المسيحية ضمانة ديمقراطية لبنانية
أحمد جابر/جنوبية/الأحد 03/07/2016
الهجوم الانتحاري الذي تعرضت له بلدة القاع البقاعية، ذهب أصحابه بعيداً في أهدافهم. فلقد اختيرت البلدة كخاصرة لبنانية رخوة، بسبب من انتماء أهلها الطائفي، وليس بسبب من سهولة التسلل العسكري إليها، والضرب فيها والانسحاب الآمن منها. لقد وضع المخطط السياسي الإرهابي في ذهنه توجيه ضربة إلى فحوى الصيغة اللبنانية التي ما زالت تقوم على الشراكة المعلنة، على الرغم من الأعطاب الواقعية التي أصابت هذه الشراكة. وأراد المخطِّط ذاته أن يعلن بالتفجير القاتل أن العيش اللبناني المشترك الذي عرفه اللبنانيون، قد نالت منه عوامل تنافر كثيرة، منها الخارجي الذي يشكل العمل الإرهابي الآتي من خلف الحدود، أحد عناصره الأشد خطورة. بعيداً عن صورة الحدث الدامي على الأرض، يحضر في الذهن أن الخصوصية اللبنانية تتميز بالثقل الوطني المسيحي فيها، وأن هذا الأخير طبع لبنان الكيان بطابعه، وأن ما عرفه اللبنانيون من اتصال بالغرب والتطورات الحديثة فيه، يعود الجهد الأول المبذول في مضماره إلى المسيحيين، وأن نسخة الإتصال اللبناني بالعرب والعروبة، ذات النكهة الخاصة بين أقرانها، اشترك في صناعتها المسيحيون أولاً، من خلال روادهم القوميين العرب الأوائل، ومن خلال مفكريهم النهضويين، ومن خلال حكمة رجال “الكيانية اللبنانية” الذين استطاعوا مع ما شابههم من المسلمين العرب واللبنانيين، أن يقيموا الكيان الحالي الذي صار عربياً وليس ذا وجه عربي، وحاول قدر استطاعته، أن لا يكون “للاستعمار ممراً ولا مستقرا”.
لبنان الذي ظلَّ وطناً للمسيحيين واستمر، خالف أشقاءه العرب المسلمين الذين بنوا أنظمة استبدادية استمر أكثرها إلى الأمس، محمَّلاً بشعارية العروبة وبادعاءات القومية. كان لبنان ذا تشكيلة طائفية معلنة وما زال، ولم تكن البلاد العربية الأخرى قومية ولا تحررية، وما زالت. استطاع لبنان بتوازناته التي كانت المسيحية السياسية تحتل مركزها، أن يدير اختلافه وائتلافه، على قواعد عامة منعت أياً من مكوناته الذهاب إلى حد الإطاحة بالكيان، وباشرت البلاد العربية المنكوبة اليوم بحروبها الأهلية، رحلة تفكيك كياناتها منذ أن خرج إلى العلن الخلاف على السلطة، ورفض الصيغ السلطوية التي تحكّم بموجبها سلاطين القومية برقاب العباد وبخيرات البلاد. لا يجب أن يغيب من البال، لدى نقاش النسخ السلطوية العربية، أن الأكثرية الإسلامية التي حكمت عدداً من البلاد قد حصدت الفشل والخيبة من تجاربها. كذلك يجب القول أن الذين كانوا في سدَّة الحكم كانوا “مسلمين سياسيين” بعباءات قومية وتحررية، وأن الذي انتصر لديهم، عندما واجه الخطر سلطانهم، هو النزوع القبلي العشائري، الذي توسّل مقولات إسلامية عديدة لتبرير قمعه واضطهاده، ومن ثم لتبرير ديمومة سلطانه. كثيرة هي الشواهد التي تجعل من الصعوبة بمكان إقامة الفصل بين الحاكم المسلم وإسلامه. هذه الصعوبة تتجلى اليوم بصورة فاقعة مع التنظيمات الإرهابية، التي تعلن أنها تنطق باسم “الإسلام”، الذي يصير فقط إسلامها هي حصراً، وتجهر بأهدافها التي منتهاها إقامة “الخلافة الإسلامية”، التي تفصّل أحكامها على قياس مناصريها الذين انسحبوا من العصر، ووفقاً لذهنياتهم التي تطوّع كل نص مقدس لتوليفاتها وتعريفاتها المريضة.
بناءً عليه، ينكشف المشهد عن إقصاء أكثري مسلم، يتابع سيرة الإقصاء الذي مارسه مسلمون سابقون، وما يختلف بين حاكم سابق وساعٍ إلى الحكم اللاحق، هو أسلوب الإقصاء وطريقة ممارسته. لقد مارست الأنظمة الاستبدادية جرائمها في السر عندما كانت في جنّة حكمها، ومارسته علناً عندما دق على أبواب جنتها شياطين طامحون، هؤلاء الشياطين يتحلون بميزة الجهر، لأن ميزانهم لا يقول بتقية التعددية، ولا بكذبة اللحمة القومية، ولا بخديعة التصدي لقوى النهب والاستغلال. في هذا السياق الفاشل الذي يتحمل المسؤولية الأولى عنه حكام مسلمون، يصير الوضع اللبناني نشازاً تقتضي ضرورات “المسلمين الجدد” إزاحته. فالتعددية اللبنانية، والتوافقية والتعايش والتساكن، والاحترام المتبادل بين اللبنانيين… كل ذلك من الأمور المرفوضة في “شرع” الاستبداد الذي خرج من القمقم بلبوس ديني، وبأهداف محض دنيوية. ينبغي التذكير، بأن المسيحية اللبنانية لها سيرتها الخاصة التي تختلف عن سِيرَ مثيلاتها المشرقيات. فهي كيانية طائفية مؤسسة للكيان، ولدى الدراسة المدققة يجب التوقف أمام كل بذور الكيانية الوطنية في كل كينونة طائفية. نستطيع القول، ودائماً في السياق اللبناني، أن المسيحية اللبنانية تمتلك من الضرورات الوطنية ما يجعلها تمتنع عن ركوب مركب المحظورات في الراهن، وأنها لا تحمل عصا ترحيل البلاد إلى خارج البلاد، هذه “الفعلة” التي لا يجد غضاضة في ارتكابها كثيرون. في القاع استهدفت اللبنانية أيضاً، هذه اللبنانية يجب أن يدافع الحريصون على أن يبقى لهم وطن ولبنانية.