رزمة من المقالات تتناول جريمة تفجير مرفأ بيروت لكل من طوني بولس، وسوسن مهنا، ومحمد أبي سمرا، وزيزي اسطفان، وسام أبوحرفوش وليندا عازار، ويوسف دياب، وطوني كرم، وبولا أسطيح

113

رزمة من المقالات تتناول جريمة تفجير مرفأ بيروت لكل من طوني بولس، وسوسن مهنا، ومحمد أبي سمرا، وزيزي اسطفان، وسام أبوحرفوش وليندا عازار، ويوسف دياب، وطوني كرم، وبولا أسطيح

من يخفي جريمة تفجير مرفأ بيروت؟
طوني بولس/انديبندت عربية/04 آب/2023

تاريخ مرفأ بيروت منذ الفينيقيين حتى الانفجار
سوسن مهنا/انديبندت عربية/04 آب/2023

انفجار مرفأ بيروت… كيف يحمي اللبنانيون أنفسهم من النسيان؟ … رمت الكارثة أطنانا من اليأس والقنوط والخوف على معظم اللبنانيين
محمد أبي سمرا/المجلة/04 آب/2023

مصابون… يعيشون الرابع من آب كل لحظة
زيزي إسطفان/نداء الوطن/04 آب/2023

دم المرفأ يطارد السلطات اللبنانية
وسام أبوحرفوش وليندا عازار/الراي الكويتية/04 آب/2023

ألغام سياسية تحاصر المحقق في تفجير المرفأ
يوسف دياب/الشرق الأوسط/04 آب/2023

العدالة مطلبٌ ضائعٌ… ومصير التحقيق في عهدة القاضي رزق الله
طوني كرم/نداء الوطن/04 آب/2023

للقاء أحبائهم… أهالي ضحايا المرفأ “يطلبون الموت”
بولا اسطيح/الشرق الأوسط/04 آب/2023

********
من يخفي جريمة تفجير مرفأ بيروت؟
طوني بولس/انديبندت عربية/04 آب/2023
أبلغ رئيس الحكومة آنذاك حسان دياب بمعلومات عن حراك أمني “مريب” في مرفأ بيروت لكنه تلقى اتصالاً من مسؤول أمني لثنيه عن زيارة المرفأ
في الذكرى الثالثة لتفجير مرفأ بيروت، غابت العدالة في ظل استمرار عرقلة مسار التحقيقات. واكتفت الحكومة اللبنانية بإعلان الرابع من أغسطس (آب) يوم عطلة رسمية، وإصدار طابع بريد تذكاري. من جهة أخرى سجل خرق إيجابي تمثل بتسلم لبنان رسالة من 15 سفيراً وقائماً بالأعمال من الدول الموقعة على البيان المشترك الخاص بانفجار مرفأ بيروت في مجلس حقوق الإنسان، يحثون فيها الجهات اللبنانية المختصة على الإسراع في التحقيقات القضائية، بخلاف المنحى البطيء الذي سلكته حتى تاريخه، معربين عن قلقهم من الاستمرار في إعاقتها.
وفي هذا السياق تكشف مصادر مقربة من المحقق العدلي طارق البيطار عن أن هناك “قراراً أمنياً وسياسياً وقضائياً حاسماً لمنع تحقيق العدالة واستكمال التحقيقات”، مؤكدة أن البيطار بات على قناعة تامة بهذا المنحى، متأسفاً على انخراط “قضاة كبار” بمؤامرة نسف التحقيقات. وتؤكد هذه المصادر أن التحقيق شبه منجز لدى البيطار لكن التعقيدات المستمرة منذ عامين وعدم استجابة النيابة العامة لقراراته تقف حاجزاً بوجهه، كاشفة عن أن بيطار يمتلك أدلة وقرائن حاسمة على كل الأمنيين والسياسيين الذين أصدر مذكرات توقيف في حقهم، وأنه كان يحتاج إلى التحقيق معهم ومواجهتهم بالأدلة والبراهين، متأسفاً لوجود قضاء وأمن يمنع تحقيق العدالة ويقف إلى جانب المرتكبين بوجه الضحايا.
تهديد القضاء والجيش
سياسياً يعارض الثنائي الشيعي “حزب الله” وحركة “أمل” بشكل واضح مسار المحقق بيطار، وفي أكثر من إطلالة وجه أمين عام “حزب الله” حسن نصر الله انتقادات لاذعة له واتهمه بأنه “منحاز ومسيس”، وطالبه بالتنحي عن الملف.
وكذلك أعلن نصر الله في بداية أغسطس (آب)2021 أن التحقيق الرسمي في ملف تفجير المرفأ انتهى، مطالباً قيادة الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي أن تقوم بمسؤوليتها وتصارح الشعب اللبناني بنتيجة هذا التحقيق.
الأمر الذي اعتبرته مصادر القاضي طارق البيطار محاولة تدخل في التحقيقات ورسالة تهديد وضغط على الجيش اللبناني بإصدار تقرير تقني أجرته مديرية الاستخبارات عقب الانفجار، مشيرة إلى أن “هذا التهديد استكمل بتهديد آخر عبر مسؤول وحدة التنسيق والارتباط في “حزب الله” وفيق صفا، الذي وجه تهديداً مباشراً وعبر الإعلام للقضاء وللبيطار”.
عرقلة عبر القانون
في المقابل يشير أحد قضاة النيابة العامة التمييزية إلى أن التحقيق متوقف عند مرحلة البت بالنزاع بين البيطار والمدعي العام التمييزي غسان عويدات، معتبراً أن تصرفات البيطار المخالفة للأصول القانونية أدت إلى ضياع التحقيقات، وبرأيه لو سلك المسار القانوني لما وصلت الأمور إلى هذه التعقيدات.
ولم ينف وجود ضغوط سياسية بوجه البيطار والتحقيقات، إلا أنه اعتبر أن “المعرقلين” يستخدمون القوانين لحماية أنفسهم عبر دعاوى الرد ومخاصمة الدولة، مضيفاً “ليس القضاء من يرضخ للضغوطات، إنما بعض النصوص القانونية تتيح هذا المسار، وكان بإمكان القوى السياسية تجاوز كل تلك المراحل لو قامت بتشريع قوانين خاصة بقضية المرفأ”.
ويؤكد مصدر أمني عمل سابقاً في وزارة الداخلية أنه تلقى اتصالاً من وزير الداخلية السابق محمد فهمي لتشكيل لجنة من أمنيين وإداريين والاستعانة بخبراء متفجرات، لإنجاز تحقيق ميداني خلال خمسة أيام في أبعد تقدير، إلا أنه بعد ساعات عاد وطلب حصر اللجنة بقوى الأمن الداخلي، وقال “فهمت أن هناك ضغوطاً تمنع الوزير من التوسع في التقرير أبعد من حدود توصيف ما جرى”.
وكشف عن أنه في الأيام الأخيرة التي سبقت التفجير كان هناك حراك وتقاطع معلومات “مريب”، وضع رئيس الحكومة حسان دياب في جوها، الأمر الذي دفعه إلى اتخاذ قرار بزيارة المرفأ والاطلاع عن كثب عما يوجد، “قبل أن يتلقى اتصالاً من مسؤول أمني كبير يطلب منه إرجاء الزيارة”، وبرأيه “المسؤول الأمني الذي منع زيارة حسان دياب للمرفأ هو نفسه من منع الوزير فهمي من إنجاز التقرير الميداني”.
من ناحيته يوضح وزير الداخلية السابق محمد فهمي أن ما قصده بمهلة الأيام الخمسة هو التحقيق التقني والإداري الذي يوضح للرأي العام حقيقة ما حصل، ويرسم المعالم الأولية للتحقيق الجنائي الذي يجريه القضاء بهدف تحديد المسؤوليات وملاحقة المتورطين ومحاكمتهم.
ويؤكد أنه كان مصمماً حينها على إصدار تقرير رسمي بالقضية إلا أن استقالة رئيس الحكومة حسان دياب ورفضه أن تتحمل حكومته مسؤولياتها حال دون إنجاز التقرير، معتبراً أن الانفجار هو نتيجة فساد وإهمال الدولة، مستبعداً تورط أياد إرهابية، وأن الحكومة بدلاً من الاستقالة كان عليها تحمل مسؤولياتها والتضامن ووضع كل إمكاناتها في إجراء تحقيق شفاف.
وعن سبب إعلانه الموافقة على طلب القاضي طارق البيطار بملاحقة مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم ومن ثم تراجعه، يلفت إلى أنه بداية الأمر وافق على الاستماع إلى إفادته، ولكن عندما تبين أن هناك ادعاء في حقه تراجع عن ذلك، لاسيما أنه كان واضحاً أن البيطار كان سيقوم بتوقيفه.
زيارة ماكرون
وبعد يومين على الانفجار وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان، إذ استقبل بحفاوة من المواطنين الذين احتشدوا بأعداد كبيرة أثناء تفقده الأضرار الهائلة التي خلفها تفجير مرفأ بيروت، بالتوازي كانت الاستخبارات الفرنسية تعد تقريراً ميدانياً مفصلاً حول كل ما حصل.
وبرأي أوساط سياسية لبنانية فإن الرئيس الفرنسي كان صادقاً عندما أكد للبنانيين أنه سيعمل على دعم تحقيق شفاف للكشف عن المتورطين، إضافة إلى إعلانه أنه سيضع كل الإمكانات والمعلومات المتوفرة لدى الجهات الأمنية الفرنسية بتصرف القضاء اللبناني.
إلا أن تلك الوعود تبددت وتحولت إلى عملية احتواء للنقمة الشعبية التي كانت سائدة حينها ضد السلطة في البلاد، قبل أن تصبح صفقة سياسية بعد زيارته الثانية إلى بيروت في الأول من سبتمبر (أيلول) 2020، إذ اجتمع بالكتل السياسية واتفق معها على ما سمي حينها خريطة طريق، في حين أسقط أبرز مطلبين للانتفاضة الشعبية وهي الانتخابات النيابية المبكرة وتشكيل حكومة تكنوقراط مع صلاحيات تشريعية استثنائية.
تقويض التحقيق
وفي الذكرى السنوية الثالثة للانفجار قالت نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية آية مجذوب، إنه “أتيحت للسلطات اللبنانية ثلاث سنوات للتحقيق في أسباب الانفجار المدمر الذي وقع في مرفأ بيروت ولإخضاع المشتبه في مسؤوليتهم الجنائية للمحاسبة، ومع ذلك فإنه لغاية اليوم لم يحمل أحد بتاتاً المسؤولية عن المأساة”، مشيرة إلى أن السلطات استخدمت كل السبل التي في متناولها لتقويض التحقيق المحلي وعرقلته بوقاحة لحماية نفسها من المسؤولية وترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب في البلاد.
وأضافت “تناشد أكثر من 300 من منظمات المجتمع المدني اللبنانية والدولية والأفراد والناجين وأسر الضحايا مجلس حقوق الإنسان مجدداً بالمبادرة على وجه سرعة إلى إنشاء بعثة دولية لتقصي الحقائق للتحقيق في أسباب انفجار مرفأ بيروت، وتحديد هوية المسؤولين عن وقوع هذه الكارثة”.

تاريخ مرفأ بيروت منذ الفينيقيين حتى الانفجار
سوسن مهنا/انديبندت عربية/04 آب/2023
كان مركزاً للأسطول العربي الأول وجسر عبور بين الشرق والغرب وتميز بكونه من أصلح الموانئ
على مر العصور نال مرفأ العاصمة اللبنانية بيروت أهمية كبيرة، وفقاً لما جاء في عديد من التقارير القنصلية والدراسات التاريخية، وورد اسم المرفأ منذ القرن الـ15 قبل الميلاد في الرسائل المتبادلة بين الفراعنة والفينيقيين، وخلال العصر الروماني تطور إلى مركز تجاري واقتصادي.
ويعد مرفأ بيروت أحد المعالم التاريخية البارزة في لبنان، ويعود تاريخه إلى آلاف السنين، وطور على يد الحضارات التي نشأت في المنطقة، والدول التي حكمت لبنان لاحقاً، وذلك لأهداف تجارية وعسكرية، إذ اعتبر محطة مهمة لسلاسل الإمداد العالمية، نظراً إلى موقعه الجغرافي الاستراتيجي على ضفاف البحر المتوسط، مركز التقاء القارات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقيا، مما جعل من المرفأ ممراً حيوياً لعبور أساطيل السفن التجارية بين الشرق والغرب.
وتميز مرفأ بيروت منذ القدم بأنه من أصلح الموانئ لرسو السفن، وهو الميناء الذي تجد فيه المراكب الأمان في جميع الفصول. وكانت السفن ترسو قديماً داخله، فيضع أهل بيروت العاملون في المرفأ (الصقالات) وهي ألواح عريضة من الخشب، ليستعملها المسافرون جسراً للنزول إلى البر، وإنزال البضائع على الرصيف. أما السفن الكبيرة فكانت تقف في الصيف تجاه بيروت، في حين تضطر شتاء للالتجاء إلى “خليج الخضر” قرب الكرنتينا، أو عند مصب نهر بيروت.
موقعه ومساحته
يقع الميناء في الجزء الشرقي من خليج سان جورج على ساحل بيروت، شمال البحر الأبيض المتوسط وغرب نهر بيروت، على مساحة إجمالية تبلغ 1.2 كيلو متر مربع، نصفها منطقة حرة، وذلك ضمن خط طول 35 و57 درجة شرقاً، وخط عرض 35 و15 درجة شمالاً، مما يشكل نقطة الوسط بين ثلاث قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا. ويتكون من أربعة أحواض مقسمة إلى 16 رصيفاً مع أرصفة جديدة لحاويات المياه العميقة، يتراوح عمقها بين 20 و24 متراً و16 رصيفاً وأربعة مستودعات للبضائع العامة وثلاثة مستودعات لعمليات التجميع وثلاثة مستودعات للسيارات ومستودع واحد للبضائع الحرة، إضافة إلى عدد من صوامع تخزين القمح، ويعمل فيه 639 موظفاً.
يعتبر مرفأ بيروت من أكبر الموانئ البحرية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، إذ يستوعب أكبر السفن الحديثة، ويضم عديداً من الشركات والبنوك، وتعد مراسي الميناء من مناطق الجذب السياحي، إذ أدرجت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية المرفأ كأفضل مكان للزيارة عام 2009.
تاريخه
أصبح مرفأ بيروت مركزاً للأسطول العربي الأول ولصناعة السفن الإسلامية، وذلك خلال العصر الأموي، لا سيما في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان. أما في حقبة الصليبيين فكان له دور مهم في التجارة البحرية بين الشرق والغرب، بخاصة بين بيروت والمدن الإيطالية. تعزز هذا الدور خلال العصر المملوكي عندما تحول الميناء إلى مركز تجاري يزوره حجاج الأراضي المقدسة، وأصبح مركزاً رئيساً لتجار التوابل.
في القرن الـ18 بدأت بيروت تحتل مكانة اقتصادية بارزة، وأصبحت أكثر مدن الساحل الشامي تجارة وسكاناً، بفضل مينائها وعوامل اقتصادية أخرى، وهذا ما دفع التجار الأجانب، لا سيما الفرنسيين المقيمين في صيدا، إلى مراسلة حكومتهم عام 1753 مطالبين بإرسال بعض التجار والصناعيين إلى بيروت وجوارها من بين الذين يفهمون في غزل القطن لتوجيه الصناعة والتجارة بأسلوب مناسب.
وبحلول نهاية القرن الـ19، أعيد بناؤه على يد العثمانيين. في الـ19 من يونيو (حزيران) 1887، منحت السلطة العثمانية امتياز الميناء لشركة “مرفأ وأرصفة ومخازن بيروت” (Compagnie du Port، des Quais et des Entrepots de Beyrouth)، وذلك لمدة 60 عاماً، انتهت عام 1947. وعزز الامتياز في ما بعد عندما حصلت الشركة على الحقوق لتخزين وحمل جميع البضائع العابرة، التي تمر عبر الجمارك.
وبحلول نهاية عام 1894 احتُفل بانتهاء الأعمال الإنشائية لتوسيع وتطوير الميناء، إثر تطوير الأحواض في المرفأ وانتشارها بين منطقتي رأس الشامية ورأس المدور (مناطق بالقرب من المرفأ). وافتتح المرفأ لاستيراد المواد الأساسية من دول العالم، وتصديرها عبر الداخل اللبناني إلى دول الشرق الأوسط. وبحلول عام 1900 أحضرت المطابع إلى المرفأ لتحفيز صناعة النشر، إذ أصبحت بيروت مركزاً للصحافة العربية، وملجأ للمثقفين الذين يرغبون في إحياء الثقافة والقومية العربية الحديثة، وبذلك تضاعفت أهمية هذا الميناء البحري.
يقول رئيس جمعية “تراثنا بيروت” سهيل منيمنة، الذي يعد من أبرز الشخصيات التي تجري أبحاثاً تاريخية حول المعالم العثمانية المهمة في لبنان في حوار صحافي، إن تاريخ مرفأ بيروت “يمتد لآلاف السنوات، إلا أن أبرز أعمال التعديل والتطوير التي شهدها، بالتالي دخوله مسار الخطوط التجارية العالمية جرت في عهود السلاطين العثمانيين”، مضيفاً أن “الدولة العثمانية قررت اعتباراً من عام 1880 إعادة تشييد وتأهيل مرفأ بيروت، وكان الهدف من ذلك تعزيز الصلات التجارية بين بيروت وإسطنبول، إلى جانب اعتبار بيروت مرفأ نموذجياً”.
بعد نحو خمس سنوات من وقوع لبنان تحت الاستعمار الفرنسي (1920-1943)، وتحديداً في الـ20 من مايو (أيار) 1925، أصبحت “شركة مرفأ وأرصفة ومخازن بيروت” تعمل تحت إدارة فرنسية. وفي الـ13 من أبريل (نيسان) 1960 غير اسم الشركة ومنح امتياز لمدة 30 عاماً لشركة لبنانية تسمى “شركة إدارة وتشغيل مرفأ بيروت”، التي عملت على توسيع الميناء. وخلال عام 1976 توقفت جميع عمليات الشحن في الميناء لمدة تسعة أشهر خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، وتضرر جزء كبير من الميناء إثر وقوع أجزاء منه تحت سيطرة مختلف الميليشيات المسلحة. وأعيد بناء الميناء البحري والمنطقة المحيطة به بعد الحرب، وفي الـ31 من ديسمبر (كانون الأول) 1990 انتهى الامتياز الخاص بشركة “إدارة وتشغيل مرفأ بيروت”، وأصبح المرفأ تحت الملكية المباشرة للحكومة اللبنانية، وأسند تشغيله لشركة “هيئة ميناء بيروت” (GEPB) التي ما زالت تديره حتى الآن.
أهميته
على رغم وجود أربعة موانئ أخرى في لبنان وهي طرابلس وصور وصيدا وجونية، فإن مرفأ بيروت يعد بوابة رئيسة لدخول لبنان. ويعتبر هذا المرفأ ركيزة أساسية للاقتصاد اللبناني، إذ إنه يلعب دوراً أساسياً في عملية الاستيراد والتصدير، بالتالي تحريك العجلة الاقتصادية. ويتعامل مع 300 مرفأ عالمي، ويقدر عدد السفن التي ترسو فيه بـ3 آلاف و100 سفينة سنوياً، ويستقبل نحو 70 في المئة من حاجات لبنان.
تشمل الصادرات الرئيسة الحبوب والفواكه والخضراوات والصوف والأسمنت والسلع المصنعة الأخرى، فيما تشمل الواردات السلع الصناعية والمصنعة والأخشاب والحديد والمنتجات النفطية. ويعد المرفأ محوراً أساسياً للاستيراد والتصدير لدول أخرى كسوريا والعراق والأردن، كما يعد منفذاً بحرياً أساسياً للدول العربية الآسيوية.
يتعامل المرفأ مع شحنات حاويات كبيرة، إذ نمت حركة المرور فيه من 945 ألفاً و143 حاوية عام 2008 إلى مليون و229 ألفاً و81 حاوية عام 2019، ويعد ممراً رئيساً لكثير من عمليات التجارة الدولية. واحتل لبنان عام 2018 المرتبة الـ38 من أصل 171 دولة برصيد 47.17 نقطة، أما إقليمياً فاحتل المرتبة السادسة، وفقاً لمؤشر “الأونكتاد” (UNCTAD)، لتقييم موصولية خطوط الشحن البحري، وذلك في دليل على أن مرفأ بيروت كان من أفضل الموانئ أداء على مستوى العالم والمنطقة.
وبحسب وزارة الزراعة الأميركية، يستورد نحو 80 في المئة من إمدادات القمح في لبنان من المرفأ. وخلال فترة السنوات الـ13 التي سبقت انفجاره، زادت إيرادات الموانئ من 89 مليون دولار عام 2005 إلى 313 مليون دولار عام 2017 مسجلة زيادة سنوية بنسبة 11.1 في المئة، بينما زادت النفقات التشغيلية من 52 مليون دولار أميركي في 2005 إلى 128 مليون دولار أميركي عام 2017، مسجلة معدل نمو سنوي مركب بنسبة 7.7 في المئة، مما يشير إلى أن نمو الإيرادات يتجاوز النمو في نفقات التشغيل، مما يعني ضمناً ارتفاع الإيرادات.
إلى ذلك فإن المرفأ مزود بأحدث أجهزة التفريغ والتحميل، كما يوفر تسهيلات لمناولة معظم أنواع السفن، بما في ذلك البضائع العامة والحاويات وناقلات البضائع السائبة، ويؤمن أفضل الشروط للتخزين. وكان بدأ العمل بمشروع تأهيل وتوسيع المرفأ وإنشاء الحوض الخامس المخصص لاستقبال المستوعبات، الذي تصل حدوده حتى مصب نهر الكلب.
المنطقة الحرة
تبلغ مساحة المنطقة الحرة في مرفأ بيروت 81 ألف متر مربع، وجرى العمل على توسيعها لتمتد على مساحة 124 ألف متر مربع، بإنشاء مبان جديدة افتتحت في الـ12 من يوليو (تموز) 2007، وتتكون من أربعة مبان حديثة، منها ثلاثة صناعية هي الثانية والخامسة والسادسة، مساحة كل منها 4 آلاف متر مربع، ويحتوي كل من مبنى الخامس والسادس على 52 مستودعاً، فيما يحتوي المبنى الثاني على 38 مستودعاً. تم إنشاء وتصميم هذه المباني الثلاثة وفق أساليب متطورة، مما سهل نقل البضائع إلى المستودعات الصناعية فيها، وجهز كل مبنى بمصعدين لنقل البضائع التي يمكن أن يصل وزن كل منها إلى ثلاثة أطنان، وبطرق داخلية واسعة تسمح بحرية حركة الرافعات الشوكية.
وتحتوي المستودعات على أنظمة إضاءة منفصلة، وينطبق الشيء نفسه على الطرق، إذ جهزت الأخيرة أيضاً بأجهزة الكشف عن الحريق الإلكترونية، ودرجين للطوارئ في كل مبنى. أما المبنى الرابع فهو مبنى السوق الحرة ويحمل الرقم 3، وأنشئ على مساحة 2800 متر، وصمم بحيث يضم محال السوق الحرة.
الأهراءات
بنيت عام 1968 وافتتحت عام 1970 بتمويل من دولة الكويت، وكانت صوامع أهراءات مرفأ بيروت الأكبر في الشرق الأوسط، بحسب غابريال أسيون المهندس المدني الذي كان مديراً تقنياً للورشة خلال إنشاء الأهراءات من مكتب رودولف إلياس وشركة البناء التشيكوسلوفاكية “برومستاف” (Prumstav).
كانت تتألف من برج في الجهة الشمالية الغربية للمرفأ، تتصل به 14 خلية على ثلاثة خطوط بعلو 50 متراً، أضيفت إليها خليتان عامي 1967 و1977 (أي ما مجموعه 48 خلية)، بقي منها حتى اليوم 12 خلية، وقد بناها عمال سوريون ولبنانيون. وكان لها القدرة على تخزين 120 ألف طن من الحبوب، واستطاعت الاحتفاظ بمخزون لبنان الاستراتيجي من القمح. فبين عامي 1964 و1968 كان لبنان يستهلك سنوياً ما يقارب 311 ألف طن من الحبوب وينتج 60 ألف طن، مما أظهر حاجة كبيرة إلى التخزين.
وخلال تفجير المرفأ وعلى رغم تضرر بعض الصوامع، حمت الأهراءات بخلاياها السميكة النصف الغربي لمدينة بيروت، لكن في الـ31 من يوليو (تموز) 2022، بدأ انهيار خلايا الأهراءات، ثم انهارت أجزاء أخرى بشكل متتال، إلى أن سقطت ثماني خلايا في الـ23 من أغسطس (آب) 2022. واليوم هناك 12 خلية صامدة قابلة للتدعيم، وعرضت في نقابة المهندسين آلية لتدعيمها، بحسب آخر التقارير الصحافية.
تفجير المرفأ
نهار الرابع من شهر أغسطس 2020 انفجر في أحد العنابر وتحديداً العنبر رقم 12 ما يقارب 2750 طن من نيترات الأمونيوم، بعد أن كانت مخزنة لمدة ست سنوات بشكل خاطئ وغير آمن في مخزن لا يتمتع بالمواصفات المطلوبة، ويعتبر التفجير الثالث من حيث الكبر بعد تفجيري هيروشيما وناغازاكي، وشعر الناس به في كل أنحاء لبنان وسوريا وفلسطين والأردن وتركيا وقبرص. وسجله المقياس الجيولوجي في الولايات المتحدة كهزة مقدارها 3.3 درجة، ويعتبر أحد أقوى التفجيرات غير الطبيعية وغير النووية في التاريخ، حتى إن خبراء في مجال الأسلحة اعتبروا أن قوة الانفجار تعادل مئات الأطنان من مادة “تي إن تي” شديدة الانفجار مما يجعله يفوق بكثيرة القوة التفجيرية للسلاح الأميركي الفتاك المعروف باسم “أم القنابل”، وذلك وفقاً لموقع “بزنس إنسايدر”.
وقتل الانفجار أكثر من 218 شخصاً، وجرح أكثر من 7 آلاف، وهجر نحو 300 ألف من سكان المدينة. ودمر زجاج مباني وسيارات المنطقة الشرقية من بيروت بالكامل، وكذلك في بعض أحياء بيروت الغربية.
وفي بيان لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” في أغسطس 2021، قالت إن الأدلة تشير إلى تورط مسؤولين لبنانيين كبار في الانفجار. ووفقاً لمديرة قسم الأزمات والنزاعات في المنظمة لما فقيه، “تظهر الأدلة بشكل كاسح أن انفجار أغسطس 2020 في مرفأ بيروت نتج من أفعال كبار المسؤولين اللبنانيين وتقصيرهم، إذ لم يبلغوا بدقة عن المخاطر التي تشكلها نيترات الأمونيوم، وخزنوا المواد عن سابق علم في ظروف غير آمنة، وتقاعسوا عن حماية الناس. وبعد مرور عام (حينها)، ما زالت جراح ذلك اليوم المدمر محفورة في المدينة بينما تنتظر عائلات الضحايا الإجابات”.
دمر الانفجار أجزاء كبيرة من الميناء وبنيته التحتية، بما في ذلك معظم احتياطات الحبوب، ولحقت أضرار بالمدينة قدرت بنحو 15 مليار دولار. وأجبر ميناء بيروت على الإغلاق بسبب الأضرار الواسعة النطاق التي سببتها الانفجارات، مع إعادة توجيه البضائع إلى موانئ أصغر مثل طرابلس وصور. قبل الكارثة ووفقاً لتقديرات “ستاندرد أند بورز” العالمية، كان نحو 60 في المئة من واردات لبنان تأتي عبر الميناء.

انفجار مرفأ بيروت… كيف يحمي اللبنانيون أنفسهم من النسيان؟ … رمت الكارثة أطنانا من اليأس والقنوط والخوف على معظم اللبنانيين
محمد أبي سمرا/المجلة/04 آب/2023
مضت اليوم سنوات ثلاث على انفجار مرفأ بيروت في السادسة من مساء 4 أغسطس/ آب 2020، حينما اهتزت المدينة اهتزازا شبه زلزالي أحدثه اشتعال 2750 طنا من نترات الأمنيوم المخزّنة في عنابر مرفئها منذ سنة 2013. قوة الانفجار المهول وصدمته أدتا إلى تسميته “بيروتشيما” في الإعلام العالمي، تشبيها له بالانفجار النووي في هيروشيما أواخر الحرب العالمية الثانية.
العصف الزلزالي الذي ضرب بيروت دمّر وصدّع الكثير من مباني أحيائها القريبة من المرفأ، وقتل 232 شخصا من سكانها، بينهم مفقودون لم يعثر لهم على أثر، وجرح أكثر من 7 آلاف شخص آخرين في المدينة، كانت مشاهدهم وصورهم مروعة في سيرهم نازفين وشبه مسرنمين وسط الحطام والدخان وحديد السيارات المنقورة والمدمرة، وعلى حقول الزجاج المتناثرة شظاياه في الشوارع، وفي الطرق إلى المستشفيات التي امتلأت بهم وتكدسوا في ردهاتها وعلى أبوابها في بيروت، وصولا إلى صيدا وجبيل على مسافة أكثر من 40 كلم من العاصمة.
تضرّر وتصدّع نتيجة الانفجار نحو 50 ألف وحدة سكنية، وصار 300 ألف شخص بلا مأوى. وقدرت الخسائر المادية بـ10 إلى 15 مليار دولار. ورمت الكارثة أطنانا من اليأس والقنوط والخوف على معظم بلاد اللبنانيين. وهي كانت مخيّمة أصلا على بلادهم منذ شهور، وربما بعض سنين.
وكان شطر كبير منهم يتجرعونها متذمرين من دخولهم المتدرج، اليومي والبطيء، في نفق مظلم. وهؤلاء هبوا فجأة ساخطين غاضبين فيما سمي “ثورة” 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، فتبرّأوا من زعمائهم السياسيين وأسمعوهم أبشع الصفات والشتائم طوال شهور في الشوارع وعلى الملأ العام.
رمت الكارثة أطنانا من اليأس والقنوط والخوف على معظم بلاد اللبنانيين. وهي كانت مخيّمة أصلا على بلادهم منذ شهور، وربما بعض سنين. وكان شطر كبير منهم يتجرعونها متذمرين من دخولهم المتدرج، اليومي والبطيء، في نفق مظلم
لكن تلك “الصحوة” المفاجئة تبددت، وعمل على تبديدها بالعنف اليومي أمير الحرب ورهطه المسلح (“حزب الله” مع حركة “أمل”). لذا أخذ أولئك اللبنانيين الخوفُ مجددا ورماهم في اليأس والقنوط، حتى فاجأهم الانفجار المهول في مدينتهم. وربما كانوا يستبعدون أن يتركهم العالم ينحدرون في هاوية ذاك النفق المظلم. لكنه تركهم، فتكدس شطر كبير من أجيالهم الشابة على أبواب سفارات الدول الغربية، طلبا للهجرة إليها.
ومنذ انفجار مرفأ بيروت وحتى اليوم هاجر عشرات ألوف من تلك الأجيال. وانضم لبنان إلى قائمة بلدان الهجرة السرية أو غير الشرعية في “قوارب الموت” في البحر المتوسط.
انفجاران وهاوية
يؤرخ كثيرون لبداية انحدار لبنان إلى الهاوية بانفجار شبه زلزالي في عاصمته، سبق بـ15 سنة انفجار مرفئها: شاحنة محملة بأكثر من طن من مواد شديدة الانفجار، وكان يقودها فتى “انتحاري” مغرر به. وانفجرت تلك الشاحنة ظهيرة 14 فبراير/شباط 2005 في طرف وسط بيروت، غير بعيد من مرفئها. قتل التفجير رفيق الحريري وعشرات سواه تصادف وجودهم في المكان. وكانت غايته اغتيال الحريري الذي كان رائد خروج لبنان من حروبه الأهلية (1975- 1990).
ولما أخرجت عملية الاغتيال ملايين اللبنانيين إلى الشوارع احتجاجا، وأُنشئت محكمة دولية للكشف عن القتلة ودوافعهم، تواصلت عمليات الاغتيال السياسي، فحصدت أكثر من 15 شخصية سياسية وأمنية لبنانية من معارضي “حزب الله” والنظام السوري الذي أخرج اغتيال الحريري جيشَه وأجهزة استخباراته من الديار اللبنانية، فودّعها أمير الحرب بتظاهرة من محازبيه وجمهوره عنوانها “شكرا سوريا” الأسد.
وبعد أيام على انفجار مرفأ بيروت، أي في 18 أغسطس/آب 2020، كان لبنان يترقب صدور قرار المحكمة الدولية النهائي في اغتيال الحريري، فأقرَّ بأن قائدا عسكريا في “حزب الله” يدعى سليم عياش “تواطأ” وشارك في عملية الاغتيال. وأخرجت المحكمة عددا من قادة الحزب إياه من قائمة “المتواطئين” والمشاركين في العملية، بسبب عدم توافر الأدلة والقرائن على ضلوعهم فيها. وطلبت المحكمة من السلطات اللبنانية تسليم عياش إلى العدالة الدولية. وهذا ما رفضه “حزب الله” واعتبره من سابع المستحيلات، بعدما كان اتهم إسرائيل وأميركا بعملية الاغتيال.
يؤرخ كثيرون لبداية انحدار لبنان إلى الهاوية بانفجار شبه زلزالي في عاصمته، سبق بـ15 سنة انفجار مرفئها: شاحنة محملة بأكثر من طن من مواد شديدة الانفجار، وكان يقودها فتى “انتحاري” مغرر به. وانفجرت تلك الشاحنة ظهيرة 14 فبراير/شباط 2005 في طرف وسط بيروت، غير بعيد من مرفئها. قتل التفجير رفيق الحريري وعشرات سواه تصادف وجودهم في المكان
وقبل نحو شهر من الذكرى السنوية الثالثة لانفجار مرفأ بيروت، قال عضو القيادة السابق في “تيار المستقبل”، والنائب السابق في البرلمان اللبناني، الدكتور الطبيب مصطفى علوش في مقابلة تلفزيونية: الأزمة السياسية والاقتصادية التي عصفت بلبنان منذ “ثورة” 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019- أي إفلاس ماليته العامة وانهياره الاقتصادي، قبل انفجار المرفأ وشغور منصب رئاسة الجمهورية منذ 31 أكتوبر/تشرين الأول 2022، واعتبار الحكومة المستقيلة قانونيا ودستوريا حكومة تصريف أعمال- لا يمكن حلّها “إلا بتسوية مع حزب الله”. قول علوش هذا مصدره عقلانية قانطة ويائسة. وعِماد هذه التسمية تنازل المطالبين اللبنانيين عن مطالبتهم بأي تحقيق محلي أو دولي في جريمة انفجار مرفأ بيروت، وتركها في ذمة التاريخ، شأن جريمة اغتيال الحريري التي كشفتها المحكمة الدولية.
والحق أن مصطفى علوش، بعقلانيته السياسية القانطة واليائسة، يحاول إيجاد سبيل مؤقت لانعتاق لبنان من أزمته الراهنة المستعصية، كي يلتقط أنفاسه ويخرج من أزمته الراهنة المستعصية واختناقه المدمر. وذلك بإضافة الكارثة الراهنة إلى سلسلة الكوارث والاغتيالات السابقة. وهي سلسلة لا أثر لها في صفحات تاريخ لبنان الخالية إلا من أمجاد “حزب الله” التي تعمُّ خيراتها بلاد اللبنانيين، منذ أذاع الحزب إياه بيانه التأسيسي “الخميني” سنة 1985، إلى “أمة المستضعفين في الأرض”.
النسيان.. روح الجماعة وغيابها
قد يكون النسيان من طبيعة حياة البشر ومقدرتهم على استمرارهم العيش في نهر الزمن الذي لا يكف عن الجريان، حسب الروائي ميلان كونديرا الراحل قبل أقل من شهر. فمن دون النسيان تتحول الحياة جحيما أبديا خالدا، وفق الروائي نفسه.
اليوم، ومنذ الحملات الشبابية الكبرى لإزالة الردم والركام بعد يومين أو ثلاثة على انفجار مرفأ بيروت ذهب اللبنانيون إراديا ومرغمين بعيدا في النسيان.
وكانت مشاهد الشبان والفتيات، حاملي الجرافات والمكانس وتدفقهم على شارعي الجميزة ومار مخايل القريبين من المرفأ لإزالة الردم والركام بعد الانفجار، تشبه مشاهد نزهة في الخراب، وطالعة من مناخ أغنية لفيروز والأخوين رحباني، في فرحها المتفائل والبريء.
لكن شابة ناشطة في “ثورة” 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، كان قد أذهلها مشهد أولئك المندفعين الفرِح في حملات إزالة الردم والركام في الأيام التي تلت الانفجار. وهي قالت إن تلك الحملات أرادت محو آثار الجريمة وطيها سريعا. واعتبرت ذلك جريمة أخرى: تبرئة المتسببين في الجريمة الأولى، أي مجرمي السياسة والحرب في لبنان، واقترحت إبقاء بيروت على حالها غارقة في الدم والجثث والردم والركام، حتى جلاء حقيقة الانفجار. ربما لم يكن كلامها سوى “هذيان” يريد توقيف الزمن وتأبيد الكارثة، وهذا يعاكس الطبيعة وطبائع البشر الذين لا علاج لكوارث حياتهم إلا بالنسيان.
وهذا ما كان اللبنانيون فعلوه حين طووا صفحات حروبهم الأهلية وخرجوا منها إلى زمن إعادة الإعمار والبناء في الحقبة الحريرية (1990-2005) منذ انطلقت الجرافات تعمل لإزالة الردم والركام في بيروت، كأنها تعلن: لا صوت يعلو فوق صوت الجرافات لطي صفحة الحروب.
وكانت روح الجماعة وروابطها التضامنية ومبادراتها في أحياء الجميزة ومار مخايل والأشرفية والكرنتينا (وهي أحياء بيروتية مسيحية قريبة من المرفأ) قد نشطت بقوة مع مبادرات دولية طوال السنوات الثلاث الماضية على الانفجار، فأعادت إعمار هذه الأحياء وجدّدتها ونشّطت الحياة فيها، رغم كثرة قتلى الانفجار فيها ونزيف الهجرات الواسعة منها إلى خارج لبنان. لكن من عايش حروب لبنان الأهلية، لا بد أن يستذكر روح الجماعة عينها، المنبعثة في تلك الأحياء وجيلها الشاب بين (1972-1975) واندفاعه إلى امتشاق السلاح بقيادة بشير الجميل، لخوض معارك الحرب والتدمير، دفاعا عن الجماعة وأحيائها السكنية.
كانت مشاهد الشبان والفتيات، حاملي الجرافات والمكانس وتدفقهم على شارعي الجميزة ومار مخايل القريبين من المرفأ لإزالة الردم والركام بعد الانفجار، تشبه مشاهد نزهةٍ في الخراب، وطالعة من مناخ أغنية لفيروز والأخوين رحباني، في فرحها المتفائل والبريء
وعلى الرغم من اختلاف نتائج انبعاث روح الجماعة في سني الحرب، عن نتائج انبعاثها بعد انفجار المرفأ، فإن الإرادة المنبعثة (حربيا في ذاك الجيل، وللإعمار وبعث الحياة من الركام في جيل أبناء المحاربين) هي نفسها: روح الجماعة وإرادتها، مرة للحرب وأخرى للإعمار.
أما وسط بيروت الذي أعيد إعماره بعد الحروب، وأصابه انفجار المرفأ بأضرار جسيمة- وهو مسكون بروح مشروع رفيق الحريري العمراني وطيفه وبروح جماعته السياسية منذ انتهاء الحرب- فلم يشهد لا حملات إزالة الردم والركام على مثال الأحياء المسيحية، ولا شهد نشاطا ومبادرات لإعادة إعماره وبعث الحياة فيه منذ انفجار المرفأ، بل منذ اغتيال رفيق الحريري، وتخييم “حزب الله” وجماعة ميشال عون ورهطه فيه، وإقفاله طوال نحو سنتين (2007-2008) احتجاجا على إنشاء محكمة دولية لكشف قتلة الحريري.
والأرجح أن وسط بيروت بقي على حاله منذ انفجار المرفأ، غارقا في الإهمال والعتمة، لأن شركة استثمارية (سوليدير) هي التي تولت إعادة إعماره وإدارته بعد الحرب. فمثل هذه الشركات للتطوير العقاري والإعمار والاستثمار، لا تحركها روح الجماعة وإرادتها وعصبيتها، بل تحركها الخطط الاستثمارية والتوقعات الاقتصادية.
نسي اللبنانيون اليوم، بعد 3 سنوات مريرة على الانفجار الكبير، أن تحقيقات قضائية في الجريمة حصلت أو قد تحصل. ولم يعد أحد يتذكر تلك التحقيقات إلا من باب التندّر والسخرية المرّة والعبث، في أثناء الكلام على الجهاز القضائي اللبناني الخاوي، والمقيد بولاءاته المزمنة، إما خوفا من أولياء الأمر والنهي في الدولة المنحلة والمتهاوية، وإما طاعة لأولياء نعمته من طغمة الزعماء السياسيين.
ورب من يتساءل: ماذا لو أصاب انفجار مرفأ بيروت مناطق وأحياء جماعة الولاء الحربي العصبي المرصوص في إمرة قائدها “المقدس”؟ هل كانت هذه الجماعة أقل من إنزال قصاص جماعي بالجماعات الأخرى؟
ماكرون والحريري وميقاتي
كانت مدوية أصداء انفجار بيروت عالميا وفي الإعلام الدولي، فيما كان ألمَّ باللبنانيين المنتفضين منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول يأسٌ من احتمال أن تغير انتفاضتهم شيئا من سلوك سلطة الفساد والإفلاس المالي والسياسي في بلدهم.
وما أضافه الانفجار الكارثي من ذهول وغضب إلى يأسهم، حملهم على انتظار ما قد تأتي به المبادرات الخارجية، الإقليمية والدولية، من مساعدات واحتمالات علاج مصابهم الكبير. وبما أن حكومات الدول والمنظمات والهيئات الدولية غير الحكومية، كانت قد فقدت ثقتها بالحكومة والهيئات السياسية اللبنانية، اشترطت لتقديم مساعداتها أن تتلقاها وتشرف على إدارة توزيعها المنظمات الدولية وهيئات المجتمع المدني في لبنان.
وحين زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت بعد يومين من الانفجار، أي في 6 أغسطس/آب، استقبله في جولته التفقدية للمرفأ والأحياء الأشد تضررا في المدينة حشد من الأهالي، فاستجاروا به غاضبين من طبقة سياسية فاسدة ومدمرة في بلدهم. بل إن بعضهم راح يطلب منه، عن يأس وقنوط، عودة الانتداب الفرنسي على لبنان علّه ينقذ البلاد مما أنزله بها زعماؤها السياسيون. وفي ختام زيارته، دعا ماكرون إلى إحداث “تغيير” في النظام اللبناني. وفي مؤتمره الصحافي البيروتي قرّع الطبقة السياسية. وحين رعى مؤتمرا دوليا لمساعدة لبنان، تعهد المجتمع الدولي بتقديم مساعدة طارئة بقيمة 300 مليون دولار، على أن لا تمر عبر المؤسسات الحكومية.
وفي 8 أغسطس/آب تظاهر ألوف من اللبنانيين ضد “الطغمة” اللبنانية الحاكمة. وواجهت القوى الأمنية المتظاهرين الغاضبين، فاستخدمت العنف المفرط ضدهم. وأعلن بعض الوزراء استقالتهم من الحكومة، قبل إعلان رئيسها حسان دياب استقالتها في 10 أغسطس/آب.
وبعد تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة جديدة في 22 أكتوبر/تشرين الأول، أعلن بعد 9 أشهر، أي في 15 يوليو/تموز 2021، اعتذاره عن التشكيل والتكليف، بعدما حالت خلافاته مع رئيس الجمهورية ميشال عون دون تأليف الحكومة. وكان الحريري وعون أمضيا الأشهر الأخيرة في تبادلهما التهم بالتعطيل. وبعد تكليف نجيب ميقاتي بتشكيل حكومة في 26 يوليو/تموز، لم يتمكن من تشكيلها إلا بعد مضي 13 شهرا، أي في 10 سبتمبر/أيلول 2022.
كانت مدوية أصداء انفجار بيروت عالميا وفي الإعلام الدولي، فيما كان ألمَّ باللبنانيين المنتفضين منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول يأسٌ من احتمال أن تغير انتفاضتهم شيئا من سلوك سلطة الفساد والإفلاس المالي والسياسي في بلدهم
على صعيد التحقيقات القضائية في جريمة المرفأ، كان المحقق العدلي فادي صوان قد كلّف رسميا بالتحقيق. وفي 10 ديسمبر/كانون الأول 2020 ادعى صوان على رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب وثلاثة من وزراء حكومته واتهمهم بـ”الإهمال والتقصير” في إجراءات إدارية تتعلق بتخزين نترات الأمنيوم في عنابر المرفأ. وفي 18 فبراير/شباط 2021 نُحي صوان عن التحقيق، وعُين القاضي طارق البيطار خلفا له، فأعلن في 2 يوليو/تموز عزمه على الادعاء على دياب ووزراء سابقين ومسؤولين أمنيين وعسكريين، ثم أصدر في 16 سبتمبر/أيلول مذكرة توقيف وزير الأشغال العامة والنقل السابق غازي زعيتر، وهو من حصة حركة “أمل” ورئيس مجلس النواب نبيه بري، في الحكومة.
في 11 أكتوبر/تشرين الأول، ندّد أمين عام “حزب الله” حسن نصر الله في إطلالته التلفزيونية بما وصفه بـ”استنسابية المحقق العدلي” طارق البيطار، واتهمه بـ”تسييس التحقيق”. وهذا ما كان قد اتهم به المحكمة الدولية في اغتيال الحريري وعارض إنشاءها معارضة وجودية شرسة. هو استبق إصدار حكمه على البيطار في 12 أكتوبر/تشرين الأول، قبل إصدر البيطار مذكرة توقيف وزير المالية السابق علي حسن خليل المنتمي إلى حركة “أمل”، والمعاون الأول لنبيه بري.
وكان سبق صدور مذكرة توقيف علي حسن خليل وكلمة نصر الله، أن زار المسؤول الأمني في “حزب الله” وفيق صفا، قصر العدل في بيروت في 20 سبتمبر/أيلول، طالبا مقابلة رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود. وبعد دخول صفا مع مرافقيه قصر العدل، رفض عبود اللقاء به. لذا خرج صفا من القصر غاضبا، وقال لإعلامية يعرفها والتقاها على مدخل القصر أن تبلغ القاضي طارق البيطار عزمه وعزم حزبه على “قبعة” (اقتلاعه) من منصبه وكف يده عن التحقيق، إذا لم يعمد القضاة إلى فعل ذلك.
وفي خضم هذه الأحداث انطلقت في أوساط جمهور “الثنائي الشيعي: أمل وحزب الله” شائعات غاضبة من القاضي البيطار، مفادها أنه “يحيك” مؤامرة لاتهام “حزب الله” بأنه بالتعاون مع النظام السوري، جلب الباخرة المحملة بأطنان نترات الأمنيوم إلى مرفأ بيروت وخزّنها في عنابره، كي يستخدمها نظام الأسد في تعبئة البراميل المتفجرة التي قصف بها الشعب السوري الثائر. والحق أن هذه الشائعات كانت قد أمست الرواية الأكثر تداولا لدى الرأي العام اللبناني، وفي كثرة من التقارير الإعلامية العربية والدولية قبل إعلان جمهور “الثنائي الشيعي” غضبه من البيطار، وحتى قبل تعيينه للتحقيق في الجريمة.
وهكذا أعلن “الثنائي” عن حشد أنصاره للقيام بمظاهرة تطالب بـ”قبع” البيطار وتنحيته عن التحقيق، على أن تنطلق في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2021 من أحياء ضاحية بيروت الجنوبية، إلى طريق صيدا القديمة ومستديرة الطيونة- وهما الخط الفاصل بين الشياح (الشيعية) وعين الرمانة (المسيحية) في زمن الحروب الأهلية- لتسير إلى قصر العدل والمتحف الوطني. وفي الأيام القليلة التي سبقت المظاهرة، خيّم على بيروت جو من الترقّب والحذر والخوف.
وفي ظهيرة 14 أكتوبر/تشرين الأول احتشد ألوف المتظاهرين من “الثنائي الشيعي” في مستديرة الطيونة. وسرعان ما توغل متظاهرون غاضبون وفي حال من التوتر في شوارع منطقة عين الرمانة المسيحية، وشرعوا في استفزاز أهلها الخائفين وشتمهم وتحطيم مداخل بناياتهم السكنية، فأصيب الأهالي بالذعر، ولعلع الرصاص، فسقط عدد من الجرحى. وبعدما تراجع المتظاهرون إلى مستديرة الطيونة، واستقدموا مسلحين من أحيائهم الشيعية القريبة. وأظهرت الصور ومقاطع الفيديو عددا كبيرا من المسلحين الذين راحوا يطلقون رشقات الرصاص من المستديرة في اتجاه عين الرمانة وفرن الشباك. وذكّرت تلك المشاهد على خط التماس بأولى جولات الحرب الأهلية سنة 1975. وكان القتلى الستة الذين سقطوا في تلك المعمعة من المتظاهرين والمسلحين الشيعة، إضافة إلى جرح عشرات.
أشاعت الحادثة الخوف في لبنان كله من ذكريات ومشاهد الحرب الأهلية. وجرى بين “حزب الله” وحركة “أمل” من جهة و”حزب القوات اللبنانية” من جهة أخرى، تبادل التهم بالإعداد للمقتلة. واعتقلت الأجهزة الأمنية الرسمية عددا من أنصار “القوات اللبنانية” من دون أن تعتقل أحدا من أنصار “الثنائي الشيعي” المسلحين والمتظاهرين.
وبعد مدة جرت “لفلفة” الحادثة وذيولها، كأن شيئا لم يكن. لكن إرادة “قبع” (اقتلاع) القاضي طارق البيطار، تحققت مواربة على الطريقة اللبنانية. فمدعي عام التمييز غسان عويدات الذي كان البيطار أورد اسمه في قائمة المدعى عليهم، اقتصَّ من البيطار بأن أعلن إحالته إلى هيئة التفتيش القضائي بتهمة “التمرد على القضاء” واغتصاب السلطة، فيما أكد الادعاء العام اللبناني أن التحقيق في جريمة المرفأ أصبح معلقا.
بيروت الأمنيوم والاغتيالات
في الأحياء الداخلية التي تضررت بالانفجار- وقد أعيد ترميم واجهاتها وتأهيلها مجددا في الأشرفية ومار مخايل والتباريس والجميزة- لا تزال اليوم، في الذكرى السنوية الثالثة للانفجار الكارثي، ماثلة على جدران عتيقة متهرئة عباراتٌ دوّنها بأيدٍ مرتجفة عابرون وعابرات، مجهولون ومجهولات. وهم على الأرجح من الشبان والشابات الذين واللواتي هاجروا وهاجرن، ولم يبق منهم ومنهن أحد في لبنان.
ننقل هنا بعضا من تلك العبارات:
“ما ضروري هيك تكون آخرتنا”: ليس من الضروري أن تكون آخرتنا على هذه الصورة البائسة والمأساوية.
“صرنا ننتمي إلى الفقدان”، “كيف نلتئم” بعد الذي جرى؟
“أمنيوم”، “منكن لحالكن” (لستم وحدكم)، “لإيمتى رح نضل ناجين؟”: إلى متى سوف نبقى من الناجين من المقتلة؟
“وتعطلت لغة الكلام”، “دخلنا في زمن الواقع/ة”، “مش فالة”: لن أرحل أو أهاجر.
وعلى باب سيارة مهملة ومحطمة: “أنا هيك كمان”: أنا مثل هذه السيارة.
إنها كلمات مختنقة، دوّنها عابرون وعابرات على جدران مهملة مهجورة. وهي مثلهم عابرة في يوميات بيروت والبلاد. وكأن هذه الكلمات دُوّنت وتُدون في لحظات صحوة مفاجئة تركت علاماتها على الجدران، لتشير إلى الغموض والقطيعة
كلمات قدرية، لا تخاطب أحدا ولا تطلب شيئا. بل تعترف وتشهد وتسأل وتتذمر أو تستغيث بخفوت من حال اليأس والقنوط.
أما تلك الكلمة المنفردة “أمنيوم” فتبدو كأنها شاهدة على مقبرة جماعية لبشر مجهولين. كالانتماء إلى الفقدان، إلى حاملي نجاتهم من زلزال بيروت كوصمة دائمة في قلوبهم وعلى صدورهم. كالسائرين في ليل موحش يقولون للموتى والراحلين: لستم وحدكم. ونحن هنا باقون في الأرض الخراب، حيث تعطلت لغة الكلام.
كلمات قليلة عابرة من بيروت الأمنيوم والقتل والاغتيالات والردم والركام في مسيرة لبنان الكبرى للقتل والاغتيالات.

مصابون… يعيشون الرابع من آب كل لحظة
زيزي إسطفان/نداء الوطن/04 آب/2023
في حياتهم لم تنته ساعات ذاك الليل الطويل ولم يبزغ فجره بعد. هو الرابع من آب ما زالوا يعيشونه كل يوم، ليس كذكرى بل كواقع يتعايشون مع تداعياته في كل لحظة. جرحى ومصابون غيرت الكارثة حياتهم، جعلتهم في منطقة وسطى بين الحياة والموت، الذي يتمنونه أحياناً. جريمة ضد حقوق الإنسان، ضد حقه بالعيش والأمان والرعاية، يحاولون تغطية خيوطها وإسكات كل من يحاول كشفها، فيقتلون الضحايا مرتين ويمنعون على المصابين شفاء جروح النفس والجسد.
6،07 لحظة بعثرت حياتهم، ولا يزالون حتى اليوم يحاولون لمّ شتاتها. مصابون، جرحى ومعاقون يموتون موتاً صغيراً كل يوم، في أجسادهم كما في أرواحهم ترك الانفجار الجريمة كلوماً، قليلون تخطوها وكثر يعانون ندوبها. حالات صعبة قاسية واكبنا معاناتها وعرفنا كم هو قاس الاستهتار بأرواح الناس وآلامهم وكم هو مؤلم أن تتغلب النقمة والحقد على الألم.
ليديا وفاة تأجلت
1057 يوماً عاشتها ليديا فرعون بعد انفجار الرابع من آب ورحلت بصمت في الثامن والعشرين من شهر حزيران الماضي. منذ اللحظة الأولى كانت مصرة على أن يسجل اسمها بين لائحة الضحايا وظلت حتى اللحظة الأخيرة تصر أن وفاتها حين تحصل لن تكون إلا موتاً مؤجلاً بعد ذاك اليوم المشؤوم. منزلها الكائن مباشرة تجاه العنبر رقم 12 في المرفاً والأقرب إليه انفجر من هول الانفجار وتشلعت جدرانه وتهدم فوق رأس ليديا وزوجها عصام. البيت الذي أمضى فيه الزوجان 57 عاماً من الحياة المشتركة واحتضن العائلة والأبناء والذكريات وكان يفترض به أن يحتضن أيام التقاعد الهادئة، هوى فوق رأسيهما وأصيب الإثنان إصابات بالغة.
1500 قطبة احتاجت ليديا فرعون بعد الانفجار لمداواة جراحها التي خلفها الزجاج المتناثر الذي انغرز في أنحاء جسمها. توفيت وزجاج بيروت لا يزال يملأ جسدها كما تقول ابنتها لارا. خسرت ليديا أكثر من 60% من سمعها بعد الانفجار واحتاجت الى عمليتين جراحيتين مباشرة إثر الإصابة في ساقيها لتستمر بعد ذلك رحلة الألم والعذاب مع عمليات متكررة لإزالة قطع الزجاج من المناطق الحساسة بعد أن باتت تهدد الوظائف الحيوية. أصيب زوجها عصام في رأسه وجسمه وإن كانت الإصابة أخف من إصابتها لكن الالم والحزن عادل بين الإصابتين. «الندوب التي خلفتها الجروح في جسدَي أمي وأبي لم تكن ألوانها طبيعية ككل الندوب، بل كانت غريبة بألوانها والباكتيريا الموجودة فيها وهو ما يشير الى المواد الكيميائية التي دخلت الجسم».
منذ الرابع من آب 2020 لم تعد ليديا تعرف يوماً هادئاً، أوجاع مستمرة غير مألوفة تكاد تتخطى الطبيعي، ومع كل يوم تتكشف انعكاسات جديدة للإصابة: قلة توازن، صعوبة في النوم مع توقف للنفس أحياناً. السيدة التي كانت تملأ حياة عائلتها حباً وحياة تغيرت صارت إنسانة مختلفة، مقهورة لا تشعر بذاك الرضى الذي كان يرافق حياتها، ما عادت مرتاحة لا في صحتها ولا في بيتها الذي تم ترميمه بعد جهود جبارة وبات بيتاً جديداً،غريباً، مختلفاً عن الحضن الدافئ الذي عاشت فيه 57 عاماً. «يا ريت رحت بهيداك اليوم» عبارة ظلت ليديا ترددها وأمنية كانت تتمناها في قرارة نفسها لكنها صمدت وجاهدت من أجل أبنائها لتبقى حاضرة أمامهم.
«الخسارة التي مني بها أهلي كانت أكبر من أن تعوض فهما لم يفقدا جدراناً واثاثاً ومقتنيات بل فقداً بيتاً شهد كل مراحل حياتهما الزوجية وكل ما فيها من ذكريات. كانا يعودان من أسفارهما بتذكارات صغيرة يجمعانها في البيت، وكان البيت بالنسبة إلينا نحن الأبناء محطة يومية إجبارية نزوره لنستمد منه البركة والحب لحياتنا اليومية. من هنا استمددت القوة لأكافح من أجل إعادة بناء البيت. سنة ونصف أمضاها الوالدان خارج بيتهما في بيت آخر، ورغم كل الحب والدعم الذي تلقياه من الأبناء إلا أنهما بدوا ضائعين وقد فقدا كل ما اعتادا عليه من معالم. وحين عادا الى البيت بدا كل شيء غريباً تم ترقيعه بالممكن وما عاد يذكرهما بحياتهما الماضية».
رجعت ليديا الى بيتها لكن لحظات الانفجار لم تغادر ذاكرتها، حتى ستارة النافذة التي تطل على المرفأ كانت ترفض أن ترفعها، لا تريد لها أن تذكرها بلحظة مرور الصاروخين اللذين تقول إنها رأتهما بأم العين ذاك اليوم وتخشى مرور غيرهما. تجلس على سريرها تتأمل بيتها بحرقة وتتذكر…ليديا رحلت الى مكان آخر علها تجد فيه العزاء و الراحة لكنها تركت خلفها زوجاً تائهاً وأبناء لا يستطيعون أن ينسوا…
«والدي – تقول لارا- خسر بيته ومقتنياته وسيارته الجديدة التي اشتراها قبل فترة بسيطة من الانفجار، وقد أحزنه فقدانها كما احزنه ذاك الشعور بانه فقد جنى عمره. واليوم بعد رحيل أمي تجرع كأس الفقدان التام حتى الثمالة. كلنا لم نعد كما كنا فأنا لا استطيع سماع صوت سيارة إسعاف او رؤية مستشفى لشدة ما عانيناه في هذه السنوات الثلاث، لكن الأسوأ أن أحداً لم يلتفت إلى أهلي أو يعوض عليهم صحتهم وبيتهم وسيارتهم وكأنهم تركوا لمصيرهم يتدبرونه كما يقدرون. حتى اليوم لا تزال حجارة البناية المجاورة مهددة بالسقوط في اية لحظة لذا نحن كأهالٍ سنزيلها على نفقتنا الخاصة لنحمي من تبقى من كارثة جديدة. نحن نعرف حقيقة ما حصل لكننا نكاد نموت واحداً بعد الآخر قبل أن يقروا بهذه الحقيقة»
ناجي إنسان آخر
لحظة دوى انفجار الرابع من آب أصيب ناجي مخلوف الذي يسكن منزلاً قريباً جداً من المرفأ إصابة مباشرة أدخلته في غيبوبة تامة لمدة اسبوع وحين استفاق كان لا بد أن يخضع لجراحة فورية لترميم الجمجمة. مشوار المعاناة لم يتوقف بعد خروج ناجي من المستشفى بل بدأت رحلة من نوع آخر شهدت تحول هذا الزوج والأب الى إنسان آخر مختلف بشكل كلي عن ذاك الرجل «السوبر القوي» الذي كانه قبل الإنفجار.
« بعد الجراحة، بدأ يتعرض لنوبات كهرباء قوية تهز كيانه كله وعلى أثرها تغيرت حياته وحياتنا كعائلة أنا وابنتنا تقول نيكول طربيه زوجة ناجي. فقد زوجي كل ما يرتبط بالمشاعر والأحاسيس والقدرة على التخطيط للمستقبل كما فقد حاستي الشم والذوق. لم يعد لديه اي اهتمام بالحياة واصيب بما يشبه الكآبة. غيرت الإصابة شخصيته وقد عرفنا بعد جهود مضنية وبحث طويل ان إصابته تركت آثاراً في الدماغ في المنطقة المسؤولة عن الشعور وفق ما شرح لنا طبيب مختص استطعنا الوصول إليه بصعوبة بعد « تبويس ألف يد».
لا يتذكر ناجي شيئاً عن الانفجار واللحظة التي حدث فيها. واليوم حين تسأله المعالجة النفسية بم يشعر يجيبها أنه لا يشعر بشيء أو بأن شيئاً ما قد تغير في حياته وحياة عائلته. «اشعر كأنني أعيش مع شخص آخر تقول نيكول، صحيح ان الضرر عليه كان كبيراً لكن الضرر الأكبر كان علي وعلى ابنتي. فالرجل «السوبر قوي» الذي كان سنداً لي ولابنتي هو اليوم لا يعمل، وبعد ان كان مدرباً رياضياً لم تعد لديه القدرة على القيام بهذا العمل».
ناجي لم يتخط الثامنة والأربعين من عمره ولا تزال ابنته نور وهي في الثالثة عشرة بحاجة الى والدها، كانت ترى فيه جبلاً تستند إليه وصار اليوم أمامها كحبة رمل. ربما تعاني في مدرستها من نظرة الرفاق وتشعر بما تمر به والدتها لإحاطتها بالأمان الذي تحتاجه وتشتاق الى والدها الذي تعرفه رجلاً آخر. معاناة ناجي الجسدية لم تتوقف فنوبات الكهرباء تباغته من وقت الى آخر وتطرحه بقوة على الأرض فينجرح راسه من جديد ويحتاج الى جراحة أخرى. الأطباء يتعاطفون مع حالته دون أن يبدوا أملاً كاذباً ويحاولون معه أدوية جديدة تحتاج الى اشهر حتى يبدأ مفعولها بالظهور.
«معاناتنا اتخذت أكثر من شكل تقول الزوجة، فالصعوبة الأبرز في إيجاد الطبيب المختص الذي يفهم الحالة ثم الحصول على موعد منه وبعدها انتظار مفعول الدواء. والصعوبة الثانية الوضع المادي الذي بات يشكل عبئاً علينا كما على كل العائلات، فأنا أعمل أكثر من عمل واحد وأجاهد بكل قدرتي لتأمين ما يحتاجه زوجي وابنتي، لكن الظلم الذي اشعر به يطغى على أية معاناة مادية. فأنا لا أتقبل ما حصل، أشعر أنهم اغتصبوا حياتنا داخل بيتنا نائمين على فراشنا..أقول في نفسي احياناً أن الذي توفي ورحل عن هذه الدنيا ربما ارتاح من معاناته. يقال أن الحزن مثل الصابون يذوب ويتلاشى مع الوقت لكن حزننا يكبر فيما وحدها جريمة المجرم هي التي تصغر وتكاد تتلاشى. الجريمة تذوب والظلم يكبر على الضحايا. هذا الإحساس بالغضب والوجع والخوف والحقد والكراهية يشلني ويجعلني أعيش تمرداً داخلياً لا أعرف كيف اعبر عنه. أحاول جاهدة ألا تنعكس هذه الأمور السلبية على ابنتي لكنني في النهاية من البشر ومهما حاولت لا أستطيع إخفاء هذه المشاعر السلبية عنها».
شعور الخوف لا يغيب عن نيكول، هي على يقين بأن ثمة ضربة أخرى آتية لا محالة. لمَ لا؟ تسأل نفسها، من نجح أول مرة في قتلنا ومرت جريمته من دون عقاب، اي رادع سيمنعه من تكرار جريمته؟ والثانية قد تكون اصعب واقسى لأن الأولى مرت دون مساءلة حتى أنهم قتلوا كل من وجد خيطاً لإدانة المجرم. «راس البيت قد ضرب وانكسر فما الذي يبقى لي بعد؟» تقولها بحرقة سيدة ارادت أن تمضي عمرها مع شريك احبته واختارته فإذا بجريمة العصر تحوله إنساناً آخر.
ظلم المعاناة ومعاناة الظلم
لم تدرك ليليان شعيتو أن فرحة شراء الهدية التي كانت سترسلها الى زوجها المسافر سوف تكون آخر فرحة في حياتها ومن بعدها ستكون أيامها كلها مغمسة بالألم والحزن ومكللة بالظلم واللاعدل. كانت في أحد المتاجر في مجمع أسواق بيروت حين دوى الانفجار. واجهة المتجر الزجاجية الكبيرة سقطت عليها ولسوء حظها كان ذاك الزجاج مزدوجاً وسميكاً ومن النوع الذي لا يتفتت. من وزن الزجاج هوت ليليان وارتطم راسها بعنف بالأرض واصيبت على الفور بكسر في الجمجمة ونزيف داخلي. الموجودون في المتجر ظنوها ميتة لكنهم رأوا الزجاج يتحرك فوق صدرها فحملوها الى مستشفى الجامعة الأميركية. حالتها كانت صعبة جداً، ترجى أهلها الأطباء والمستشفى لإجراء عملية جراحية لها لكن هؤلاء وإن لبوا الطلب حكموا بأنها لن تعيش إلا اياماً نظراً لصعوبة حالتها. لكن ليليان قاومت وبقيت على قيد الحياة، فتحت عينيها وسط دهشة من حولها إنما دون اية حركة أو كلام، ثم راحت تلاحقهم بحركة عينيها ليبدأ بعدها مشوار التطور البطيء والطويل. ستة أشهر قضتها ليليان في مستشفى الجامعة الأميركية وفق ما ترويه لنداء الوطن شقيقيتها نوال. لكنها كانت تحتاج الى مركز علاج فيزيائي يساعدها في استعادة النطق والحركة وهنا بدأت مأساة من نوع آخر أتت لتصب الزيت على نار المعاناة الأصلية.
لم تستطع ليليان الخروج من المستشفى والانتقال خارج البلد للمعالجة لأن جواز سفرها لم يكن معها، رفض زوجها إعطاءه لها وفق ما تخبر شقيقتها. ناشد أهلها المسؤولين وتحولت قضيتها الى قضية رأي عام وتحت ضغط الناس والجمعيات تدخل اللواء عباس ابراهيم واستخرج جواز سفر لليليان وإذناً بالسفر.
في هذه الأثناء حاول أهل ليليان نقلها الى مركز تأهيل لكن وزارة الصحة لم تؤمن تغطية التكاليف إلا في مؤسسات محمد خالد. وفي عز أزمتي كورونا والأزمة المالية كان وضع المؤسسة المذكورة صعباً لا أدوية ولا أطعمة خاصة كتلك التي تحتاجها ليليان التي تأكل عبر نربيش موصول الى خاصرتها، ولا اختصاصية نطق. حاول القيمون على المؤسسة مساعدتها لكن الوضع فيها لم يكن مناسباً لحالة ليليان المتقدمة.
أمضت الأم الشابة التي تحولت ايقونة ألم وظلم في مستشفى الجامعة الأميركية سنتين وثلاثة اشهر تكفلت فيها المستشفى بتكاليف العلاج فيما تكفل الأهل بالأدوية والاحتياجات اليومية. خضعت خلال هذه الفترة لأربع جراحات في راسها ووضعت تحت جهاز تنفس بعد أن تم ثقب قصبتها الهوائية لتستمد منه الأوكسجين.في الرابع من آب 2022 حصلت ليليان أخيراً على جواز سفرها واستغرق تأمين مركز خارج لبنان وإعداد تجهيزات السفر حوالى ثلاثة اشهر لتنتقل بعدها بواسطة طائرة إسعاف خاصة الى مركز تأهيل في تركيا.
في رحلة الألم والمعاناة كانت عائلة ليليان وأخواتها الأربع حولها لم يتركنها دقيقة لا ليلاً ولا نهاراً يتناوبن الأدوار بتفان وحب مطلق. النوم المستمر على سرير المستشفى ساهم في تعقيد حالة ليليان ولو استطاعت الخروج الى مركز تأهيل بعد ستة أشهر لربما كانت حالتها قد تحسنت ولم تضعف عضلات ساقيها كما حصل معها. في تركيا احتاجت الصبية الى عملية جراحية في ساقيها لتستعيد بعض حركتهما وبدأت تخضع لعلاج فيزيائي مكثف وعلاج بالنطق من قبل إختصاصية لبنانية تتابعها أونلاين من بيروت وتؤمن لها الدعم النفسي. بدأت حالة ليليان الجسدية تتحسن نتيجة العلاجات، تحسن وعيها بنسبة 90% وصارت تستطيع تحريك يدها اليمنى وباتت قادرة على الوقوف مع مساعدة وعلى نطق بضع كلمات بسيطة… لكن حالتها النفسية لم تجد من يعالج جروحها أو يزيل الظلم الذي أصابها.
حرمت ليليان من رؤية ابنها الذي كان يبلغ يومه الأربعين وقت الكارثة ووفق ما تقوله شقيقتها نوال فرض عليها حجر صحي من قبل المحكمة الجعفرية لكن في الرابع من آب 2022 صدر حكم يعطيها الحق كما لعائلتها برؤية طفلها لكن الحكم لم ينفذ. وبعدها عقد صلح بين العائلتين وحظيت ليليان بفرحة رؤية وحيدها في الرابع من آب أيضاً وايضاً عل رؤيته تكسر مرارة ذلك التاريخ القاسي. ومن ثم فرحت به مرتين أخريين لتتوقف بعدها زيارات الصبي إليها وحتى الاتصالات المصورة عبر الفيديو.
في تركيا لا تزال ليليان حتى اليوم تعيش هذا الفراغ العاطفي بعيداً عن طفلها، وفي المركز حيث تتابع علاجها تنساب دموعها كلما سمعت بكاء طفل، وتتعامل مع الأطفال الموجودين في المركز بحنان بالغ وكأنها تعوض بهم عن غياب وحيدها.
نوال التي تركت بلدها وعملها وحياتها لتبقى مع شقيقتها تواكب تحسن حالة شقيقتها خطوة بخطوة كما واكبت مراحل معاناتها. تشكر ربها كل دقيقة على بقاء شقيقتها على قيد الحياة وهي مستعدة أن تبذل أكثر لتساعد اختها التي عانت كثيراً وصبرت كايوب وتحملت آلامها لتواجه مصيرها بإيمان. العائلة كلها وقفت الى جانب الابنة المتألمة والناس في لبنان وقفوا الى جانب ليليان وتعاطفوا مع قضيتها وساعدوا فيما مارسوه من ضغوط على حصولها على جواز سفرها. اللواء عباس ابراهيم كان له دور إنساني كبير ومثله أحد الأشخاص وقد تكفل بدفع ما تبقى من تكاليف علاج ليليان في تركيا بعد حملة تبرعات أنشأتها العائلة وكذلك اختصاصية النطق التي تساعدها من لبنان. وحدها الدولة اللبنانية بقيت غائبة عن مأساة مواطنة كانت ضحية إجرام انفجار المرفأ وظلم الأحوال الشخصية.
حالة ليليان الجسدية تشهد تحسناً وصل الى 50%. عبر ما أرسلته لنا شقيقتها من فيديوات لمسنا تطور حالتها لكن مشوار ليليان لا يزال طويلاً وجراحها المعنوية والنفسية أعمق من أن يبلسمها الوقت والنسيان…
قصة انتهت قبل أن تنتهي
في تمام الساعة السادسة وسبع دقائق انقلبت حياة لارا حايك وعائلتها الى الأبد. عشر دقائق فصلت بين حياة ملأى بالحياة وحياة تشبه الموت. اتصلت بها والدتها نجوى من منطقة الحمرا لتتسايرا وتتطمئن الأم الى تفاصيل يومها كما كل يوم وكانت تلك الكلمات الأخيرة التي سمعتها نجوى من ابنتها. أصيبت الشابة الجميلة وهي في غرفتها في منطقة الجعيتاوي سقط عليها «برطاش» الباب والنافذة وزحفت نحو الباب الخارجي لتطلب النجدة.على الفور انطفأت عينها وانكسر حنكها وأصيبت بنزيف دماغي. نقلت الى مستشفى الجامعة الأميركية لكن قلبها توقف في هذه الأثناء وريثما أعيد إسعافها وإحياء القلب كان الدماغ قد تأثر نتيجة عدم وصول الأوكسجين إليه.»هنا انتهت قصة لارا بحسب قول والدتها نجوى. 40 عاماً قضتها الصبية تجاهد لتقف على رجليها انتهت بلحظة».
شهران بقيت في المستشفى تخضع لعناية طبية وبدأ الأطباء يجرّعون والدتها الحقيقة المرة شيئاً فشيئاً. لا أمل يرجى من حالتها. ثقبت قصبتها الهوائية لتتنفس من جهاز عبرها وزودت بنربيش لإطعامها مباشرة في المعدة ونقلت الى مركز بحنس الطبي. رغم معرفتها بالحقيقة لم تستوعب والدتها الأمر وما زالت حتى اليوم تظنه فيلماً سيحمل نهاية سعيدة. لكنها تعرف في قرارة نفسها أن ابنتها رحلت الى عالم مواز. «تركوها لنا كومة عظام، في غيبوبة تامة، تفتح عينيها لكنها لا ترى وتدمع أحياناً. وحدها صلة الأمومة تجعلني أحس فيها وتجعلها تحس فيّ فتغرق أكثر في سريرها وكأنها تبحث عن ضمة. أزورها في عطلة نهاية الأسبوع وامضي يومين معها أداعب شعرها اتحدث معها أخبرها يومياتي هي التي كانت ابنتي ورفيقتي في البيت ومؤنسة أيامي بعد زواج أخيها».
لا تنكر الأم أفكاراً تمر في رأسها أحياناً تجعلها تتمنى لو تتخلص لارا من عذابها لكنها في الوقت ذاته بالكاد يمكنها انتظار نهاية الأسبوع لتزورها وتقبلها وتشمها كما تقول ولتضع رأسها على صدرها لتتأكد أنها لا تزال تتنفس. وما يواسيها ان ابنتها غير واعية على نفسها ولا تشعر بالألم.
حياة نجوى التي انقلبت راساً على عقب تسطرها أكثر من معاناة واحدة فكأن ما حدث لوحيدتها لا يكفي ليأتي معه عذاب من نوع آخر وهو تخلي الجميع عنها. «الإنسانية مفقودة تماماً، لا أحد سأل عنا من نواب او وزراء او إكليروس، لا مسؤولين طرقوا بابنا ليعرفوا قصتنا او ماذا حل بهذه المصابة بعد ثلاث سنوات. إهمال تام وضمير مفقود. هذا ما يحز في نفسي بقدر إصابة ابنتي. أنا في بيتي وبلدي لم يسأل علي أحد. اين الأمان والحماية والرعاية التي يجب أن تؤمنها لي دولتي. عمرك ما ترجعي هذا شعارهم».
وحدها مؤسسة الإمام الصدر وقفت الى جانب العائلة مادياً وتكفلت بتكاليف العلاج الى جانب بعض المؤسسات ومن جهته بنك عودة الذي كانت لارا موظفة فيه أكمل تسديد راتبها حتى اليوم. اما الوالدة نجوى فعزاؤها أنها لا تزال في عملها لتتمكن من الاستمرار مادياً. نقمتها كبيرة تكاد تفوق الألم والحزن ولكن من يسأل عن حزن الضحايا بعد؟
حياة في العتمة
كارمن الخوري صايغ السيدة الجميلة التي كانت تهوى الحياة والأناقة والجمال خسرت في لحظة بصرها حين اصيبت في منزلها إصابة مباشرة تضرر معها العصب البصري في عينيها الاثنتين. تغيرت حالها وانتقلت من الضوء الى الظلمة لكنها ما انهارت ولا استسلمت أصرت على إكمال حياتها كما كانت قبل الانفجار المشؤوم.
رغم صعوبة حالتها لم تفقد كارمن الأمل وما زالت تبحث عن علاج جديد وتتواصل مع مراكز أبحاث عالمية علها تجد اكتشافاً جديداً يعيد إليها ما فقدته. تتابع حياتها في بيتها بإصرار بطولي وبشكل شبه طبيعي، لا تقبل مساعدة من أحد حتى من أقرب الناس إليها وتصر على إنجاز الأمور التي كانت تنجزها سابقاً في بيتها وعلى الاهتمام بنفسها. في هذا تجد عزاء وقوة ولو فقدت اهتمامها لربما انهارت وخسرت مرتين وفق ما تقول شقيقتها لورا الخوري العضو في إحدى لجان أهالي الضحايا والجرحى.
لكن ما يحزّ في نفس كارمن ليس الإصابة الجسدية بل تداعياتها المعنوية فهي لم تر ابنتها عروساً، وقفت الى جانبها، ساندتها لكنها لم تستطع رؤية ثوبها ووجهها وتسريحتها وإن أحست بفرحتها. وحين أنجبت ابنتها طفلتها الأولى لم ترها بعينيها رأتها بقلبها. الى ذاكرة الأمس البعيد تعود كارمن لتكمل حياتها وربما لتنسى الأمس القريب الذي يحمل تاريخ 4 آب.

“دم المرفأ”… يطارد السلطات اللبنانية
وسام أبوحرفوش وليندا عازار/الراي الكويتية/04 آب/2023
تستعيد بيروت اليوم الذكرى الثالثة للانفجار الهيروشيمي الذي ضرب مرفأها ودمّر نصف العاصمة تاركاً إياها تتخبّط بدماء أكثر من 200 ضحية و7 آلاف جريح، في ما وُصف بأنه «جريمة ضد الانسانية» ما زالت بعد 3 سنوات برسْم… مجهول معلوم.
وسط إقفالٍ عام، يَخْرُجُ الجَمْرُ مجدداً اليوم من تحت رمادٍ «من لحم ودم» سُفك في ذاك الرابع من اغسطس الذي زلْزل العالم حين انفجر أكثر من 500 طن من نيترات الأمونيوم (من أصل 2700) خُزّنت (منذ 2013) في العنبر رقم 12، فكان «بيروتشيما» الذي «هزّ» الكرةَ الأرضيةَ ولكن «صندوقَه الأسود» ما زال يستعصي على حقيقةٍ يُخشى أن تبقى سرّاً… دفيناً.
أمام المرفأ الذي «هوى» في 4 اغسطس سيحتشد الآلاف، من أهالي الـ 235 ضحية (بعضهم فارقوا الحياة بعد أيام وأسابيع على الانفجار) والجرحى والمتضررين، ومعهم مواطنون لا يصدّقون أن ثالث أقوى انفجار غير نووي عرفتْه البشرية قد يمرّ بلا «يوم حسابٍ» بعدما «استخدمت السلطات في لبنان كل السبل التي في متناولها لتقويض التحقيق المحلي وعرقلته بوقاحة لحماية نفسها من المسؤولية وترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب في البلاد» كما أعلنت أمس منظمة العفو الدولية.
وعشية الذكرى، لم تهدأ المخاوف من أن تبقى السياسة وحساباتها أقوى من «الصوت» الذي سيعبّر عنه حضور الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونتسكا الوقفة التضامنية اليوم، في المرفأ مع ممثلي السفارات المعتمدة في بيروت والوكالات الدولية العاملة في العاصمة اللبنانية «لتأكيد عدم نسيان الضحايا وعائلاتهم والإصرار على مجراها للوصول إلى الحقيقة»، وأيضاً من مناشدات الأهالي تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية لمعرفة الحقيقة ووقف مسار طمْسها، وهو المطلب الذي تبنّاه أخيراً البرلمان الأوروبي وترفعه أكثر من 300 من منظمات المجتمع المدني اللبنانية والدولية.
ولم يكن عابراً أمس، بيان لـ «مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان» أعرب عن الأسف «لعدم إحراز تقدم في المسار القضائي»، داعياً «السلطات اللبنانية إلى ازالة جميع العقبات التي تحول دون تحقيق العدالة، وتسهيل استكمال تحقيق نزيه وشامل وشفاف».
وأضافت المجموعة «انّ ضمان المساءلة القضائية ومكافحة الإفلات من العقاب جزء لا يتجزأ من استعادة صدقية مؤسسات الدولة اللبنانية. والجمود الذي يكتنف التحقيق في انفجار المرفأ يؤكد الحاجة الملحة لحماية استقلالية القضاء اللبناني وحياده ونزاهته».
وسيشكّل الحشدُ المنتظر اليوم ما يشبه «الاستفتاء الشعبي» حول أولوية إحقاق العدالة وإخراج التحقيق من خلف قضبان السياسة التي التفّت على «عنقه» وعطّلته منذ ديسمبر 2021، فيما بدا تحرُّك نُظّم أمس داخل قصر العدل في بيروت الذي اقتحمه العشرات طبعوا على الأرض صور المسؤولين «المطلوبين للعدالة» للتذكير بوجوب محاكمتهم بقضية انفجار المرفأ، بمثابة عيّنة مما قد تشهده مرحلة ما بعد إحياء الذكرى اليوم في مؤشرٍ إضافي إلى أن ثلاثة أعوام من التسويف ومحاولاتِ تقويض الحقيقة لم تنجح في تطويع الأهالي ولا «تنويم» الملف رغم كل مساعي إبقائه… على الرف.
في موازاة ذلك، بقيت المعاينة لصيقةً للوضع في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين الذي يُخشى أن يكون دخل مرحلةً على طريقة «معارك بين الحروب» تنطبع بفتراتِ هدوء نهاراً ثم انهيار لوقف إطلاق النار تحت جنح الظلام.
وإذ عاش المخيم نهار أمس أجواء من الهدوء الحذر، لم تسترح السيناريوهاتُ التي تحاول التقصّي عن خفايا «تحريك الصفيح الساخن» في عين الحلوة، وسط تقارير عن عودة قادة إسلاميين إليه أخيراً ودخول مسلحين وإرهابيين من سورية إليه في سياقِ محاولاتٍ لإغراق حركة «فتح» في وقائع ميدانية أشبه بـ «ترسيم نفوذ» جديد على حساب حضورها ومن خلفها السلطة الفلسطينية، وذلك بخلفيةٍ تتصل بتوسيع رقعة السيطرة على القرار الفلسطيني والإمساك بمفاتيحه من قوى إقليمية تحت سقف «وحدة الساحات».
وفي حين لم تَسقط من القراءات اعتباراتٌ ترتبط بنياتٍ لتوريطِ الجيش اللبناني في «ملعب نارٍ» حارق، هو الذي يتم استهداف مراكز له في محيط المخيم، واستطراداً لجرّ مجمل الوضع اللبناني إلى منزلق أمني في توقيت سياسي تتحّكم به الأزمة الرئاسية ومحاولات خرق الانسداد الكامل الذي يطبعها، فإن «أسراراً» كثيرة تنطوي عليها ملابسات تفجير «عين الحلوة» وهل كانت نتيجة تلقائية لمحاولة اغتيال المطلوب «ابو قتادة» (يوم السبت وهو من الإسلاميين) ما أدى لمقتل شاب كان برفقته (عبد فرهود)، أم أن هذا التطور وما أعقبه من اغتيالٍ لرأس الهرم الأمني في المخيم القيادي الفتحاوي أبواشرف العرموشي خلال محاولته إنجاز التسوية لتسليم مطلق النار على ابو قتادة، هو «رأس جبلِ جليدِ» مخطط متعدد البُعد و… اللاعبين.

ألغام سياسية تحاصر المحقق في تفجير المرفأ
يوسف دياب/الشرق الأوسط/04 آب/2023
عاماً بعد عام، تضيق مساحة الأمل لدى اللبنانيين بالوصول إلى معرفة الحقيقة الكاملة وراء انفجار مرفأ بيروت أو تفجيره، فيما يكبر الحزن والأسى لدى أهالي الضحايا والمصابين الذين لم تبرأ جراحهم، ولا أولئك الذين دُمّرت بيوتهم أو فقدوا مصدر رزقهم جرّاء هذه الكارثة. ومع حلول الذكرى الثالثة للتفجير المدمّر يرتفع منسوب الغضب لدى هؤلاء جميعاً، جرّاء الحصار السياسي الذي يلفّ التحقيق العدلي المتوقف كليّاً منذ 19 شهراً بفعل عشرات دعاوى الردّ والمخاصمة المقامة ضد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، وقطع الطريق على كلّ محاولات فتح الباب أمام مسار العدالة من جديد.
كل المعطيات المتوفرّة، تفيد بأن قاضي التحقيق العدلي أنجز ما يزيد عن 70 في المائة من مهمّته، وبات قاب قوسين أو أدنى من إعلان حقيقة ما حصل في الرابع من أغسطس (آب) 2020، لكن ذلك لا يكفي، طالما أن عجلة التحقيق متوقفة منذ أصدر البيطار لائحة الادعاء وضمّنها أسماء سياسيين كبار، أبرزهم رئيس الحكومة السابق حسان دياب، ووزير المال السابق علي حسن خليل، ووزيرا الأشغال السابقان غازي زعيتر ويوسف فنيانوس، بالإضافة إلى المدير العام للأمن العام (السابق) اللواء عباس إبراهيم، والمدير العام لأمن الدولة الحالي اللواء طوني صليبا، وقائد الجيش السابق العماد جان قهوجي.
الفريق المتضرر من التحقيق بجريمة المرفأ لم يقف عند محاصرة المحقق العدلي وتقويض دوره فحسب، بل تمادى أكثر ونجح في شقّ صفّ أهالي الضحايا الباحثين عند العدالة، وبدل أن يصوّب هؤلاء الأهالي على ملاحقة المتسببين بالانفجار وقتل أبنائهم، حولوا هجومهم على المحقق العدلي وطالبوه بالتنحّي، متهمين إياه بـ«تسييس القضية وتضييع الحقيقة».
مطلع العام الحالي، وبعد 12 شهراً على تعطيل التحقيق، تمكّن البيطار من تحريك المياه الراكدة، فأصدر اجتهاداً قانونياً اعتبر فيه أن «المحقق العدلي لا يخضع لدعاوى الرد طالما أنه ينظر في جريمة تطال أمن الدولة والسلم الأهلي، ولأن مهمته تختلف عن مهمة قاضي التحقيق العادي». وقرر إصدار لائحة ادعاء جديدة ضمنها أسماء: النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، والمحامي العام التمييزي القاضي غسان الخوري، والقاضيين في أمور العجلة كارلا شواح وجاد معلوف، وحدد مواعيد لاستجوابهم مع السياسيين المدعى عليهم والقادة الأمنيين المذكورين.
هذا القرار المفاجئ أحدث صدمة كبرى لدى الأوساط القانونية والسياسية. لم يتأخر ردّ القاضي غسان عويدات عليه، فسارع إلى رفض تسلم أي ورقة من المحقق العدلي أو تنفيذ المذكرات التي تصدر عنه، واتخذ قراراً يقضي بالإفراج الفوري عن جميع الموقوفين بالملف دفعة واحدة، واتبعها بالادعاء على البيطار بجرم «انتحال صفة محقق عدلي واغتصاب سلطة، ومنعه من السفر، ولوّح عويدات بإصدار مذكرة إحضار بحقه وتكليف جهاز أمن الدولة بتنفيذها، وكانت الخطة تقضي باعتقال المحقق العدلي فور حضوره إلى مكتبه في قصر العدل، غير أن المساعي التي بذلها رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، والاتصالات واللقاءات التي أجراها مع عويدات والبيطار، ومع وزير العدل القاضي هنري الخوري، نجحت بنزع فتيل تفجير القضاء من الداخل، وترجم ذلك بإعلان البيطار تأجيل جلسات التحقيق التي كان مقرراً انطلاقها اعتبار من 6 فبراير (شباط) الماضي، إلى مواعيد تحدد لاحقاً، وعزا أسباب التأجيل إلى أمرين: الأول البت بدعوى عويدات ضده، والثاني تسوية النزاع مع النيابة العامة التمييزية التي تشكل ممراً إلزامياً لتنفيذ مذكراته، إلا أنه لم يتحقق شيء منهما حتى الآن، رغم قرار رئيس مجلس القضاء بتعيين الرئيس الأول لمحاكم الاستئناف في بيروت القاضي حبيب رزق الله، قاضي تحقيق وتكليفه مهمة استجواب البيطار؛ لتبيان حقيقة ما إذا كان منتحل صفة محقق عدلي أم لا.
حالة الترقّب والقلق من تجميد المسار القضائي لا تقف عند أهالي الضحايا وغالبية الشعب اللبناني المتضامنة معهم فحسب، بل تقع تحت المجهر الدولي، فثمة دول غربية سقط لها ضحايا وعلى رأسها فرنسا، تضع القضاء اللبناني برمته تحت المجهر، ولا تتوقف عن إرسال المذكرات التي تستفسر فيها عن أسباب تعطيل التحقيق، وتسأل عمّا يفعله البيطار بانتظار البتّ بالدعاوى المقامة ضدّه، فتردّ أوساط مطلعة في قصر العدل بأن المحقق العدلي الذي يلازم منزله «ينكب على دراسة أوراق الملف». وتحاول هذه الأوساط تبديد الأجواء القاتمة، وتؤكد لـ«الشرق الأوسط» أن «التحقيق سيستكمل وسيصل إلى النهاية التي يتوخاها أهالي الضحايا وكلّ اللبنانيين». وتشير إلى أن البيطار «وصل إلى مرحلة متقدمة، وهو مقتنع بأن الملفّ سيبلغ خواتيمه، ولو كان لديه شكّ باستحالة إنجاز مهمته لكان تنحّى عن الملفّ منذ أشهر طويلة». وبرأي هذه الأوساط فإن البيطار «يدرك أنه يتسلّم ملفاً كبيراً وخطيراً، وأن مهمته محفوفة بالألغام، ورغم ذلك قَبِل المهمّة التي كلفته بها الدولة اللبنانية ومؤسسة القضاء، ويعتبر أن العراقيل التي تواجهه ليست مستغربة في بلدٍ فيه هذا الكمّ من التعقيدات السياسية»، لكن الأوساط استغربت «أن يتحوّل البيطار من محقق باحث عن العدالة، إلى مدعى عليه ومتهم باغتصاب سلطة، وأن تعمد جهة قضائية إلى ملاحقته وإطلاق سراح الموقوفين خلافاً للقانون». وقالت: «البيطار رجل يتبع لمؤسسة قضائية عليها أن تتخذ موقفاً حاسماً مما يجري، وأن تضع الأمور في نصابها حتى يستقيم مسار العدالة ويعرف اللبنانيون حقيقة ما حصل في 4 آب ومن سبب نكبتهم».

العدالة مطلبٌ ضائعٌ… ومصير التحقيق في عهدة القاضي رزق الله
طوني كرم/نداء الوطن/04 آب/2023
تحلّ الذكرى الثالثة لتفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020، على وقع إحتدام نزاعٍ خفيّ بين المؤتمنين على تحقيق العدالة في لبنان؛ أدّى إلى إقحام السلطة القضائية في خضمّ الشرخ السياسي ما بين مؤيّدٍ لمسار المحقّق العدلي طارق البيطار، ويحظى بدعم أهالي الضحايا، وبين رافضٍ له بعد تحويل المحقّق العدلي مدّعى عليه بجرم «إغتصاب السلطة»، خصوصاً بعدما وصل به الأمر إلى الإدعاء على المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات وآخرين.
بعد تعليق التحقيق في 23 كانون الأول 2021، وانتظارٍ دام ما يقارب 13 شهراً من دون تمكن القضاء من بتّ طلبات الردّ والمخاصمة المقامة في وجه المحقّق العدلي طارق البيطار، وبروز محاولات جمّة لتعيين قاضٍ رديف يأخذ على عاتقه بتّ طلبات إخلاء سبيل الموقوفين والمدّعى عليهم في الملف، إرتكز القاضي البيطار على اجتهادٍ قانوني أعدّه، خوّله الإعلان في 23 كانون الثاني الفائت، عن استئناف عمله وتخطّي التعثّر في التحقيق. وذلك، إستناداً إلى تحليل قانوني، قال فيه «إن القواعد التي تحكم عزل القضاة المنصوص عليها في المادة 357 من القانون 328 لا تنطبق على دوره، وإن محاولات عزله قد تكون انتهكت المبدأ الدستوري لفصل السلطات»، وفق ما ورد في تقريرٍ صادر عن «هيومن رايتس ووتش» و»منظمة العفو الدوليّة».
ولم يقف البيطار عند هذا الحدّ، بل عمد إلى الادّعاء على المدّعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، والمدير العام السابق للأمن العام عباس إبراهيم، والمدير العام لأمن الدولة طوني صليبا، وقائد الجيش السابق جان قهوجي، وضابطي المخابرات السابقين جودت عويدات وكميل ضاهر، ورئيس المجلس الأعلى للجمارك أسعد الطفيلي، وعضو المجلس غراسيا القزي، والقضاة: غسان خوري، وكارلا الشواح، وجاد معلوف؛ وتحديد مواعيد لمثولهم أمامه ضمن مهلة لا تتعدى الشهر الواحد. وبذلك انضمّت تلك الأسماء إلى القائمة السابقة للمدّعى عليهم، ومن بينهم رئيس مجلس الوزراء السابق حسان دياب، والوزراء السابقون نهاد المشنوق وعلي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس.
إلّا أنّ الردّ على البيطار لم يتأخّر، وأتى سريعاً فأمر القاضي عويدات بإطلاق جميع الموقوفين في قضيّة تفجير المرفأ، والادّعاء على المحقّق العدلي البيطار بارتكاب «جرائم عدة»، منها «إغتصاب السلطة»، ومنعه من السفر، وتحديد 26 كانون الثاني 2023 موعداً لاستجوابه. وذلك قبل أن تؤدي الإتصالات داخل مجلس القضاء الأعلى إلى وقف هذه الإجراءات مع تعليق كلا الطرفين مواعيد مثول المدعى عليهم أمام المرجع القضائي المعني في الادّعاء.
في غضون ذلك، ورغم رهان البعض على أنّ إطلاق الموقوفين يعدّ محاولة متقدّمة لإفراغ الملفّ من جديّته، ويبدّد الآمال المعقودة على إعادة استئناف التحقيق المحلي، إلى جانب المطالبات النيابيّة والشعبيّة الهادفة إلى تأمين التأييد الدولي عبر «مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة» من أجل إنشاء بعثة محايدة لتقصي الحقائق في تفجير مرفأ بيروت؛ فإنّ تكليف رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، قبل ما يقارب الشهرين، للرئيس الأول لمحكمة الاستئناف القاضي حبيب رزق الله، مهمة الإستماع إلى القاضي البيطار في الادّعاء المقام في وجهه من المدّعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، ترك الباب مشرعاً أمام عدة خيارات، تتمحور على تعزيز مشروعيّة الإجتهاد الذي إرتكز عليه المحقّق العدلي القاضي البيطار من أجل تخطي طلبات الردّ في حقه، أو إطلاق رصاصة الرحمة القاضية على الآمال في تحقيق العدالة، ومن خلالها القضاء على السلطة القضائيّة في لبنان.
3 احتمالات أمام القاضي رزق الله
وفي هذا السياق، يوضح المحامي نزار صاغيّة لـ»نداء الوطن»، أنّ تعيين محقّق للإستماع إلى القاضي البيطار من شأنه أن يحمي التحقيق، بعد أن كان المدّعي العام التمييزي يستطيع استكمال خطواته التصعيديّة بإصدار مذكرة جلب في حق المحقّق البيطار وصولاً إلى توقيفه. في حين أنّ القاضي رزق الله وبعد الاستماع إلى البيطار قد يعمد إلى إعادة إطلاق المسار القانوني للتحقيق، وتجنيبه المزيد من العراقيل.
ورغم استغراب أوساط قضائيّة سرعة تسريب خبر تعيين الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف للاستماع إلى البيطار، نظراً إلى السريّة المطلقة التي ترعى التحقيق مع القضاة، فقد كشفت أن بتّ الادّعاء على البيطار لا يتطلّب الكثير من الوقت، ويتمحور على 3 خيارات:
1- حفظ الشكوى المقامة في حق القاضي البيطار، واعتبار أنّ ما قام به لا يندرج في خانة «اغتصاب السلطة» واستغلال مركزه. وهذا ما يؤدّي حكماً إلى الإفراج عن التحقيق وصولاً إلى إصدار القرار الإتهامي بعد تخطي كل العراقيل وطلبات الردّ المقامة والتي قد يلجأ البعض إليها في وقت لاحق من أجل الإمعان في تعطيل التحقيق.
2- إعتبار القاضي رزق الله أنّ ما اجتهده البيطار لنفسه من أجل تخطي طلبات الردّ ووضع يده من جديد على الملف غير قانوني، وتجاوز للصلاحيات المنوطة به. وهذا ما يؤدي إلى بتّ الشكوى لمصلحة عويدات، واتهام البيطار بـ»اغتصاب السلطة»، وتالياً محاكمته.
3- ترجمة المساعي التوفيقيّة التي يدأب رئيس مجلس القضاء الأعلى في القيام بها للحدّ من الشرخ وضرب السلطة القضائية في قرار رزق الله، واعتبار الطرفين على بينّة من الحقيقة، وأن لا خلفيات جرميّة تستدعي محاكمة البيطار أو كسر عويدات. وهذا ما يكفل للبيطار العودة إلى استكمال التحقيق وإصدار قراره الإتهامي ووضع الكرة في ملعب النيابة العامة التمييزيّة لإبداء الرأي في حال ارتأت الاطّلاع على قرار البيطار، وسط ترجيحات تشي برفض استلامه من الأساس.
تخوّف من تحلّل ما تبقّى من السلطة القضائية
وإذ حلّت الذكرى الثانية لتفجير المرفأ على وقع مراقبة انهيار الأجزاء المتبقّية من أهراءات المرفأ، الشاهد الحيّ على جريمة العصر، فإن التخوّف من تحلّل ما تبقّى من سلطة قضائيّة في لبنان يطغى خلال إحياء الذكرى الثالثة لهذا التفجير، وسط تشديد الأهالي على وجوب العمل على إبطال مفاعيل الإنقلاب على المحقّق العدلي، والسعي إلى إنشاء لجنة تقصّي حقائق دولية.
وفي هذا السياق، كشف المحامي نزار صاغيّة أنّ تكليف القاضي رزق الله، التحقيق مع القاضي البيطار أزال الخطر عن إمكان توقيف الأخير، جرّاء تنفيذ مذكرة الجلب الصادرة عن القاضي عويدات في حقه. وأعاد التأكيد على إمكان أن يساهم قرار القاضي رزق الله في تحسين مشروعية الإجتهاد الجريء أي «اجتهاد الضرورة» الذي ارتكز عليه البيطار من أجل تخطي الثغر التي تعوق استكمال المسار القضائي للملف، وإثبات أنّ البيطار فعلاً صاحب سلطة ولا يعمد إلى اغتصابها. ويكرّس بذلك، تحريره من دعاوى الردّ والمخاصمة التي تحوّلت كيديّة، ويعطيه مشروعية تخوّله الوقوف في وجه هذه «الترسانة» أي المنظومة التي تعمد إلى مهاجمته.
وإلى جانب ترك صاغيّة الباب مشرعاً أمام إمكان الضغط من جديد على قاضي التحقيق رزق الله من أجل اتخاذ القرار الذي يضمن استكمال التحقيق، كما مناشدة البيطار استكمال عمله وإصدار تقريره الظني في حال عدم بتّ رزق الله الملف؛ رأى أن إمكان لجوء القاضي رزق الله إلى اتخاذ قرار سلبي في حق البيطار من شأنه أن يضع قضية التحقيق في تفجير المرفأ في مكان بالغ الحرج، وصعب للغاية، ويدلّ الى أنّ تعطيل الدعوى أصبح أبدياً والوصول إلى الحقيقة أصبح عبثياً… قبل أن يستطرد واضعاً إمكان اعتبار القاضي البيطار مغتصباً للسلطة، و»كأنّه إعلان من القضاء نفسه على إنهاء السلطة القضائية في لبنان، وإعطاء أحقيّة ووسيلة لتشريع الحواجز التي تساهم في نسف العدالة، أكان في هذه القضيّة أوما سينطبق لاحقاً على العديد من القضايا المشابهة». وعن المطالبة بتحقيق دولي، رأى صاغيّة أنّ هذا الخيار غير متاح جرّاء غياب الإرادة الدوليّة بذلك، ما دفع الأهالي إلى الإستعاضة عن المطالبة بتشكيل محكمة دوليّة، بإنشاء لجنة تقصي حقائق عبر مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، لتعمل تحت إشراف القاضي والمحاكم اللبنانيّة، إلا أنّ هذا الأمر أيضاً لا يزال بعيد المنال، وسط نقل تقرير صادر عن «هيومن رايتس ووتش» أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رفض هذا الخيار.
رالف طنوّس
إلى ذلك، وبعد إطلاق الموقوفين في الملف، ومحاولة ترهيب أهالي الشهداء عبر الشكاوى المقامة في حقهم، إعتبر المحامي رالف طنّوس أنه رغم التبعات الخطيرة للإعتداء على التحقيق، أو الإنقلاب عليه، إلّا أن إطلاق الموقوفين لا يعدّ مانعاً أمام استمرار التحقيق، لكون تحديد المسؤوليات غير مرتبط حصراً بالمشتبه فيهم أو الموقوفين السابقين.
ولفت طنّوس إلى وجوب أن يعمد مجلس القضاء الأعلى إلى انتداب قضاة لرئاسة محكمة التمييز تمهيداً لبتّ هيئتها العامة طلبات الردّ، وعدم انتظار مآل الشكوى المرفوعة في حق القاضي البيطار. وذلك وسط تشديده على محاولات الضغط على أهالي الشهداء التي لم تردعهم عن المطالبة بإحقاق العدالة.
المدّعى عليهم: لإعادة تصويب المسار القضائي
وفي سياق متصل، ومع التخبّط القضائي الطاغي على هذا الملفّ، اعتبرت أوساط المدّعى عليهم في هذه القضيّة أن تعطيل المسار القضائي فاقم الضرر اللاحق بهم، وسط تشديدهم على اتّباع الأطر القانونية التي يكفلها القانون من أجل تبيان براءتهم والدفاع عنهم منذ اليوم الأول.
ورغم وضع طلبات الردّ في خانة التعطيل الممنهج للمسار القضائي، رأت الأوساط نفسها أنّ القضاء لم يتح لهم حتى الآن حق الدفاع عن الإدعاءات المساقة في حقهم، تحديداً وأنّ الأصول التي اتبعها القاضي البيطار في حقهم تعدّ مخالفة للقانون، جرّاء إمعانه في ردّ الطلبات شكلاً دون إفساح المجال أمام البحث في مضمون تلك الطلبات، قبل رمي المسؤوليات من جديد ما بين محكمتي الاستئناف والتمييز. ووسط تأكيدهم على الشوائب التي تعتري المسار القانوني لمقاربة هذا الملف، ومنها وضع اجتهادات البيطار الخاطئة في خانة التزوير الجنائي، شدّدت الأوساط نفسها على وجوب استكمال التحقيق وتصويب مساره الذي دفع بعض أهالي الضحايا، كما الموقوفين والمدّعى عليهم إلى الإعتراض عليه قبل أن يتحوّل هذا الإعتراض إلى مشكلة داخل السلطة القضائية نفسها.
وحتى جلاء الصورة النهائيّة للتخبّط السياسي القضائي المسيطر على هذا الملف، تبقى المطالبة بكشف الحقيقة وإحقاق العدالة مطلباً مشتركاً بين أهالي الضحايا، كما بين المشتبه في ضلوعهم في هذه القضيّة، التي تتطلب مواكبةً من الرأي العام والدفع باتجاه إعلاء صوت الحق والعدالة ولو لمرة واحدة في تاريخ لبنان.

للقاء أحبائهم… أهالي ضحايا المرفأ “يطلبون الموت”
بولا اسطيح/الشرق الأوسط/04 آب/2023
قبل 3 أشهر فقدت ماريا زيتون (38 عاماً)، ابنة منطقة الأشرفية في العاصمة بيروت، والدها إثر أزمة قلبية. عادت من عملها لتجده ملقى على الأرض. نادته فوجدته ميتاً. ماريا كانت قد بدأت تتعايش مع فكرة الموت الذي هزها بقوة في أغسطس (آب) 2020 حين انهار منزلهم المتاخم لمؤسسة كهرباء لبنان والمواجه للمرفأ على رؤوسهم؛ ما أدى إلى وفاة والدتها التي كان تقف قربها، فوراً. هي أصيبت إصابات بالغة ووالدها فقد إحدى عينيه.
خضعت الصبية لعلاج جسدي ونفسي طويل. وهي تقرّ أنها لم تشف بعد خاصة أن جرحها الذي لم يلتئم بعد فُتح من جديد مع موت والدها وتحولها يتيمة الأم والأب ووحيدة من دون أشقاء. هي تعيش اليوم في منزل والديها الذي أعادت إحدى الجمعيات ترميم نصفه. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «لا أحتاج أصلاً إلى القسم المدمر. فالوحدة قاتلة وأنا بت أعدّ هذا المنزل بمثابة مقبرة. ففيه ماتت أمي وأبي».
ماريا كما كل أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت لا تزال تعول على أن تتحقق العدالة في يوم من الأيام، قائلة: «صحيح أن تحقيق العدالة لا يعيد الميت إلى الحياة، لكنه على الأقل يعطي الميت حقه كما يعطينا نحن كضحايا أصبنا وعانينا ما عانيناه حقنا». وتضيف: «أتمنى شيئين في هذه الحياة. إما أن أذهب للقاء أمي وأبي مجدداً لأن لا شيء أعيش لأجله اليوم أو أن أتمكن من تأسيس عائلة عسى ذلك يخفف قليلاً من أوجاعي».
أوجاع ماريا تماماً كأوجاع ميراي خوري والدة الشاب الضحية إلياس خوري والذي توفي عن عمر ناهز الـ17 عاماً نتيجة إصابات بالغة تعرّض لها جراء انفجار المرفأ أثناء تواجده في غرفته. تقول خوري لـ«الشرق الأوسط»: «الوجع لا يخف مع مرور السنوات. هو إما يبقى كما هو أو يزيد في بعض الأحيان». تخون ميراي دموعها قبل أن تضيف بغصة: «كلما فكرت أنه في مثل هذا اليوم كان ليتخرج مع أصدقائه أو أن في هذا التاريخ ذكرى مولده، وغيرها كثير من المناسبات التي كان يفترض أن تكون مناسبات سعيدة، يعود الجرح لينزف بقوة والوجع ليشتد».
وتشير خوري إلى أن «الشعور بالوجع لا يوازيه إلا الشعور بالظلم نتيجة عدم تحقيق العدالة حتى اليوم»، قائلة: «أنا أصلاً أعيش على هذا الأمل. وإذا كنت أتنفس وأقف على قدمي لضمان تحقيق العدالة لابني». وتُعدّ خوري من أبرز أهالي الضحايا الذين يتابعون من كثب الملف القضائي داخل لبنان وخارجه. وهي ترى أن أبرز ما أنجزه الأهالي هو «منع تحويل الملف إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، كما منع تعيين قاضٍ رديف لقاضي التحقيق العدلي (الموقوف عن عمله بسبب دعاوى رفعها سياسيون ولم يتم البت فيها بسبب تعطيل المناقلات القضائية)، لافتة إلى أن «المجتمع الدولي بات أقرب ليقتنع بأن لا أمل بالتحقيق المحلي، وأن المطلوب إطلاق تحقيق دولي بهذه الجريمة». وتضيف: «المهم أن يدرك الشعب اللبناني أن هذه القضية ليست قضية 200 عائلة فقط. نحن حياتنا انتهت. عدم تحقيق العدالة اليوم يعني أنه لن يكون هناك أي أمل ببناء بلد حقيقي. فهل هذا ما يريده اللبنانيون؟».
تماماً كجروح الأهالي التي لم تشف، لا يزال مرفأ بيروت يحمل تشوه الرابع من أغسطس. الإهراءات المشلّعة والتي انهار قسم منها عام 2022 تذكّر يومياً آلاف من يسلكون الأوتوستراد المواجه للمرفأ بحجم الكارثة التي ألمّت بالعاصمة قبل 3 سنوات. أما من يقترب أكثر من موقع المرفأ أو من تسنح له فرصة التنقل داخله فقد يصدمه بعض الدخان المتصاعد قرب مبنى الإهراءات، ليتبين أنه نتيجة تخمر القمح المتناثر بسبب درجات الحرارة المرتفعة. كذلك تستوقفه سيارة لدفن الموتى محطمة ومركونة مع مئات السيارات التي تحولت لـ«الكسر». كما أن كميات هائلة من الحطام والردميات تم تجميعها في القسم المتاخم للإهراءات.
وقد طلب وزير الأشغال في حكومة تصريف الأعمال علي حمية من إدارة المرفأ في 11 يوليو (تموز) الماضي إعداد دفاتر الشروط اللازمة لملفات التلزيم الخاصة بأعمال التأهيل والصيانة لبعض مرافق مرفأ بيروت على أساس دراسات تفصيلية وفقاً لأحكام قانون الشراء العام، وذلك ضمن خطة إعادة إعمار المرفأ. على أن تلحظ أعمال: تعزيل وصيانة الأحواض، صيانة الأرصفة، وإزالة الردميات. كما طلب إعداد دفتر شروط لزوم تلزيم مزايدة عمومية لتأهيل وتشغيل وإدارة محطة المسافرين. ويقول حمية لـ«الشرق الأوسط»: «بهذا يمكن القول إن عملية إعادة الإعمار انطلقت فعلياً وبأن مرفأ بيروت يعيد إعمار نفسه بنفسه بعدما ذهبت كل الوعود الدولية بالمساعدة بإعادة الإعمار أدراج الرياح». ويرد ما قد يعدّه البعض تأخيراً بهذه العملية للانكباب على «زيادة إيرادات المرفأ بشكل يمكّن من إعادة الإعمار وبالوقت نفسه من تأمين مداخيل لخزينة الدولة لتأمين مصاريف القطاع العام».
ووفق أحدث الأرقام، ارتفعت إيرادات مرفأ بيروت في العامين الماضيين بشكل كبير مقارنة بالأعوام التي تلت الانفجار. ففي حين كانت الإيرادات نحو 181 مليون دولار عام 2019، انخفضت بعيد الانفجار لتبلغ نحو 42 مليون دولار عام 2020 و15 مليون دولار عام 2021 قبل أن تعاود الارتفاع لتبلغ نحو 69 مليوناً عام 2022 و64 مليونا خلال الأشهر الـ6 الأولى من عام 2023.
هذه الأرقام تعكسها الحركة الكبيرة في محطة الحاويات التي يديرها ويشغّلها القطاع الخاص لمدة محددة، كما الأشغال في قسم الـ«كارغو»، حيث يتم تحميل وتفريغ الأخشاب والحديد وكل المواد التي لا تحتاج إلى أن توضع في صناديق كبيرة. ولعل أبرز ما يتوجب التوقف عنده في مجال النهضة التي يشهدها المرفأ هي حركة المسافنة التي تعدّ بحسب حمية، «معياراً أساسياً لثقة الشركات العالمية بالمرفأ»، فبعد أن انخفضت في الأعوام الماضية عادت لترتفع بشكل كبير بالعام الحالي لتبلغ 86.12 في المائة.