الأب غطاس خوري: فضائل ما شربل

342

فضائل ما شربل
الأب غطاس خوري/18 تموز/2019

القديس هو امتياز له صفة رسمية تعطيه الكنيسة للذين رقدوا وهم يمتازون بالفضائل ببطولتهم وشجاعتهم على تحمل المشقات من اجل الإنجيل.
في هذا الوقت أريد أن أسلط الأضواء على فضائل ما شربل، هذا الراهب الذين يمتاز بكثرة عجائبه وهو الأكثر شعبية حتى هذه الساعة.
هذه الفضائل تتميز بأنها ضرورية للوصول إلى استقرار في المجتمع الذي يعاني من إقصاء ما هو بعيدة عن الراحة والسعادة الذين يطمح إليهما الإنسان المعاصر. فنلاحظ أفول شمس الفضائل التي تحمل التضحية والصبر والعفة.
فالذي كان فيما مضى من الكماليات أصبح الآن من الضروريات.
يظهر شربل في وسط هذه الفوضى ليقل لنا المسيح هو هو أمس واليوم والى الأبد.
فهو ظهر في سماء لبنان وفي قبة كل سماء ليذكرنا انه جاء ليعزي المخاترين الذين صمدوا بوجه القتل والجوع والإرهاب.
جاء ليكشف عن حقيقة هوية هذا الشرق المنكوب.
انطلاقته الأساسية جاءت من بيئة سليمة أتقنت فيها الفضائل من قرية كان همها أن تحتفل بحضور الرب في وسط شعبه بالرغم من قسوة الطبيعة والحكام لم يستطيعوا القضاء على جذوة الحرية المتأصلة فيه.
المختارون يحتاجون دائما إلى عون الرب ولولا قصرت تلك الأيام لضعف المختارون.
لكن المختارون استطاعوا أن يصمدوا في بلاد قلت مواردها وكثرت ضرائبها.
وهم دائما يدفعون الضريبة وهم صاغرون.
زاد على ذلك النكبات المتتالية التي حلت بلبنان من جراء تنازع القوى المحلية والإقليمية.
المسيحيون هم دوما الضحية وهذه المرة من دمهم.
انطون زعرور مات وهو عائد من السخرة وترك أرملة وخمسة أولاد.
لكن اليتم لم يقض على فضائل تلك العائلة فزادت إيماناً وتقوى ويقال الكثير عن تلك العائلة الفاضلة.
وفي السنة التي دخل فيها القديس شربل الابتداء في الرهبانية المارونية انتقلت وردة بالوفاة قبيل عرسها.
جاءت الأم إلى الدير تريد أن تأخذه إلى البيت.
خاب أملها لأنه أصر على البقاء في بيته الجديد مع الرهبان الذين لم يكونوا كما يظن البعض لان من فيهم متلفلف بعباءة دون الالتزام القلبي.
يشبه إلى حد ما كانت تواجه تريزا الافيلية في الحياة الديرية.
لكن من أين استمد يوسف هذا الإصرار على البقاء في المجتمع الجديد؟
لقد جاء ليكمل مسيرته التي بداءت في بقاعكفرا فأحب أن يكون متفرغا كليا للصلاة لا تلهوه عائلة ولا متطلبات الحياة ولا مجتمع ضيعته بالرغم أن أمور القداسة متوفرة في جو عابق بالقداسة على مدار السنة.
أراد أن ينكد تحت نير طاعته في رهبانية تاقت إلى الإصلاح لكنها أصيبت بنكبات بسب الأحوال السائدة ليس كل الذين دعوا إلى الوليمة مهيئون إنما هناك من تلكاء فخسر امتيازه.
كان يوسف مخلوف متطرفا يمتاز عن أقرانه في هذا التطرف نظرا للمناخ القاسي البارد أبدا في الشتاء من تشرين الأول حتى نيسان حولي سبعة أشهر أو أكثر.
فلا يستطع أن يصمد أمام الطبيعة من كان لين العود.
حتى أن الكهنة يضعون حرما على من تسوله نفسه الاجتياز المعابر نحو بلاد بعلبك.
هكذا أضافت الطبيعة إليه النزعة نحو الراديكالية في كل شيء وهذه ميزة المسيح الذي كان متطرفا وهو الذي قال: “من يضع يده على المحراث ويلتفت إلى الوراء فلا يستحقني”.
أو، “إذا أردت أن تكون كاملا اترك كل شي وتبعني”.
أو، “دع الموتى يدفنون موتاهم”.
كذلك كان يميل بطبعه المتطرف إلى بولس الذي رأى كل شيء في المسيح. أن أحيا فللمسيح. “حياتي هي المسيح والموت ربح لي.”
وكذلك في تواضعه ينحو نحو سمعان بطرس أمام عظمة وقداسة يسوع ابن الإنسان عندما شاهد الصيد العجيب فاندهش قائلا : “ابتعد عني يا ارب فأنني رجل خاطئ”.
أو كما قالت السامرية وهي تتسأل العلك أعظم من أبينا يعقوب :”اانت نجم يعقوب”. (رتبة تبريك الماء) .
إن البيئة المارونية التي ترعرع فيها يوسف مخلوف طبعت حياته وقلبه ليصير إنسانا متطلبا مفتشا عن الذي قال: “أنا هو الطريق والحق والحياة”.
لم يأبه يوسف مخلوف لوعورة الطريق، ولا للذين يعرقلون مسيرته فهو كالرسول بولس يقتحم القلاع والحصون لان قوة المسيح تكمن في الداخل.
هل كان يعرف ما في طريق الحياة الرهبانية من صعوبات ووعورة الطريق؟
وهل كان يعرف انه سيفشل في تجربته الأولى في ميفوق ليعود إلى عنايا ثانية ليسير على طريق الجلجلة حيث فتر المنضوون تحت لواء الرهبانية بسبب الصعوبات والفوضى التي خلقتها الأحوال المتردية وحالة البلبلة التي ارتدت سلبا على الرهبانية في معظم الأديار في زمن نعمة الله الحردني الذي التزم حياة الديرية فعاش جلجلته بين الإخوة الفاترين الممتعضين من الحالة المتردية.
لقد تذكر يوسف ما تردد على مسمعه بان التلاميذ هم بين ذئاب لا يدرون رسالة السماء.
وعندما يكثر في الدير من يريد إرضاء أهل الأرض تنقسم الجماعة فيسلم الأخ أخاه ومن يصبر إلى المنتهى يخلص.
دخل الشيطان من الحالة المتردية فانسحب الروح من الجماعة الديرية فسيطرت الفوضى فيتألم المختارون.
هذا ما عاشه القديس شربل، وهذا ما واجهه طيلة حياته الرهبانية.
بقي صامدا هادئا غير مبال بما يحدث حوليه لأنه التصق بالمسيح وتطلع إليه بكل الأوقات.
فهو المرساة في بحر الظلمات حيث يحض كاتب الرسالة إلى العبرانيين قائلا: فهو كالمرساة، أي الثقة الكاملة بالمسيح.
نحن نعلم أن الإيمان يبدأ بالسماع أي سماع كلمة الله.
لا شك أن البيئة الحاضنة زرعت في قلب يوسف حبة الخردل فصارت نبتة وانتقلت إلى الحياة الديرية لتصبح وارفة الظلال نظرا لما كان يعتني بسماع كلمة الحياة التي تأتيه من الصلاة الخورسية التي أتقنها منذ صغره وتوسعت واكتملت في حياته الرهبانية.
من قراءته المتواصلة لكتاب الاقتداء بالمسيح ويوحنا السلمي وبستان الرهبان وميزان الزمان وكتاب السنكسار وغيره من الكتب الذي كان يملئ الفراغ .
بالرغم من اختيار التفرغ للدرس التحضير للكهنوت بقي القديس شربل يتصرف كأخ عامل في الدير.
كان يعمل بحماس ابن البيت الذي يريد أن يساهم في تحسين أحوال الدير المادية اتقاء للعوز.
لكن كان يؤمر بالطاعة لا من الرئيس إنما من الإخوة وحتى الإجراء.
لقد سلم الأب شربل طاعته للبشر.
من يتطلع إلى هذا التصرف يستخف بصاحبه لأنه صار في أخر الكل.
جاء شربل إلى الحياة الرهبنية وألزم نفسه بنير الطاعة مع العلم أن المسيح حررنا من نير العبودية.
هذا الالتزام هو من باب المحبة وليس من باب العبودية.
شربل صار أسير الإنجيل كما كان بولس أسيره.
بولس كان مقيدا لكن كلمة الله لا تقيد.
انه أسير يسوع المسيح الذي حرره من الخطيئة والناموس.
لقد قاد الروح شربل ليتقيد ويكون أسير طاعة المسير أسير حبه ليستيقظ المتمردون والذين استعبدوا من بعد ما حررهم الابن. المسيح أخلى ذاته وأطاع الأب.
من خلال طاعته صنع لنا خلاصا.
ها هو شربل يعود بطاعته ليذكرنا بطاعة المسيح.
فهو من الخمرة الجيدة من العيار المرتفع لا يستطيع آهل الجسد شربها لأنهم لا يستطيعون.
في وسط الفوضى يعيدنا شربل إلى طاعة الإنجيل ويذكرنا أن نير الرب هين وحمله خفيف لأنه اخذ عنا كل أعباء الخطيئة ومستلزمات الناموس.
هذا لا يدركه الجسديون أي الذين يلبون حاجات الجسد كما يصفها بولس في رسالته إلى أهل غلاطية.
أن تلبيات رغبات الجسد لا ترتد سلبا على الإنسان، إنما تقصيه من طريق المعرفة الحقيقية وعمل الله الخلاصي.
شربل رغب بان يصغي إلى صوت المسيح الذي قال من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني.
من هنا نعلم كيف لم يلب صوت أمه التي تنتظره لأنه انتقل إلى البيت الجديد إلى الإخوة الذين وهبوا له.
مع العلم انه لاقى الفتنة بدل المحبة ولم يهنئ له عيش.
بالعكس كانوا صليبه، لكن شربل لم يبادلهم الشعور هذا وكان يحبهم من أعماق قلبه.
يوم كلف بالسهر على احد الرهبان استيقظ على البلغم على جسمه.
فلم يأبه بما حصل له بل أكمل خدمته بكل محبة. صار للمسيح ليحتمل المشقات والصعوبات ويحمل الصليب محبة بالمسيح.
الطاعة هي طاعة المحبة كما أطاع المسيح.
لان حبة القمح إن لم تمت تبق مفردة وان ماتت تأتي بثمار كثيرة.
كانت حياته خفية كحياة ابن الإنسان وكعبد يهوى الذي “لا يصيح ولا يسمع صوته في الشوارع” انتقل في ليلة الميلاد بكل تواضع كما حدث لابن الإنسان.
الفقر
الفقر يندرج من ضمن نطاق التفرغ وانه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
سيدي أعطينا من هذا الخبز لا نجوع ومن هذا الماء لكي لا نعطش.
لكن الله في الكتاب يملىء المستار الخوابي لصناعة الخمر وعندما اجترح الأعجوبة ليست للطعام الضروري إنما حول الماء خمرا لتعيد الناس.
أما في ساعات الغضب يهلكون جوعا لأنهم عصوا شريعة الرب.
البحبوحة والغنى تعمي البصائر. خ
طر الغنى هو خطر على القيم والأخلاق.
يقول الكتاب، لما شبعوا بدؤوا يزنون، أي نسيوا شريعة الرب.
كثيرون من أصحاب الثروات انضموا إلى الكنيسة وساهموا بأموالهم في انتشار الإنجيل وهذا ما يحدث غالبا.
أما الفقر أو النذر الرهباني فهو للتطلع إلى فوق، إلى غنى سر المسيح الذي لا يستقصى.
فإذا عدنا إلى الحياة العائلية في بقاع كفرا فان العائلة عندها إمكانيات العيش كما يقال فلاح مكفي.
فان ال زعرور يملكون عشر أراضي بقاع كفرا ومن حيث العدد لم تتكاثر فبالتالي لم تتقسم الحصة إلى حصص كثيرة كما يحدث عادة.
فان العائلة منهمكة في الزراعة والفلاحة والحطب وتربية دود القز في المكان الذي يدعى خص عين الحور.
فعائلة يوسف زعرور مخلوف كانت مكتفية وهكذا معظم السكان في تلك الحقبة.
كان فقر شربل اختياري يدخل في نطاق الإيمان وفي طلب ملكوت الله.
والملفت في حياة هذا الراهب انه ما طلب شيئا ولا تسلط على شي وكان لزم نفسه بوجبة واحدة خفيفة طوال النهار.
أما لباسه فكان يمتاز بالفقر.. لا ثوب جديد ولا عباية ولا جوارب ولا شابه ذلك.
أما فراشه فكان محشوا بأوراق الشجر مغطى بلباس.
أما مخدته فكانت قطعة حطب مغطاة بخرقة قديمة.
سؤال يطرح لما هذا التطرف، كما يطرح السؤال كيف وصل يسوع إلى الانسحاق والإذلال والإرهاب؟ لا نعرف.
لكن شربل شاهد أن كل شيء يشيخ ويموت، أما الله فهو هو أمس واليوم والى الأبد.
القديس شربل هو شاهد على زوال هذا العالم لأنه لم يقتني شي منه واكتفى بما هو ضروري.
لان هذا العالم لا يقف أمام الله .
شربل كان يشهد لحضور ملكوت الله بقوة من خلال صلاته وصمته وحبه للصمت ليتمكن من سماع كلمة الله.
العفة
بولس اختار شريعة الله وكتابه على الزواج.
كان يشتعل غيرة كايليا النبي فاستعمل أسلوبه يوم اضطهد أتباع يسوع الناصري إلى أن وصل إلى الاختبار فعرف أن الناصري هو فداء ورجاء إسرائيل فصارت حياته المسيح.
كذلك شربل منذ الطفولة أدرك أن يسوع يجذب القلوب وان قلب شربل صار مثل قلبه بعدما تمرس بالتقوى فسار على طريقه ليشق طريقا شائكة صعبة وهي حياة الرهبانية الأصيلة.
اخذ شربل طريق التفرغ الكلي ليحمل جراحات الحبيب وليكون شاهد في محبته كما كان شاهدا بتواضعه وطاعته.
لم يخضع قلبه لعهد الزواج إنما أراد أن يكون شاهد للمجد الأتي.
هذه المشورات الإنجيلية هي فضائل مسيحية يعيشها الرهبان ليكونوا شهودا لخلاص يسوع المسيح غايتها الملكوت الأتي.
لذلك لا نستغرب ما يحدث أمام قبر شربل أو في مكان تكريمه أن تحصل عجائب وآيات تذكرنا بان الملكوت حاضر.
الصمت
ما فائدة الصمت في الحياة إذا كان الكلام من صميم حياة الإنسان.
أما الله فتكلم مرة واحدة وهذه الكلمة أزلية وصارت بشرا سمعناها ورأيناه.
لكنه يتكلم في صمت الليل للإنسان حين يصمت.
انه يذكر الإنسان بكلماته التي نطق بها فصارت حياة للإنسان.
أما شربل فصمت ليسمع صوته العذب.. أنت ابني الحبيب الذي به سررت.
تكلم يوم صمت ايليا يوم هدأت ثورة الغضب وخلد إلى السكون حيث ظهر الرب.
هذا الصمت يساعد على الكلام في وسط السكون: “تكلم يا رب فان عبدك يسمع”.
لقد سمعه في وسط ادلهمام الليل.
في وسط هذا السكون يتكلم القلب.
لم يسمع صوت الرب ايليا لما غيرة الرب الجنود أكلته.
رآه اشعيا في وسط لهيب النار في الهيكل.
أما يسوع أجاب الأب في مكان قفر بعيد غن الناس لا يرى سوى برية جرداء وسماء صافية، هناك يحلو لله الكلام وكذلك الإنسان يستطيع السماع.
هناك يتكلم الله إلى القلب ليسمع الإنسان حلاوة كلمة الله.