حسام عيتاني: لماذا نواجه باللامبالاة؟//خالد الحروب: داعش ونظرية الثور الأعمى

412

لماذا نواجه باللامبالاة؟
حسام عيتاني/الحياة/05 تموز/15
لماذا حظي قرار المحكمة الأميركية العليا بالسماح بزواج المثليين باهتمام إعلامي دولي، فيما يتراجع موقع الثورات العربية عند الرأي العام في الغرب والعالم؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تستثني المآخذ المعروفة من مثل التمحور الغربي على الذات وتجاهل قضايا الآخرين والاستعلاء العنصري المعتاد. لكن إلى جانب ذلك، تجدر الإشارة إلى جملة من الأسباب تعود إلى فوارق في معنى الخطوة الأميركية، من جهة، والثورات العربية، في منظومة القيم السائدة اليوم، من جهة ثانية. لنُنحِ جانباً، كشرط لاستقامة النقاش، كل المواقف المسبقة والمحاكمات الأخلاقية لقرار المحكمة العليا. فليس هنا مجال الدفاع عنه أو انتقاده. ما يعنينا في هذه السطور هو تسليط الضوء على شيء آخر يتعلق بالفارق بين منظومتي قيم الناجم عن اختلاف عميق في الرؤية إلى العالم.
نقول إن الغرب ما زال قادراً على طرح قضايا تتعلق بالعلاقات بين الفرد والمجتمع ومصائرهما، كعناوين للنقاشات العامة فيه ترقى إلى أن تكون «القضايا» مع ال التعريف التي يتعين على العالم الانتباه لها ومعاينتها وحلها. هي القضايا الكونية اليوم التي تصب في خانة استكمال انتزاع الإنسان لحريته، على ما يقول أنصارها. اكتسب قرار المحكمة الأميركية أهميته من هذه الزاوية وليس من نسبة عدد المثليين إلى غيرهم بين السكان. فلو أُخذ القرار من هذه الناحية لبدا أنه يتعلق بأقلية ضئيلة العدد بين السكان.
يتعين هنا إذاً التمييز بين صنفين من القضايا: الكونية التي تحتل طليعة اهتمامات الغرب والتي تعني الفرد ودوره في بيئته ورفاهه. وقضايا شعوب الدول النامية أو المتخلفة. لا يعني ذلك أن الأولى أسمى أخلاقياً من الثانية، بل ببساطة أن جدول الأعمال يحدده من وضع نفسه أو وضعته الظروف التاريخية في صدارة الحضارة الحالية التي يهيمن الغرب عليها.
إذا أخذنا الثورات العربية في مراحلها الأولى، نجد أن ما كانت تطالب به يشمل الحرية والكرامة والديموقراطية والعدالة الاجتماعية. هذه مطالب جذرية جداً في بلادنا وتمس الأسس التي أقيمت عليها الأنظمة السياسية والعلاقات الاقتصادية – الاجتماعية. وليس غريباً أن تشتد مقاومة البنى القديمة وتعنُف، كلما اتسمت الثورات بالقدرة على تهديد مجمل التركيبة القديمة. بهذا المعنى يمكن فهم عنف الثورات التي انقلبت حروباً أهلية في سورية وليبيا واليمن حيث إن ما وضع على المحك كان إرثاً راسخاً استقر لعشرات السنين من آليات إدارة الدولة والسيطرة على المجتمعات، في حين أن تونس ومصر عادتا – إلى حد ما – إلى الطرق القديمة في الحكم بالاعتماد على النخب ذاتها التي تمكنت من تجنب الموجة الأولى من الثورات واسترجعت مكانتها.
لكن جذرية الثورات العربية حتى في لحظاتها الأشد عنفاً وضراوة لا تبدو للمراقب الغربي بأنها تحمل جديداً نوعياً. هي في أحسن الأحوال صراعات ضد ديكتاتوريات فاسدة، وفي أسوئها حروب طائفية بين جماعات لا تستطيع التعريف عن نفسها إلا من خلال هوياتها الموروثة. بكلمات ثانية، إذا كانت آلية التطور في الغرب محكومة بالجدل بين المساواة والحرية، أي بالمفهومين اللذين انقسمت حولهما الحياة السياسية في اوروبا وأميركا الشمالية منذ الثورة الفرنسية إلى يمين يرفع راية الحرية ويسار يطالب بالمساواة أولاً، فإن قرار إباحة زواج المثليين ينطلق من مناخ التوتر بين هذين المفهومين ومن سجالهما المديد. في المقابل، تنتمي مطالب الثورات العربية، حتى الأكثر جذرية من بينها، إلى خانة من خانتي المساواة والحرية انتماء صريحاً، وذلك بعد تشذيب عوالق الهويات والطوائف والإثنيات منها.
حتى القضايا التي تعني المهاجرين إلى الغرب من أصول عربية أو مسلمة، على غرار قضية الحجاب التي شغلت فرنسا على مدى أعوام، ابتداء من التسعينات واتسعت لتشمل الرموز والإشارات الدينية في المؤسسات العامة، تعني أولاً الجدل بين الحرية الفردية (ارتداء الحجاب) والمساواة (علمانية الدولة)، لذلك اتسمت بأهمية خاصة في نظر الفرنسيين، إلى جانب التفسيرات العنصرية التي أضفاها عليها اليمين الفرنسي المتطرف والمظلومية التي استثمر المسلمون فيها ما تعرضوا له من ظلم وغبن على مدى عقود.
عليه، تأتي تلك اللامبالاة بالقضايا العربية وقضايا العالم الثالث عموماً لتقول إن العالم الأول ينظر إليها نظرته إلى الكوارث الطبيعية التي لا يملك الكثير من الأدوات لمواجهتها، خصوصاً في أجواء الانسحاب الأميركي من النزاعات الخارجية وافتقار أوروبا إلى الموارد اللازمة للتدخل، على رغم قبول الأمم المتحدة قبل أعوام مبدأ «التدخل الإنساني». فالقضايا التي تأخر أصحابها في علاجها يتحملون هم وحدهم مسؤولياتها في حين أن العالم يسير على إيقاع آخر. وقبل عام ونيف وصف الفيلسوف سلافوي جيجك الثورة السورية بـ «الصراع الزائف» لأنها ليست سوى اقتتال بين دكتاتور فاسد وعصابات إرهابية دينية («ذي غارديان» -6/9/2013). بمعنى ما، يجوز إدراج هذا التفسير ضمن عدم طرح الثورات العربية لتحديات فكرية جديدة بالنسبة إلى الغرب الذي تجاوز منذ زمن مسائل الدكتاتورية والإرهاب الديني وهويات الجماعات المسلحة، تجاوزاً فكرياً من دون أن يبتعد عن آثارها غير المباشرة. لا ينفي ما سبق السعي الصريح إلى استغلال مآسي الشعوب والدول الفقيرة من جانب كل من استطاع إلى ذلك استغلالاً. ولا يمنح ذلك رفعة أخلاقية لقضايا العالم الأول وضعة لقضايا دول الجنوب. بل يقول أن العالم يسير بسرعات مختلفة وأن الأولويات لا تتحدد بالمضمون الأخلاقي المحض، بل بموقعها من جدول أعمال يضعه من يرى نفسه أكثر تقدماً من الآخرين.

 

«داعش» … ونظرية «الثور الأعمى»
خالد الحروب/الحياة/05 تموز/15
القوة المطلقة توأم السلطة المطلقة، كلاهما مفسد وكلاهما مغرٍ بالبطش حتى لو كان مالك اي منهما صاحب عقل وتدبير. إغواء القوة هو العميل السري الذي جرجر البشرية الى جولات لا نهائية من الصراعات والحروب والدماء منذ ان بطش قابيل بأخيه. قوى وممالك وحضارات طواها التاريخ لأن القوة افلتت من سيطرة العقل الذي ظن انه يسوسها ويقودها. اذا اختلت العلاقة الشديدة الدقة والحساسية بين الإثنين لمصلحة القوة حلّ الدمار. هكذا هو حال القوة المُقادة بالعقل، فكيف هو حالها وهي تتطوح في كل الاتجاهات بلا عقل يخضعها ومن دون رشاد يدجن جموحها؟
القوة التي تفتقد الى عقل مفكر يسيطر عليها ويقودها تصبح قائدة ذاتها، وتتحول الى ثور يتصف بثلاث صفات: أعمى، وأهوج، وممسوس بالجنون. لنتخيل حركة وطاقة هذا الثور صاحب هذه السمات وما هي النتائج التي تخلفها حركته الهوجاء على الارض وفي المحيط الذي يجاوره؟ «ثورنا» الاشم يتفجر طاقة، يراكمها بلا انقطاع ولا يعرف كيف يصرفها، ولا يدري بطبيعة الحال كيف يحولها الى قوة بناء. لهذا، نراه يركض ويجري على الدوام من دون توقف، يترنح يميناً ويساراً ويدوس على كل ما يأتي في طريقه غير عابئ بـ «المُداس» وما إن كان صديقاً ام عدواً. في الحقيقة لا يهتم الثور الهائج اصلاً بإيجاد دوائر اصدقاء او محايدين. احد جوانب العبقرية الغبية في ممارسته اليومية تكمن اساساً في تكثير الاعداء ومضاعفة اعدادهم وكأن هذا ما يعتاش عليه. الثور الأهوج يورط كل السذّج الذين يظنون أن بإمكانهم الاستفادة من طاقته الرعناء وتوظيفها ولو من بعد. انعطافاته الحادة وجنونه المركب ومفاجآته المدهشة التي لا ينطبق عليها منطق او عقل او تنبؤ، تهزأ بأي طرف يتورط في الرهان عليه. هل يمكن الرهان على ثور أعمى وأرعن ومجنون، ثقيل الوطأة بالغ الوزن، لكن في الوقت نفسه لا يكف عن الحركة في كل الاتجاهات من دون هدف؟
«داعش» اليوم هو احدث طبعة من فصيلة الثيران العمياء التي إن حلت في منطقة ما جلبت عليها الوباء والدمار والدماء. أول من تدوسه هذه الثيران هم من تزعم او تظن أنها تدافع عنهم. مثلاً، البلاء الذي يجلبه «داعش» اليوم لكل المناطق السنية وللسنّة الذين تزعم انها تريد ان تحميهم وتقيم «خلافة» على رأسهم ليس مسبوقاً. ينطلق عناصرها مُقادين بالغباء ليس إلا، فيحتلون هذه المحافظة السنية او تلك في العراق او غيره، فيستفزون الحكومة (التي يعادونها لأنها طائفية ويتهمونها بالعداء للسنّة) فيدفعونها للتحرك بسرعة كي تثبت انها ذات السيادة على كل المحافظات، فتسيطر هي وميليشياتها على مناطق السنّة التي حررها داعش …(ممّن)؟ بسبب العماء المطبق لا يبصر ثور «داعش» من هو الصديق ومن هو العدو: كل الذين يحيطون بالثور الاعمى والهائج هم اعداء له، وهو لا يملك وسيلة للتعامل معهم سوى البطش الدموي وجلب الموت لهم. قوائم الثيران التي اندرجت في ثلاثية العمى والرعونة والجنون طويلة ودائمة التجدد. القرن العشرون وحده يحفل بقائمة مذهلة تضم عشرات غير هتلر وستالين وبول بوت وعيدي امين وهيلا سيلاسي وموبوتو سيسيكو. عربياً يحتل صدام حسين الموقع الاول ممن امتلكوا القوة لكنهم اتصفوا بالعمى المطلق الذي دمرهم ودمر بلدهم ومن جاورهم.
نظرية الثور الهائج هي التي تلتقط حال «داعش» اليوم، كما التقطت حال القوة المنفلتة من أي عقل او تفكير في تجارب تتجاوز العد في تاريخ البشرية. «داعش» يخلف تنظيم «القاعدة» الذي اندرج في نفس المسار والنظرية، وخبط في كل الاتجاهات وتسبب في حروب افغانستان والعراق. تنظيمات الثور الهائج «الداعشية» و «القاعدية» تهيج اليوم بتفاهة بالغة وتنشر الارهاب البشع باسم الدين، وهي تدمره وتدمر صورته وتدمر اتباعه وتحاصرهم بالعنصريات وردود الفعل في كل مكان. في هذه الايام الدامية وحدها قتل الثور «الداعشي» الهائج ابرياء ومدنيين في مساجد يصلي فيها مسلمون في السعودية والكويت، وقتل ابرياء في العراق وفي ليبيا وتونس ونيجيريا، وهدد بتحرير «غزة من حماس» (لا اسرائيل)، وهدد مسيحيي القدس كي يغادروها (ولم يهدد اسرائيل التي تحتلها!).
هناك مسوغات كثيرة يسوقها الثور الهائج ولا يزال لتبرير هيجانه وولوغه في الدم البريء، الوحيد منها الذي يستحق النقاش والتوقف عنده، رغم انه أقلها استخداماً من قبل الثور الهائج، هو التدخل الغربي المستمر في المنطقة وما يتسبب عنه. وهنا يحاول أكثرنا ان يفهم هيجان الثور الهائج ويربطه بكل الأسباب والدوافع التي نعرفها جميعاً ولا جدال فيها، بدءاً بتأسيس اسرائيل وتواصل احتلالها، واستمراراً مع توحش السياسة الغربية وانحيازاتها للدكتاتورية والمصالح على حساب العدالة والقيم. هذه التدخلات الاجنبية والغربية خصوصاً هي سمة من سمات علاقة الخارج مع المنطقة طيلة القرنين الماضيين تقريباً، ومع انها انتجت كل انواع ردود الفعل النبيلة في المقاومة والرفض، إلا انها لم تنتج ثيراناً هوجاء كما هو الحال الآن. ظلت المقاومات الشعبية التي انتجتها الشعوب بسبب عدالة قضاياها مرتبطة بجوهر العدالة نفسها، ولم توجه مقاومتها الى ما من شأنه الانتقاص من تلك العدالة. لم تستهدف السياح المدنيين الغربيين ولا الافارقة الذين صاروا هدفاً غريباً للثور الهائج.
كان ثمة ادراك عميق بأنه لا يصح ان تستخدم وحشية العدو كمسوغ لإطلاق وحشية مشابهة، فضلاً عن ان تكون أبشع، وان تتوجه وحشية رد الفعل إلى اناس ابرياء ومدنيين ليسوا في الصف الأول من القتال. لكن كانت ثمة استثناءات وقعت في إغراء استهداف المدنيين كهدف ناعم للضغط على صناع السياسة الكبار وإخضاعهم، وتم تجريب هذه الوسيلة. ففي عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي وقعت بعض المنظمات الفلسطينية اليسارية في إغواء «استهداف المصالح الغربية والاسرائيلية المدنية» في كل مكان، وطبقتها عبر بعض عمليات خطف الطائرات او احتجاز المدنيين، بهدف جذب اهتمام العالم الى عدالة القضية الفلسطينية، ودفعه للاهتمام بها. كانت الممارسة الفلسطينية جزءاً من ممارسات راديكالية عالمية تقودها منظمات أممية (مثل «بادر ماينهوف» الالمانية، و «الالوية الحمراء» الايطالية، و «الجيش الاحمر» الياباني) ضد الرأسمالية الغربية في تلك الحقبة الزمنية، وتستهدف الإطاحة بها. شبّ اليسار الفلسطيني والعالمي عن الطوق وتخلى وغيره عن المراهقة السياسية تلك وتركها لأي ثور هائج جديد يقتحم الساحة! الثور الجديد كان تيارات التطرف الاسلامي التي تلقفت «الراية» كتلميذ فاشل لا يقرأ التاريخ ولا يفقه السياسة، وهي التيارات التي بقيت تنتج ثوراً في كل مرحلة حتى اوصلتنا الى «داعش». واحدة من مشكلات الثور الهائج والاعمى في كل مكان وزمان تكمن في إرادة صنع التاريخ على هواه، والبداية من حيث بدأ من سبقوه وفشلوا. وذلك كله، في منطقتنا، كأنما يحبسها في قدر محتوم على المجتمعات والبلدان فيه ان تداوم الانخراط في دورات تطوف واحدة تلو الاخرى، تبعاً لنوع ولون التيار المتطرف الذي يصحو على نفسه ويكتشف «النضال» او «الجهاد»، ثم يشرع ببلادة مذهلة في تطبيق «مشروعه» الخاص، ضارباً بعرض الحائط كل التجارب الماضية والقريبة وخلاصتها، وكأن التاريخ والعالم والحياة بدأت معه ومع اكتشافاته.