إياد أبو شقرا: وصفة لفيدرالية الروسية ـ الأميركية/أكرم البني: وقف إطلاق النار بين الخيبة والأمل/خالد الدخيل: إيران لا تصدّر الثورة

237

وصفة «الفيدرالية» الروسية ـ الأميركية
إياد أبو شقرا /الشرق الأوسط/06 آذار/16

في عهد جورج بوش الابن شاع وذاع وملأ الأسماع مصطلح «الشرق الأوسط الجديد». ويومذاك، تحديدًا عام 2006 كان من طرحه وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس. وتزامن هذا الطرح مع مطالعة لوران موراوييك الباحث الفرنسي اليميني حول شبه الجزيرة العربية، ونشر خريطة «تخيّلية» للفتنانت كولونيل الأميركي رالف بيترز لشرق أوسط ذي كيانات وحدود جديدة من باكستان إلى البحر المتوسط. ذلك «الشرق الأوسط الكبير» استغلته القوى التي تعتبر نفسها طليعة «المقاومة» و«الممانعة» والتصدّي للمخطّطات الأميركية، وأخذت تستخدمه سلاحًا سياسيًا – وفي بعض الحالات، أمنيًا – في محاربة خصومها المحليين والإقليميين. لكن المفارقة هنا، أن هؤلاء الخصوم ما كانوا مستفيدين من الشكل المتداول – عن صواب أو خطأ – لهذا الترتيب الجيوسياسي الإقليمي. بل على العكس، كانت الدول العربية المعتدلة المتضرر الأكبر منه، بينما كانت إيران الرابح الأساسي، لا سيما، بعدما سلّمها الغزو الأميركي للعراق عام 2003 إحدى أهم دول المنطقة وأغناها على طبق من فضة. أكثر من هذا، كانت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الذريعة المُعلنة لـ«المحافظين الجدد»، الذين أداروا السياسة الأميركية في عهد بوش الابن، عندما اتخذوا قرار غزو العراق، مع أن من يذهب أبعد من ظاهر الأمور يجد ما يلي:
أولاً، أن مخطّط ضرب العراق وإطاحة صدام حسين سبق زمنيًا هجمات 11 سبتمبر، ولقد أشارت إلى ذلك صراحة وثيقة «المحافظين الجدد» لبنيامين نتنياهو عام 1996 تحت عنوان «قطع كامل: استراتيجية جديدة لحماية الدولة»
A Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm. ثانيًا، بعدما ترسّخ لسنوات كثيرة الانطباع أن تنظيم «القاعدة» يمثل التطرّف السنّي «الذي يتعذّر التحاور معه»، مقارنة مع «مرونة» التطرّف الشيعي ممثلاً بملالي طهران، الذين عقدوا صفقات كثيرة مع الغرب، تبيّن أن تنظيم «القاعدة» – بالذات من وثائق أسامة بن لادن وأيمن الظواهري – لم يعمل في تاريخه على محاربة ملالي طهران.. ولا هم كانوا ضده!
ثالثًا، على الرغم من لهجة «قتال التكفيريين» والتهجّم على عدد من مذاهب أهل السنّة والجماعة، ورميها بالتطرّف وتغذية الإرهاب راهنًا، فإن إيران – ومعها أدواتها في المنطقة – اصطنعت واحتضنت وموّلت ورعت، لسنوات كثيرة، زمرًا وشراذم سنّية متطرّفة في سوريا ولبنان وفلسطين وغيرها، وبعضها ما زال موجودًا وعلى ولائه لأسياده في طهران والضاحية الجنوبية لبيروت! رابعًا، عندما تغيّر الخطّ السياسي الحزبي في البيت الأبيض اختارت إدارة باراك أوباما الليبرالية – المناوئة للمحافظين القدامى و«الجدد» – تجاهل معظم المعادلات الاستراتيجية السابقة في الشرق الأوسط، وانقلبت على كل تحالفات واشنطن الإقليمية، ولكن من دون الابتعاد فعليًا عن «سيناريو» التقسيم.. الذي انطوى عليه مفهوم «الشرق الأوسط الجديد» وخرائطه المتداولة أيام بوش الابن.
كثرة من الكتّاب والمحلّلين ناقشوا في الفترة الأخيرة اتجاه كل من واشنطن وموسكو نحو صيغة «فيدرالية» في سوريا بناءً على تصريحين؛ أحدهما كلام وزير الخارجية الأميركي جون كيري عن «الخطة ب»، والثاني تطرّق نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف مباشرة إلى «جمهورية سورية فيدرالية». ومعلوم أن عملية «فَدرلة» العراق أضحت مسألة محسومة. من حيث المبدأ ليس هناك ما يعيب الخيار «الفيدرالي» كنظام سياسي لبلدان تعدّدية، بل هو الخيار الأمثل، بدليل أن بعض أرقى دول العالم وأقواها وأكبرها وأغناها دول «فيدرالية».
ثم إنه يندرج في خانة الإيجابيات، بلا شك، العمل على إعادة أي لُحمة لكيانات منطقتنا الممزّقة مع اقتراب الذكرى المئوية لنشوئها من ركام الولايات العثمانية القديمة، وقبلها الدول والكيانات التي سادت ثم بادت على أرض الشرق الأوسط منذ فجر التاريخ.. فكيف إذا جاء التمزيق بعد حروب أهلية ومجازر مذهبية كالتي نشاهدها اليوم؟ غير أن دون التقدّم نحو «الفيدرالية» المطروحة عدة عقبات لا يجوز إغفالها، أبرزها:
أولاً، هل لدى واشنطن وموسكو، حقًّا، تصوّر مشترك لكيانات «فيدرالية» قابلة للحياة في المستقبل المنظور؟ بل، إذا كان لدى الإدارة الأميركية الخبرة الكافية – نظريًا – لوضع لَبِنات «الفَدرلة» في المنطقة، فهل لدى القيادة الروسية الحالية – التي قمعت الشيشان وتتآمر اليوم على أوكرانيا – الرغبة أصلاً للتعامل مع حالات «فيدرالية» في منطقة لها تعقيدات الشرق الأوسط وحساسياتها؟
ثانيًا، هل تتمتع النُّخب السياسية والجماعات العرقية والدينية والمذهبية في العراق وسوريا، وأيضًا لبنان، بالنضج والوعي السياسيين الكافيين لخوض هذه التجربة ضمن كيانات يفترض أنها ستكون «ديمقراطية»… وعلى الأرجح هشّة، بعيدًا عن قمع «الدولة البوليسية» الذي وحّدها بالقوة؟
ثالثًا، تحتاج التجارب «الفيدرالية» كي تنجح لأن تستند إلى عامل الاقتناع بـ«مصالح مشتركة»، بقدر تبرير اللجوء إليها بحجج «المخاوف المشتركة». وإذا كانت المخاوف، بل والشكوك والأحقاد أيضًا، موجودة وبديهية… فهل تبلوَرت فعليًا رؤى لمصالح كفيلة بحماية الكيانات الجديدة والمحافظة عليها؟
رابعًا، في المنطقة ثلاثة كيانات غير عربية مؤثرة، فهل سيشملها تعميم تجربة «الفَدرلة» الموعودة؟ بكلام أكثر وضوحًا، هل سيأتي لاحقًا دور كل من تركيا وإيران.. فنرى كيانات كردية و«بكتاشية» وأحوازية عربية وبلوشية وتركمانية تقوم في البلدين الكبيرين؟ وكيف سيكون الحال بالنسبة إلى حسابات إسرائيل التي يدفع غُلاتها نحو مشروع «يهودية الدولة» الذي يُشرع عمليًا الأبواب من جديد على «الترانسفير»؟
خامسًا، مَن قال: إن العبث بخرائط كيانات منطقة «الهلال الخصيب» سيبقي المناطق الشرق أوسطية والشمال أفريقية المجاورة آمنة إلى ما لا نهاية؟ أليست الحالات المتطرّفة الشاذة المتبرقعة بـ«الإسلام السياسي» حالات عابرة للحدود كما نرى في مصر وليبيا وتونس والجزائر؟ ألا تعاني كيانات مثل ليبيا والجزائر من آفات مذهبية وأزمات جهوية يسهل على الحالات المتطرّفة استغلالها؟ وماذا عن جنوب شبه الجزيرة العربية ودور «القاعدة» هناك، ناهيك من مشاريع الفتن المذهبية التي أطلقتها إيران، وكادت تورق وتثمر لولا قرار التصدي لها بالقوة العسكرية؟
إن بلداننا مقبلة على تحديات وجودية، والخشية أن تكون قد تجاوزت حتى قدرات «الفيدرالية» على التغلب عليها.

وقف إطلاق النار بين الخيبة والأمل
أكرم البني/الحياة/06 آذار/16
هو حدث مهم التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في سورية بعد سنوات من عنف دموي ومدمر، والحدث الأهم هو صموده النسبي حتى الآن، إن كان مجرد هدنة موقتة أم وقفاً للأعمال العدائية، ويبقى أن ثمة أسباباً ومعوقات تجعل الأمل ضعيفاً في أن يغدو هذا الاتفاق فاتحة لوقف الصراع نهائياً ووضع البلاد على سكة المعالجة السياسية. أولاً، أن ينجم اتفاق وقف إطلاق النار عن إرادة دولية أساسها التوافق بين واشنطن وموسكو، يثير الشكوك حول فرص نجاحه وثباته ما دام يرتهن إلى درجة صدقية هذا التوافق ومدى جدية الطرفين في إجبار حلفائهما المحليين على تنفيذه، فكيف الحال مع غموض آليات مراقبته وتحديد الجهة المسؤولة عن خرقه ووسائل محاصرتها وردعها؟ يزيد الأمر تعقيداً التباين اللافت في تحديد ماهية الجماعات التي لا يشملها الاتفاق وتوصف بالإرهابية، ثم وجود نيات مضمرة لدى الراعين، ليس في الإصرار على إنجاح الاتفاق ومعالجة مثالبه ونواقصه، بل للتصعيد وخلق بدائل حربية في حال فشله، أوضحها استمرار الضربات الروسية لمحاصرة بعض أطراف المعارضة المسلّحة، ثم التهديد الأميركي بالانتقال إلى «الخطة ب» للتدخل في مجرى الصراع السوري، هذا ناهيكم عن حضور قوى إقليمية ليست لها مصلحة في إخماد بؤرة التوتر السورية، بل يهمها إذكاء الصراع عبر تمويل الأطراف المتنافسة وتشجيعها لخرق الاتفاق وخلق ذرائع تطيح فرص التهدئة، ولا تخفى على أحد تجارب مريرة في المنطقة لعب فيها التدخل الإقليمي دوراً نافذاً في تسعير الصراعات المحلية ومنع الوصول إلى حلول ملموسة في شأنها.
ثانياً، يتقدم في خصوصية الصراع السوري احتمال تحويل وقف النار من بعض الأطراف التي يغريها منطق الغلبة وما تحققه من تقدّم على الأرض، إلى ورقة لربح الوقت كي تمعن في سياسة الحصار والإخضاع وتتوغل أكثر في الفتك والتنكيل لتحسين مواقعها الميدانية، بخاصة أن أهم القوى المتصارعة لا تزال تراهن، وإن بدرجات متفاوتة، على الخيار العسكري لكسر إرادة الآخر، إن من جهة نظام أدمن رفض تقديم التنازلات السياسية ويحلم بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتحقيق انتصارات يستعيد بها السيطرة على البلاد، وإن من قوى وجماعات نمت على هامش سنوات الحرب المتواصلة ولا مصلحة لها في وقف إطلاق النار والخضوع للمسار السياسي، وستفعل ما في وسعها لإفشال هذا الخيار، والقصد أن طول أمد الصراع وتداعيات الحصار والعقوبات الاقتصادية خلق ما يسمى اقتصاد حرب، بات يسيطر على مجريات الحياة، ويدار ممن تصحّ تسميتهم بأمراء حرب يتعزز نفوذهم وامتيازاتهم من استمرار العنف ووأد فرص التسوية والسلام، وتعزز هذا الواقع الطبيعة المعقدة والمتفردة لبعض مراكز القوة لدى النظام والمعارضة المسلّحة وتعدد مرجعياتها، ما يكشف مروحة واسعة من الأسباب المحلية التي تؤدي إلى إفشال أي هدنة وإطالة أمد الاقتتال.
ثالثاً، صحيح أن استمرار الاستعصاء العسكري يعتبر دافعاً رئيساً لوقف العنف ولغة السلاح، ربطاً بتوصل غالبية الأطراف المتصارعة، وإن على مضض، إلى قناعة باستحالة تحقيق نصر حاسم، وصحيح أن وقف إطلاق النار لن يكون مقبولاً ومستداماً إلا بتوفير الشروط السياسية الضرورية لاستمراره والمستندة إلى صيغة عادلة للحل تلبي مطامح الناس في التغيير وإقامة مؤسسات ديموقراطية واعدة، الأمر الذي يقع على عاتق المفاوضات المرتقبة في جنيف وقدرة الأطراف الفاعلة فيها على دفع العملية السياسية إلى الأمام، لكن الصحيح أيضاً أن ما قد يعزز وقف النار في الخصوصية السورية هو فصل الملف الإنساني والإغاثي عن الملف السياسي، والبدء بإلغاء توظيف معاناة الناس لربح بعض النقاط، واعتبار مصير البشر وشروط حياتهم، مسألة أعلى وأنبل من الغايات السياسية لأي طرف في الصراع، وإذ نعترف بوجود عقبات متنوعة تعترض هذا الخيار، نعترف أيضاً بأن النجاح في الفصل بين المفاوضات حول أسس نظام الحكم القــادم وبــين تقدم الملف الإنساني، كالشروع في فك الحصار عن مناطق محاصرة منذ مدد طويلة وإيصال المساعدات الغذائية والدوائية لها وكشف مصير المفقودين وإطلاق سراح المعتقلين، يمكنه أن يأتي بمناخ جديد ينعش بعض الأمل عند من يقاسون الأمرّين من فظاعة الصراع ودمويته، ويثير الثقة بجدوى التهدئة وخيار المعالجة السياسية، والقصد أنه ثبت في كثير من الصراعات الأهلية أن التركيز على الوجه الإنساني وضمان تنفيذ القرارات المتعلّقة بالملفات الإغاثية، بما في ذلك القدرة على توفير الخدمات وتحسين شروط الحياة، يعتبر دافعاً قوياً لأطراف النزاع للتهدئة والتواصل، ويفتح الباب تالياً لتفعيل دور قوى واسعة من المجتمع متضررة من استمرار منطق السلاح وهيمنة لغة القوة، بما في ذلك تمكين جهات من المجتمع المدني لتضطلع بدور أكثر أهمية في دعم وقف مستدام لإطلاق النار، ما دامت تستطيع التواصل مع مختلف الأطراف الداخلية الفاعلة والتوسط في ما بين.
أخيراً، وعلى رغم مرور سنوات من العنف المفرط والدم والخراب، تلمس لدى عموم السوريين توقاً شديداً الى الخلاص مما هم فيه ورغبة عارمة في وقف القتال وإحلال السلام، تحدوهم دوافع قوية لتمكين اتفاق وقف إطلاق النار القائم، وتشديد المطالبة بالجدية والصدقية في تنفيذه، وإدانة كل من يخرقه أو يتجاوزه.
والحال هذه، وبعيداً من تشاؤم العقل، ينتعش بعض الأمل بأن يشكل اتفاق وقف إطلاق النار الساري، فرصة لتخفيف حدة الاستقطاب وذاك التفشّي المفزع للغة الحقد والإلغاء، وربما لاستعادة شيء من العقلانية التي دمّرها منطق الحرب، بخاصة مع تنامي اقتناع بعبثية استمرار القتال وبأن الجميع سيخرج خاسراً منه، والأهم فرصة لاجتراح حل سياسي يحاصر جماعات التطرف والإقصاء ودعاة العنف والغلبة، ويمهد لإنقاذ سورية وشعبها المنكوب من دوامة الفتك والتنكيل والخراب.

إيران لا تصدّر الثورة!
خالد الدخيل/الحياة/06 آذار/16
من غرائب الإعلام العربي القول أن إيران الجمهورية الإسلامية تعمل على تصدير الثورة. يقول بهذا خصوم إيران وحلفاؤها معاً. وهذا قول أقل ما يقال عنه إنه محيّر. فهي تهمة، كما يبدو، عند خصوم إيران. وهي وكما يبدو أيضاً، وإن على استحياء، مديح عند حلفائها وأتباعها، خصوصاً ما بات يعرف في العالم العربي بـ «إعلام الممانعة». بالنسبة لخصوم إيران، يمثل الاعتقاد بتصدير الثورة تسمراً عند العام 1979 حين كانت الثورة في ذروتها. أما بالنسبة لحلفاء إيران فيمثل شعار تصدير الثورة غطاء آخر – بجانب غطاء الممانعة – لما انحدرت إليه الثورة على يد رجال الدين الذين أفرغوا الثورة من مضمونها ونكصوا بها إلى الوراء أكثر من ألف ومئة عام. الغريب في الأمر أن المنبع الأول لدعوى تصدير الثورة كان تصريحاً للإمام آية الله الخميني بعيد انتصار الثورة عام 1979. ربما أن هذه كانت قناعة الرجل لما كان يخطط له ويعمل على تحقيقه تطبيقاً لما جاء في كتابه عن الحكومة الإسلامية. وبهذا المعنى، لم يكن الإمام يفرق بين الثورة كعملية تمرد على الحاضر وتطلع إلى المستقبل، من ناحية، وبين أن فكرته عن الحكومة الإسلامية هي هروب من الواقع وعودة إلى ماضي الأئمة في التاريخ الإسلامي. لكن ربما أن الإمام كان يعرف الفرق بين الثورة بمعناها ودلالتها الحديثة، وعملية إحياء المذهب الذي كان يعمل عليه منذ أن كان في إيران، مروراً بلجوئه إلى العراق في عهد الرئيس صدام حسين، ثم عودته مظفراً على طائرة الخطوط الفرنسية ليقود عملية ترويض الثورة وتصويبها وفق رؤيته وأهدافه. لم يكن الخميني رجل دين وحسب. كان رجل سياسة. وكان منخرطاً في الصراع السياسي ضد الشاه قبل الثورة بعقود. وكان الرجل يتميز بذكاء واضح. وبالتالي مثّل شعار «تصدير الثورة» بالنسبة له أداة سياسية أخرى مفيدة لما كان يحلم به داخل إيران وخارجها. وهو شعار مفيد حقاً مع بداية الثورة. وهذا أمر متوقع في تلك اللحظة الثورية وما كان يحيط بها من ظروف وملابسات في الداخل الإيراني وعلى مستوى الإقليم. لكن بعد أن نجح التيار الديني، أو الإسلام السياسي بصيغته الشيعية، في اختطاف الثورة والسيطرة على مقدراتها، ثم تحويل مسارها إلى ما يتناقض تماماً مع طبيعتها ومبتدئها، وأهدافها الأولى، يصبح شعار «تصدير الثورة» فارغاً من أي معنى.
ومن يقول بهذا الشعار، عليه أن يجيب على هذا السؤال: ما هي الثورة، أو القيم الثورية التي تصدرها إيران إلى جوارها العربي؟ هل تصدر قيم حرية الرأي والفكر والمعتقد والتنظيم؟ أو تصدر القيم الفكرية الحضارية، خصوصاً المتعلقة منها بأولوية الفرد وحقوقه كإنسان أولاً، ثم كمواطن ثانياً؟ هل تصدر إيران شيئاً ذا صلة بفكرة الدولة المدنية، والدستور المدني، والعمل المؤسسي انطلاقاً من هذه المفاهيم؟ لا أحسبني في حاجة للقول أن الإجابة بالنفي القاطع هي الإجابة الوحيدة المتوافرة على كل هذه الأسئلة. ما تصدره إيران إلى العالم العربي هو: الطائفية، والميليشيات التي تستند إلى هذه الطائفية، وتهتدي بها في عملها وأهدافها. إلى جانب ذلك طبعاً، تصدر إيران أدبيات الطبقة الدينية الحاكمة بعد الثورة، وهي أدبيات تضيف إلى التراث الطائفي للمنطقة، وليس إلى نقضه وتحييده.
حقيقة الأمر أن من يقول أن إيران «تصدر الثورة» يقع في خطيئة تشبيه ما حصل للثورة الإيرانية بما حصل للثورة الفرنسية، مثلاً، أو الثورة الأميركية، أو حتى الثورة الروسية، وغيرها. هذه ثورات أخذت العالم معها إلى المستقبل، وصبغت القرن الـ20 والـ21 بإنجازاتها وفلسفتها في مختلف الحقول والميادين. تشبه الثورة الإيرانية هذه الثورات في شيء واحد وهو انطلاقتها، وحجمها وتطلعاتها وطبيعتها الاجتماعية. لكن المآل الذي انتهت إليه، وهو مآل ظلامي بسحنة دينية طائفية، يؤكد أن هذه الثورة انتكست بفعل اختطاف طبقة رجال الدين لها. وهو انتكاس أفرغ الثورة من مضمونها ومن تطلعاتها، وجعل منها ثورة مهدت السبيل أمام رجال الدين ليصبحوا طبقة حاكمة جديدة، لكن بقيم قديمة وآليات عفّى عليها الزمن. وهذا يتفق تمام الاتفاق مع طبيعة الفكر السياسي الشيعي الذي يحصر السلطة السياسية في طبقة الأئمة «المعصومين». ومع غياب الأئمة، لم يكن هناك من مجال لتفادي ظهور فكرة «ولاية الفقيه» كبديل يظن البعض أنه موقت. وهي الفكرة التي حولها الخميني بعد الثورة إلى واقع سياسي في إيران، وللمرة الأولى في التاريخ الإسلامي. من هنا أخذت الطبقة الدينية إيران معها إلى بداية القرن الرابع الهجري، حين اختفى الإمام الـ12 محمد العسكري. ولذلك يختتم المؤرخ الإيراني إيرفاند إبراهيميان كتابه الكلاسيكي «إيران بين ثورتين» بالإشارة إلى المفارقة التي انتهت إليها ثورة 1905 – 1909 في إيران، وثورة 1979. في الأولى، انتصرت ولو لفترة قصيرة الطبقة المثقفة الحديثة التي كانت تحركها قيم مختلطة من الوطنية والليبرالية والاشتراكية. وعلى أساسها كتبت دستوراً علمانياً. أما الثورة الثانية فأتت معها بطبقة اختتمت انتصارها بإصدار دستور ديني يمثل هذه الطبقة، واستبدلت النظام القضائي للدولة بمحاكم للشريعة، وما ترافق مع ذلك من شجب لقيم الديموقراطية باعتبارها هرطقة تخالف العقيدة. وهذا نكوص ثوري في المسار السياسي الذي عرفته إيران في القرن الـ20.
اللافت في هذا السياق أن شعار «تصدير الثورة» من إيران موجه للعالم العربي حصرياً. ليس هناك تصدير «ثورة» إلى تركيا مثلاً، أو الهند، أو أذربيجان التي تشترك مع إيران في أن المكون الشيعي هو الغالب على تركيبتها السكانية. وبطبيعة الحال ليست هناك ثورة يمكن أن تصدرها إيران إلى أوروبا أو الولايات المتحدة أو جنوب شرقي آسيا. هدف «تصدير الثورة» هو العالم العربي. لماذا هذا العالم تحديداً من دون غيره؟
كيف التبس الوعي بين «تصدير الثورة» وتصدير «الطائفية»؟ هناك عوامل عدة تضافرت على إيجاد مثل هذا اللبس منها أن الغالبية على الأقل لم تتمكن من التخلص من وهج اللحظة الأولى لثورة 1979. كما أشرت تسببت طبيعة هذه الثورة في لحظاتها الأولى، وحجمها وشعبيتها، بل وتوقيتها، في خلق وهج ثوري خيّم على المنطقة لفترة ليست قصيرة. كان لهذا الوهج من قوة التأثير أنه أسس لقبول فكرة تصدير الثورة. لنتذكر أن الثورة الإيرانية في بداياتها كانت ضد نظام الشاه وما كان يمثله من استبداد وغطرسة، وارتهان للولايات المتحدة. استقبلتها جماهير المنطقة وتفاعلت معها على هذا الأساس. وقد تجاوز وهج الثورة في أيامها الأولى حدود إيران، ولم يكن من السهل مقاومته، أو التعرف عن قرب على تفاصيل ما كان يحدث في الداخل الإيراني، والصراع الذي كان يعتمل داخل الثورة بين مختلف التيارات المنخرطة فيها. كانت الناس مأخوذة في داخل إيران وخارجها، بحدث بدا استثنائياً في منطقة تعاني من الإحباط والانكسارات والاستبداد لعقود طويلة. في هذه الأجواء، تم الأخذ بفكرة التصدير من دون التأمل في حقيقتها، أو محاولة التعرف على مؤشراتها. جاء الاحتلال الأميركي للعراق في 2003 ليكشف شيئاً من اللبس بين تصدير الثورة وتصدير الطائفية والميليشيا. ثم جاءت الثورة في سورية ونزعت غطاء اللبس عن حقيقة مشروع ورثة الثورة الإيرانية. بعد العراق وسورية بات من الواضح أن ما تصدره إيران إلى العالم العربي هو الطائفية والميليشيات، والفكر الديني المتخلف الذي يؤسس لشرعنة كل منهما، وللعلاقة العضوية بينهما. أمام هذا الواقع يصبح من الظلم لمفهوم الثورة وتاريخها، بل ومن الظلم للشعب الإيراني القول أن الجمهورية الإسلامية تصدر الثورة. كيف تصدر الثورة وهي تنتكس تاريخياً إلى الوراء، وتتحالف مع طاغية ضد شعبه، وتؤجج أبشع أنواع الحروب، أو الحروب الدينية بين أبناء الشعب الواحد في دول المنطقة؟ إيران لا تصدر الثورة، بل لم تعد لديها ثورة قابلة للتصدير.