية كمفاعلات لسياسة إنقلابية إقليمية تستخدم الأراضي اللبنانية منطلقًا لها.

إن تفاهة العمل السياسي القائم من خلال مجلس نيابي صوري، وحكومات قاصرة لا قدر لها، ورئاسة مترهلة وتابعة، هي الصورة المعكوسة لإستراتيجيات إنقلابية تعمل على وقع سياسة قضم تدرجية تعمل على تكسير الكيان الوطني والدولتي والمعنوي على حد سواء. إن البقاء داخل هذه الدائرة المقفلة سوف يسمرنا داخل ديناميكيات اهتراء مديدة، وبمواجهة إشكاليات وأولويات خاطئة، في وقت تعمل فيه السياسات الانقلابية على تثبيت مكتسباتها وتوسيع مسارات القضم والتدمير المنهجي.