غسان شربل: لا تغسل يديك//جورج سمعان: معركة درعا تعجّل التسوية أم… تقاسم سورية؟

303

 لا تغسل يديك
غسان شربل/الحياة/29 حزيران/15

لا تقل أن تونس بعيدة. وأن الرياح الليبية لفَحتها. ومعها الرياح الجزائرية القديمة. ورياح انخراط الآلاف من أبنائها في الحرب الدائرة على ارض العراق وسورية. وأن بلادك بمنأى عما يجري. وأن النار لن تصل اليها. ولا تقل أن الكويت بعيدة. وأن المذبحة التي شهدتها لن تتكرر في عاصمتك. ولا تقل أن فرنسا بعيدة. وأن شروط الهجوم هناك لا تتوافر في المجتمع الذي تنتمي أنت اليه. لا تختبئ خلف أصبعك. ولا تحاول التهرب. الوضع أشد خطورة مما تعتقد. «داعش» يقيم على حدود الخريطة أو يقيم داخلها.
هذه ليست حرباً تدور بين الآخرين وعلى أراضي الآخرين. لا تزعم أن براءتك تحميك. وأن ابتعادك يرد النار عنك. هذه مذبحة جوالة لا تستثني احداً. هذه حرب تعنيك أنت. وتعني أولادك أيضاً. تعني سلامتك. وسلامة وطنك. وأسلوب حياتك. وسلامة أحفادك من بعدك.
لا تغسل يديك لأن القتلى ليسوا من بلدك. أو دينك. أو طائفتك. أو لونك. حيال المذابح الصمت حليف القاتل. ولا تحاول العثور للمرتكب على أعذار. كأن تفتح دفاتر التاريخ وتقرأ عما ارتكب المستعمرون في سالف الحقب. ولا تحاول التبرير أن الجريمة من صنع فقراء ومهمشين اصطادهم متعصبون في لحظة ضعف. ولا تسارع الى إلقاء اللوم على ديكتاتور سابق. لا تبرر. من يقبل بقتل بريء في أقصى الأرض يقبل بقتل كل الأبرياء. من يتهاون بشبر يتهاون ببلاد كاملة. من يتهاون بسنبلة يتهاون بحقل.
لا تقل أن الأمر لا يعنيك. لا تغمض عينيك. ولا تتحدث عن نصف مذبحة لأن ضحاياها ليسوا من طينتك. ولا تحاول تحميل مطابخ الاستخبارات الأجنبية مسؤولية إنتاج هؤلاء الذين يستبيحون الخرائط والمدن والبيوت ويبتهجون بحز رؤوس المواطنين والدول. ثمة استخبارات تحاول الاصطياد في الماء العكر. قد يحدث ذلك. لكن لا تتهرب من الأسئلة الحقيقية. هؤلاء الوحوش جاؤوا من الشقة المجاورة. أو الحي الملاصق. أو المدينة القريبة. أو البلد المتاخم. كبروا في بيوت تشبه بيوتنا. وصلوا في مساجد تشبه مسجد الحي. والسؤال الحقيقي الحارق هو عمّا تعلموه. وفي إي كتب قرأوا. وماذا قالت الكتب. وماذا قال من اجتذبهم وحرضهم وأرسلهم بعدما غسل أدمغتهم. ماذا تعلموا عن الآخر. وحق الاختلاف. وعن الذي لا يشرب من النبع نفسه. ولا يقر تكفير الآخر. ولا يبيح قتله.
لا تغسل يديك. هذه المجازر الجوالة أخطر من 11 ايلول (سبتمبر). «داعش» أخطر من «القاعدة». أبو بكر البغدادي أخطر من اسامة بن لادن. جاذبية «داعش» تفوق جاذبية أسلافه. إنه «دولة». وخليفة. ونفط. وضرائب. انه كائن متوحش يلتهم الحدود ويتفنن في الاعدامات ويوزع الرعب ويشتت الجيوش. انه يلعب بالخريطة. وبالتاريخ. والمستقبل. بالكتب. وأسلوب العيش. وبمصير أولادك. انه عصر الظلمات. وإغراء العودة الى الكهوف. لا تزعم أنك محايد في هذه الحرب. أنت جزء منها شئت أم أبيت. على نتائجها سيتوقف مستقبل دولنا. وشعوبنا. ونمط حياتنا. وعلاقتنا بالعصر. والتكنولوجيا. وأفكار التقدم. والجامعات. ومراكز الأبحاث. هذه الحرب مفتوحة. وهي طويلة ومريرة. مفتوحة داخل منازلنا. وفي المدارس. والجامعات. وفي المسجد وعلى أطرافه. وداخل المؤسسات الدينية. والمناهج الدراسية. إنك جزء من هذه الحرب. ولا خيار أمامك غير الانحياز فيها الى معسكر الاعتدال. وقبول ما يستلزمه كسب الحرب من قرارات مؤلمة. من إصلاحات عميقة أو ثورة فكرية شاملة. إنها الطريقة الوحيدة لإنقاذ وطنك وأطفالك. إنقاذ أطفالك من مصير مشابه لمصير من سقطوا في تونس أو الكويت أو مناطق أخرى. لا تتهرب. لا تغسل يديك.

معركة درعا تعجّل التسوية أم… تقاسم سورية؟
جورج سمعان/الحياة/29 حزيران/15
الأزمة السورية أمام محطات مصيرية. خلال أيام يقدم المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا تقريره إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. يقدم فيه خريطة طريق لعقد «جنيف 3» من أجل تطبيق بيان جنيف الصادر في نهاية حزيران (يونيو) 2012. سيضمنه خلاصة اتصالاته مع الأطراف السورية والإقليمية والدولية المختلفة. أي خلاصة مواقف هذه الأطراف التي رفعت حدة صراعاتها السياسية ووتيرة حربها الميدانية على طول مساحة سورية. وستضع نتائجُ هذه الدينامية الجديدة في مسرح العمليات، البلادَ أمام محطة أو واقع جديد. فإما تأخير التسوية والغرق في مزيد من العنف والفوضى العامة التي قد تعجل في انهيار كامل للدولة وما بقي من هياكلها، وتطيح بآخر معالم الوحدة الوطنية، وإما غلبة للمساعي الديبلوماسية والعودة إلى البحث في المرحلة الانتقالية ودور رأس النظام ومستقبله.
والاستحقاق الثالث الانتخابات الداخلية في «الائتلاف الوطني» المعارض، فهل يكرس يد تركيا فوق كل يد ويُجدد للسيد خالد خوجة، أم تطرأ تغييرات جوهرية تبشر بطي صفحة لعبة الفصائل السياسية ورعاتها الإقليميين بعدما تجاوزتها التغييرات الميدانية. وهناك قبل كل ذلك مآل المحادثات النووية و»المزاج» الإيراني بعدها في الملفات الإقليمية. بعيداً عما يتضمنه تقرير دي ميستورا من آراء ومواقف وتوصيات، سيظل مستقبل الأزمة في سورية رهن نتائج «الحروب» الدائرة في هذا البلد، أو في جبهاته الجنوبية والشرقية والشمالية. بخلاف النظام وحلفائه من ميليشيات متعددة، هناك أربع قوى رئيسية تمسك بزوايا الميدان: ألوية «الجيش الحر» في الجنوب. «جيش الفتح» في الشمال الغربي. «وحدات حماية الشعب» الكردية في الشمال الشرقي. و»داعش» في الشرق وبعض الوسط. ولا مبالغة في القول إن الصراع الأميركي – التركي المكشوف تبقى له كلمة راجحة في تحديد مصير «جنيف 3» أو أي تسوية سياسية. لا يعني ذلك أن لا دور للنظام أو حليفيه روسيا وإيران. الأطراف الثلاثة هؤلاء يستعجلون أي تسوية سياسية، في ضوء ما حققته المعارضة المسلحة من مكاسب واسعة. ولعل المعركة في درعا جزء من الصراع المرير بين أنقرة وواشنطن، أكثر منها خطوة تسهل الطريق إلى دمشق وإسقاط النظام. بموزاة اشتعال النار في أكثر من جبهة، تنشط الاتصالات الديبلوماسية استعداداً للتغيير الآتي. لا يزال الجدل يدور حول دور الرئيس بشار الأسد: هل يبقى لفترة محددة أثناء بحث المعارضة وممثلين للنظام في موضع المرحلة الانتقالية وأداتها التنفيذية وصلاحيات هذه الأداة ومهماتها وجدول أعمالها ومدة إدارتها، أم يبقى في فترة ولاية المرحلة الانتقالية نفسها بعد الاتفاق عليها. وبصرف النظر عما سيؤول إليه هذا الجدل الذي يشمل أيضاً ولاية المرحلة الانتقالية وهل تمتد لستة شهور أم لسنتين، تتشكل بداية إجماع في صفوف «أصدقاء الشعب السوري» على القبول بفكرة بقاء الأسد حتى إبرام تفاهم بين جميع المعنيين بالأزمة، داخليين وخارجيين. بعض الأطراف الأوروبيين جادون في اقناع المعارضة، خصوصاً «الائتلاف الوطني» بالسير في هذا الاتجاه. بينما لا تزال قوى أخرى على رأسها تركيا تعمل على تأخير «جنيف 3» أو أي بحث في التسوية. لقد دفعت الفصائل في ريف حلب وإدلب نحو تشكيل «جيش الفتح». وحقق مشروعها مكاسب كبيرة من إدلب إلى جسر الشغور. لكنها ظلت عاجزة عن تسويق هذا الجيش بديلاً مقبولاً بعد رحيل الرئيس الأسد.
بل أكثر من ذلك، ما حققه «التدخل» التركي أثار حفيظة الأميركيين. هالتهم الانهيارات السريعة لجبهات النظام في إدلب وجسر الشغور وغيرهما. وهالتهم محاولات أنقرة دفع قادة «جبهة النصرة» إلى الخروج من صفوف «القاعدة». رفضوا فكرة تسويق جيش «الفاتحين» الجدد في الشمال بديلاً من النظام الذي يشارف على السقوط. ويبدون مصممين على عدم تكرار ما حصل في الشمال السوري. موقف واشنطن هذا لا يشكل وحده عنصر إضعاف لموقف أنقرة. ذلك أن فكرة تعميم «جيش الفتح» في باقي الجبهات لم تنجح، نظراً إلى خصوصية كل منطقة وتركيبتها الاجتماعية وموقعها الجغرافي في المحيط الإقليمي. بل لم ينجح رئيس «الائتلاف الوطني» الذي بات أكثر استجابة لمواقف تركيا وميلاً لها، في لقاء المسؤولين الأردنيين أو قادة «الجبهة الجنوبية» للبحث في توحيد الهيكل العسكري في محافظة درعا. وبالطبع لا يمكن أن يشكل «جيش الفتح» في الجنوب الذي أعلن قيامه قبل أيام، نداً لـ «الجبهة الجنوبية» التي يقودها «الجيش السوري الحر». إضافة إلى ذلك تشكل وحدات «الحماية الشعبية» ونجاحاتها الميدانية من كوباني إلى تل أبيض تحدياً كبيراً لسياسة حكومة رجب طيب أردوغان وداود أوغلو. وهي السبب الحقيقي للصراع بين أنقرة وواشنطن منذ قيام التحالف الدولي لمحاربة «داعش». كما أن الخلافات الواسعة بين فصائل المعارضة السورية تضيق هامش التحرك أمام سياسة حزب العدالة والتنمية. وانضاف إلى هذه العوامل التغيير السياسي المرتقب في تركيا الذي فرضته نتائج الانتخابات البرلمانية، والولادة النيابية القوية لحزب الشعوب الديموقراطي الكردي.
الرئيس التركي اردوغان توجه إلى المجتمع الدولي، خصوصاً الولايات المتحدة، مردداً موقفه: «مهما كان الثمن، لن نسمح مطلقاً بإقامة دولة (كردية) جديدة على حدودنا الجنوبية في شمال سورية». وجدّد اتهام الكرد الذين طردوا «داعش» من مناطق محاذية للحدود مع بلاده بأنهم يريدون «تغيير التركيبة الديموغرافية» بتهجيرهم السكان العرب والتركمان من هذه المناطق. في مقابل ذلك لم تكف دوائر أميركية وأوروبية عن اتهام أنقرة بتسهيل عبور المتطرفين إلى سورية، وحتى مساعدتها «تنظيم الدولة». هذا الصراع بين إدارتي الرئيسين باراك أوباما وأردوغان يؤكد أن الخلاف بينهما منذ إعلان التحالف لم يكن على سلم الأولويات: رأس النظام في دمشق أم رأس «ابي بكر البغدادي»… بل القضية الكردية. بات واضحاً لأنقرة أن الأميركيين يجدون في الكرد، سواء في العراق أو في سورية، هيكلاً موحداً ومنظماً وجاهزاً ومستعداً للتعاون من دون شروط وعقد وتعقيدات، للإنخراط في محاربة الإرهاب. في حين تخشى هي قيام كيان ذاتي شمال شرقي سورية مشابه لكردستان العراق، يسهل مستقبلاً قيام الدولة الكردية المستقلة التي تعذر قيامها إثر انهيار السلطنة العثمانية وتقاسم الانتدابين الفرنسي والبريطاني المنطقة. ولا شك في أن نجاح الكرد في ترسيخ إدارتهم لمناطق انتشارهم السورية يضعف نفوذ «داعش» مثلما يضعف تركيا في الصراع على الاستئثار بالورقة الشامية. وسيشغلها أيضاً اندلاع حرب طويلة بعد توجه وحدات «الحماية» الكردية نحو الحسكة لقتال الارهابيين.
كما أن الأردن الذي يراقب بهدوء ما يجري على جبهتيه الشمالية والشرقية لا يقف مكتوفاً. الملك عبدالله الثاني أكد علناً وصراحة «أن من الواجب علينا كدولة دعم العشائر شرق سورية وغرب العراق»، في مواجهة التنظيم الإرهابي. وأشار إلى أن «العالم يدرك أهمية دور الأردن في حل المشكلات في سورية والعراق وضمان استقرار المنطقة وأمنها». «تحالف القوى العراقية»، أبرز التشكيلات السياسية السنّية، رحب بتصريحات الملك: «العشائر العراقية في المحافظات الغربية والتي تربطها وشائج القربى والمصاهرة مع العشائر الاردنية بحاجة حقيقية الى دعم كل الاشقاء والاصدقاء لتزويدها بالسلاح (…) بخاصة بعد تأكيد الحكومة المركزية عجزها عن تزويدهم بالسلاح وضرورة اعتمادهم على إمكاناتهم الذاتية» التي يتصدون بها لـ «داعش» على مدى أكثر من عام ونصف عام. وفي الساحة السورية تؤدي عمان دورها بدقة وتزين مواقفها بميزان دقيق. لم ولن تسمح بسيطرة قوى متشددة على مناطق محاذية لحدودها. في النهاية لن تتردد المملكة في اقتطاع حصتها إذا لم يكن بد من تقاسم إقليمي سواء للعراق أو لسورية. في ضوء هذا الواقع تبدو معركة درعا منعطفاً. فسقوط المحافظة بيد «الجبهة الجنوبية» يرجح كفة الساعين إلى تسوية سياسية عاجلة. ذلك أن وصول المعارضة إلى مشارف العاصمة قد يقنع النظام أخيراً بوجوب التوجه جدياً نحو التسوية السياسية. وروسيا ليست بعيدة عن فكرة التخلي عن الرئيس الأسد بعدما اقتنع الآخرون ببقائه في المرحلة الانتقالية. مثل هذه التسوية يحافظ على ما بقي من الدولة ويحفظ لكل المكونات والأقليات مستقبلها ودورها. وبذلك تحافظ موسكو على حصتها وحضورها عبر ما للأقليات، خصوصاً العلويين… إلا إذا غامرت تركيا بدفع «جيش الفتح» نحو حلب، وهو أمر بقدر ما هو سهل عسكرياً يظل صعباً سياسياً. إذ لا يمكن أردوغان أن يرفع التحدي بوجه واشنطن إلى هذا الحد. كما لا يمكنه وهو يبحث عن حليف لتشكيل حكومة جديدة أن يخطو نحو تدخل مكشوف يرفضه كل خصومه السياسيين… أو إذا غالت إيران في العناد بعدما واجهت وتواجه من تحديات في اليمن والعراق وسورية، وحالت دون إبرام حل سياسي. عندها لا يبقى خيار سوى اقتسام بلاد الشام بين القوى الإقليمية المحيطة، من تركيا إلى إيران والأردن وإسرائيل. مصير بائس لبلاد كانت قبل خمس سنوات لاعباً كبيراً يقارع هذه الدول والآخرين خارج حدوده، من لبنان إلى العراق ومن غزة إلى كردستان وديار بكر!