عساف العساف: احتلال الذاكرة والوجدان//عبدالله بن بجاد العتيبي: مصر ورأس الأفعى

317

مصر ورأس الأفعى
عبدالله بن بجاد العتيبي/الشرق الأوسط/05 تموز/15

«ربيع الأصولية» يضرب في مصر، و«ربيع الإرهاب» يضرب في تونس، و«ربيع الطائفية» يضرب في السعودية والكويت واليمن وبالطبع في سوريا والعراق. هذه هي التركة الثقيلة لما كان يعرف زورًا بـ«الربيع العربي». جاءت العمليات الإرهابية في مصر تزامنًا مع 30 يونيو (حزيران) وتنحية جماعة الإخوان المسلمين عن السلطة في مصر قبل عامين، وجاءت كذلك بعد أحكامٍ بالإعدام والمؤبد ضد قيادات الجماعة ورموزها صدرت عن المؤسسة القضائية المصرية، فتمّ اغتيال النائب العام المصري هشام بركات، ودخلت مجموعة إخوانيةٌ في اشتباكٍ مسلحٍ مع الشرطة في منطقة 6 أكتوبر (تشرين الأول) قتل فيها تسعةٌ منهم، كما تحركت الجماعات الإرهابية في سيناء التابعة لجماعة الإخوان المسلمين أو المتفرعة عنها، بعمليات متعددة وقع ضحيتها العشرات، بتصريحاتٍ سابقةٍ للبلتاجي وفتاوى متعاقبةٍ للقرضاوي ومعرفةٍ لدى قيادات الجماعة أن أهم مؤسستين أسقطتا مشروع الإخوان في مصر كانتا مؤسسة الجيش والمؤسسة القضائية، ومعهما المؤسسة الدينية التي يمثلها الأزهر، والإعلام.
استهداف الجيش تمّ من أول يومٍ، واستهداف القضاء كان ساخنًا في زمن حكم الإخوان وصار دمويًا بعد إسقاطه، فتمّ استهداف القضاة على مراحل متعددةٍ، وكان من ضمنها اغتيال عددٍ من القضاة قبل فترةٍ، واغتيال النائب العام الأسبوع الماضي، وستأتي في مرحلةٍ لاحقةٍ فيما يبدو استهدافات للفقهاء والإعلاميين والمثقفين.
لقد قامت جماعة الإخوان المسلمين بكل أنواع الإرهاب من قبل والجماعات المنبثقة عنها استمرت في نفس السياق وأكملت المشوار الدامي الطويل، لقد قاموا باغتيال رؤساء وزراء مثل أحمد ماهر وفهمي النقراشي باشًا، واغتالوا القاضي أحمد الخازندار لأنه حكم على إرهابيين من الجماعة وهو ما يذكر باستهداف القضاة، وهم حاولوا اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في حادثة المنشية كما ثبت لاحقًا، ونجحوا في اغتيال الرئيس أنور السادات، وقاموا بمحاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك، وقاموا باغتيال الفقهاء وذلك باغتيال الشيخ الذهبي، واغتيال فرج فودة ومحاولة اغتيال الأديب نجيب محفوظ توضح استهداف المثقفين، وهذه حوادث متفرقةٌ مما يرد للذهن دون استقصاءٍ.
إن الخطورة الحقيقية في كل ما يجري لا تكمن فقط في عملياتٍ إرهابيةٍ منعزلةٍ ذات أهداف محدودةٍ في الزمان والمكان والهدف كما كان يجري في السابق، ولكنها أصبحت مشروعاتٍ كبرى يراد لها أن تكون بديلةً للدول القائمة في العالم العربي، من خلال نقلها من «استقرار الدولة» إلى «استقرار الفوضى» كخطوةٍ أولى ومن ثمّ التفتيش عن البديل القادر والمتغلغل في أجهزة الدول ومؤسساتها أي جماعات الإسلام السياسي، أو على الأقل استنزاف هذه الدول واستنزاف مواردها وثرواتها لتضعف مستقبلاً وتصبح جاهزةً للإخضاع أو التقسيم.
إن الحرب التي تقودها جماعة الإخوان المسلمين ضد الدولة المصرية والشعب المصري حربٌ شرسةٌ وهي تستبيح فيها كل المحرمات، وهي تجد دعمًا لا محدودًا من مركز الثقل الإخواني الجديد بعد إسقاط حكم الإخوان والذي ينطلق من دولةٍ إقليميةٍ هي تركيا ودولةٍ عربيةٍ صغيرةٍ، ويتم من خلال جماعات الإرهاب في سيناء وكذلك دعم فرع الإخوان في ليبيا والجماعات الإرهابية المتحالفة معه، وقد سبق لهذه الجماعات اغتيال عشرات المصريين في عملياتٍ بشعةٍ ودمويةٍ.
إن تاريخ الجماعة والجماعات المنبثقة عنها تاريخ أسود مليء بالتخطيط والتآمر والإرهاب، وبهدف الوصول للسلطة فقد كانوا يخططون في السجون كما فعل سيد قطب لقتل الناس خارجه وكانوا يستخدمون الدول التي لجأوا إليها بعدما ضربهم عبد الناصر للتخريب داخل مصر وتهريب الأسلحة والتخطيط لتدمير الدولة المصرية والشعب المصري.
جماعة الإخوان المسلمين هي رأس الأفعى الإرهابية الحديثة والمعاصرة، منها انبثقت كل جماعات الإرهاب والعنف الديني في السبعينات في جماعة التكفير والهجرة وجماعة الجهاد وتنظيم الفنية العسكرية، وكذلك الجماعة الإسلامية في التسعينات، وصولاً إلى تنظيم القاعدة وتنظيم داعش حاليًا، كل هذه الجماعات خرجت من عباءة الإخوان المسلمين وقد سبق في هذه المساحة عرض العلاقات بكل جماعةٍ من هذه الجماعات من حيث التربية الآيديولوجية والانتماء التنظيمي ووحدة الهدف والغاية.
يكفي أن نتذكر سريعًا أن قائد الأفغان العرب عبد الله عزّام كان إخوانيًا معروفًا قد أعلن أنه «يريد أن يأتي من كل بلدٍ عربي أربعون مجاهدًا يقتل منهم عشرون ويعود منهم عشرون لنشر الجهاد في بلدانهم» وأن أسامة بن لادن كان إخوانيًا منظمًا وأن أبو بكر البغدادي كان إخوانيًا منظمًا، ومن قبلهم قادة التنظيمات الإرهابية في السبعينات الذين كان غالبيتهم إخوانًا، وهذا غيض من فيض.
لقد أصبح واضحًا للدولة المصرية والشعب المصري أن جماعة الإخوان قد تبنّت الإرهاب ولا شيء غير الإرهاب لفرض نفسها على الشعب الرافض لها عبر قتله وإرهابه وإخضاعه، وإسقاط هيبة الدولة ونشر الفوضى بكل أشكالها، ومن كان خياره التخريب والتدمير فهو إنما يفتل حبل مشنقته بيديه. لم يزل الإرهاب يستهدف مصر كما يستهدف الدول العربية والعالم بأسره، ولكنه في مصر ينشط أكثر ما ينشط في شبه جزيرة سيناء حيث المساحة الصحراوية الواسعة ذات التضاريس الوعرة والجبال الشاهقة التي تشكل ملاذًا آمنًا للإرهابيين ينطلقون منها لضرب الجيش والشرطة والمدنيين العزل كلما وجدوا لذلك سبيلاً. ومن هنا فإن من واجب الدولة المصرية والجيش المصري أن يقوما بعمليات واسعةٍ ونوعيةٍ لضرب تلك المعاقل المحصنة وقطع الطريق على الهاربين من الوصول إلى غزة والاحتماء بحماس مهما كلّف الأمر، فالأمن أولويةٌ كبرى لتثبيت استقرار الدولة ونشر الأمان والطمأنينة في ربوع البلاد. الدولة المصرية أحد أهم أعمدة العرب في المنطقة والعالم، وهي تشارك اليوم في التحالف العربي الذي يسعى لحماية الدول والشعوب العربية من الأعداء الإقليميين الطامعين ومن جماعات الإرهاب التخريبية، ولا يمكن لمدركٍ للصراعات السياسية الكبرى في المنطقة أن يتخيل أي موازنةٍ للقوة يكون فيها ترجيحٌ بين الدولة المصرية والجماعات الإرهابية، فمصر حليفٌ استراتيجي عربي يجب دعم استقرارها وأمنها. أخيرًا، لقد وقفت السعودية والإمارات والكويت والبحرين مع مصر بكل قوةٍ لاستعادة الدولة التي كانت مختطفةً من الجماعة، وقد نجحت في ذلك المسعى، وقدّمت ولا تزال تقدّم كل أنواع الدعم لتقف مصر على قدميها من جديد، وها هي مصر اليوم تعود أقوى وأفضل وعليها إكمال المشوار في القضاء المبرم على بقايا الإرهاب وقطع أيدي داعميه.

احتلال الذاكرة والوجدان
عساف العساف/المستقبل/05 تموز/15

«رشرش حبك يا جميل.. وداوي لي قلبي العليل» يصدح بها المطرب الحلبي على المسرح، والجمهور يتمايل طرباً على وقع الأغنية، قبل أن يصعد مرافقو جميل الأسد – الأخ الشقيق للرئيس – على الخشبة، ويشدون المطرب من أذنه، بحركة عقاب ولوم وتوبيخ: ما كان فيك أن تقول الأستاذ جميل ولاه؟ بدلاً من جميل حاف! هذه النكتة وغيرها من النكات والحكايا والسيّر التي تتناول أفراد العائلة الحاكمة في سوريا، تختصر ماضي الأحوال بكلمات قليلة. نعم لدينا عائلة حاكمة، لاتختلف عن الملكيّات العريقة حول العالم، عائلة بأجيال ونجوم، ونجوم ظل، وباباراتزي متلهف لأخبارهم وحكاياتهم أيضاً، لكن من دون صور وموتوسيكلات ومطاردات وكاميرات سرية. هي أخبار شفوية فقط، هي كل ما يملكه هؤلاء الباباراتزي لإنجاز عملهم، ولاسيما مع الجيل الأول من العائلة الحاكمة، جيل العمالقة.. جيل «الزمن الجميل»، جيل رفعت وجميل الأسد ومحمد ناصيف وعلي دوبا وعلي حيدر وهاشم معلّا وغيرهم.
وقف الضابط أمام حافظ الأسد ليقلده وسام الجمهورية، وأدى الضابط التحية العسكرية للقائد كما يقتضي العرف العسكري، وخبط قدمه على الارض لتنكسر البلاطة تحت قوة خبطته الهدارة، انحنى أمام الرئيس متقلداً الوشاح، وآخذاً الدبوس المذهب، غارزاً إياه في لحم صدره. فدبوس الرئيس مكانه قرب القلب مباشرة، ولا يوضع على قماش البدلة العسكرية الرخيص.
تنحنحت وأكملت قراءة كتابي الذي جلبته معي لتزجية وقت الفراغ هذا، للصدفة كانت «فوضى الحواس» رواية أحلام مستغانمي بين يديّ يومها… يوم التدريب العسكري الجامعي، الذي كان أشبه بالعطلة، أجلس وحدي في زاوية من المدرج منشغلاً، أو هكذا حاولت، بقراءة الرواية ذائعة الصيت حينها. خمسة أو ستة من زملائي في المقعد أمامي، أربعة منهم أولاد ضباط، لم يتوقفوا عن الحديث طيلة ساعة ونصف وهي مدة الحصة. وجلّ حديثهم اخترق مسامعي رغماً عني، عن الضابط الشهير الذي يبدأ نهاره التدريبي بفنجان قهوته، رابطاً يديه بشاحنة عسكرية تسير بسرعة ستين كيلومتراً في الساعة، فكان يجري معها وكأنه يتريّض في الريف الإنكليزي. النقيب الآخر، الذي أسقط الطائرة الاسرائيلية على مسؤوليته الخاصة، بالرغم من أنه «ماكو أوامر« من قيادته بإسقاطها، ونال ترقية وعقوبة في الوقت نفسه جراء فعلته. نكات مصطفى طلاس البذيئة عن ياسر عرفات والقادة العرب، في حفلات تخريج الضباط من الكلية الحربية. كانت عيون المتحدثين تلمع وهي تتكلم عن مثلها الأعلى، قبل وصول رفيقهم سيئ الحظ، والذي فاتته سرديات ألف ليلة وليلة هذه. قال له أحدهم: «وين كنت؟ راح عليك حديث شيق جداً«. والحقيقة أنه شيّق كثيراً .. جداً، ويتجاوز بتشويقه مقالة ميشيل كيلو الشهيرة «نعوات سورية«، التي اعتقل على أثرها، وقضى سنتين ونصف شيّقات في أحد فروع الأمن، ليروي لنا بعدها قصته المشوقة عن الطفل ذي الست سنوات، والذي ولد في الزنزانة وعاش فيها، من دون أن يعرف أو يتفاعل مع مفردات الحكاية، التي حاول كيلو أن يسلّيه بها عن الشمس والعصفور. لا شيء يملأ شوارع سوريا، منذ أربع سنوات، أكثر من النعوات، لكنّ نعوات فواز الأسد و«شيخ الجبل» محمد الأسد ورستم غزالي، وقبلهم هلال الأسد، لها طابع مختلف. هي نعوات ما أن تقع عيناك عليها في الشارع أو في صفحات الانترنت، حتى يضغط دماغك بشكل تلقائي «دبل كليك» على هذا الملف، فتنفتح حكايات تشبيحهم وسيّرهم في ذاكرتك، حينها سيفاجئك حجم الملف بضخامته وسعته اللا متناهية، التي تتسع لحكاية إضافية تسمعها من صديقك الخمسيني في جلسة أصدقاء، وهو يروي لك مشاهدته الشخصية لأحد أمراء العائلة الحاكمة كيف يدخل إلى مدرج الجامعة في حلب، في الثمانينات، أثناء إحدى المحاضرات، والأستاذ منهمك بمحاضرته. يسأل الأمير بصوت هادئ: أين فلان؟ ويجول بعينيه في أرجاء المدرج، يسأله الأستاذ: مين أنت؟ يجيبه الأمير: أنت مين؟ أنا الدكتور فلان أستاذ المقرر. يجيبه الأمير بكامل الهدوء، وكأنه نصف إله، لا يرى وجوه العبيد من حوله: لا.. أنت كلب، وسأثبت هذا لك الآن. يخرج المسدس ويهدد الأستاذ به، ويطلب منه: اركع على ركبتيك، انبح كالكلاب، قل أنا كلب. استجاب الأستاذ لأوامر الأمير، تحت تهديد سلاحه ومرأى طلبته الصامتين المرعوبين.
يزيدنا شريكنا في الجلسة من الشعر بيتاً عن قصص الفساد والتشبيح في مكتب التخليص الجمركي، التابع لوالد الأمير، وكيف كانوا يأخذون الأتاوات بالمعنى الحرفي، من كل صفقة تجارية تجري عبر ميناء اللاذقية، حتى ولو تمت العملية عبر مكتب آخر. يتحمّس ضيفنا الجديد على جلستنا، ويضيف إن الأمير فلان محام، يعمل في مكتبه المشهور الذي لا يخسر أي قضية في المحاكم السورية. وما عليك، إن كنت صاحب إحدى القضايا المستعصية الصعبة، إلا أن تذهب لمكتب المحاماة هذا وتدفع المعلوم وسيتكفل الأستاذ «الأفوكاتو» بالذهاب إلى القاضي المعني بالأمر، وربما لا يحتاج إلى الذهاب، بإمكانه أن يكسب قضيتك حتى لو كانت «فك مشنوق»؛ أي أن تخلّص محكوماً بالإعدام من حكمه، حسب ما يتداوله السوريون. هذا طبعاً عدا عمليات التهريب التي كان يديرها الأمير الآخر، تهريب كل شيء، الورود والعطور و«دباديب الفالانتاين»، وقصائد الغزل الممنوعة، وروايات عبير للجيب، وكتب دار التقدم ،ومقالات حسنين هيكل، وأغاني مايكل جاكسون. أما الأكيد والموثوق، فهو أنهم لم يتعاملوا بتهريب التبغ والسلاح وبقية الممنوعات، فهذه حصة البسطاء والغلابة ليكسبوا قوت يومهم منه. كان لدي قصة أخيرة في هذا الموضوع، لكنها بحاجة إلى توثيق صغير. قلت لنفسي سأستعين بأحد الاصدقاء العارفين، وفعلت ذلك عبر رسالة على الفايسبوك، فكان الحوار الآتي:
ـ الأمير فلان هو من كان يشجع نادي تشرين! مو هيك؟