الكولونيل شربل بركات/الشغيلة وانجازاتهم في بلدتنا الحبيبة عين إبل

94

الشغيلة وانجازاتهم في بلدتنا الحبيبة عين إبل
الكولونيل شربل بركات/21 حزيران/2021

منذ نشؤ عين إبل الحديثة ونحن نسمع عن أولئك العاملين بكد لكي يستحقوا شرف الاستمرار في هذه البقعة من لبنان التي كانت تسمى بلاد البشارة، وقد أعطاها الله كل ما يحتاجه الفلاح النشيط؛ اي الأرض الجيدة إذا ما شغلت، وتعدد التلال والواجهات، وكثرة الأحراش والنباتات التي يتطلبها مسكنه وسياجه وحيواناته، واختلاف التربة لتكون سنده في تنويع الغلال فتؤمن كفايته من جهة ومصدر مواد البناء التي يحتاجها منزله من جهة أخرى. وهي بعيدة عن البحر ما يكفي لتقل الرطوبة نسبيا في أجوائها، ولكنها تتمتع بهواء متحرك يسهم في الكثير من الأعمال التي يحتاجها الفلاح، خاصة اقامة البيدر وحاجته للطاقة الهوائية لكي يفرز بواسطتها الحبوب عن القش، وحتى الأوراق عن زيتونه المقطوف قبل أن يعصر.

ولكن كل هذه إذا لم تترافق بهمة ونشاط يستخدمان الموجود من الطبيعة والامكانيات فهي لا تنفع، ومن هنا فقد بقينا نسمع عن همة من سبقنا ونشاطهم، لا بل عايشنا بعضهم وتعلمنا منهم كيف تدار الأمور ويستعمل النهار بكامله. كانت جارتنا أم يوسف مرّون إحدى هؤلاء النشيطين فهي من بيت خريش، وهؤلاء لهم سمعة بالنشاط والعمل الطويل في حقولهم، حتى كانت أول النجوم التي نراها صيفا قد دعيت في البلدة باسم “نجمة بيت خريش”، وقيل بأن هؤلاء لم يكونوا يعودوا إلى بيوتهم قبل ظهور تلك النجمة، ما يعني بأن الليل قد أوشك على الحلول ولا بد من العودة والانتهاء من الاعمال. وقد كان زوجها قتل في مشكل عائلي في البلدة ولها منه شاب وحيد في مقتبل العمر وأربع بنات، فكنا نراها منذ الفجر وقبل طلوع الضو وقد تجهزت للذهاب إلى الحقل وصوتها يلعلع في جوانب الحي، وهي تعطي توجيهاتها لمن لم يكن بعد مستعدا. وقد تذكرتها وأوامرها الصارمة ونظرتها القاسية يوم كنا نقف صفوفا في المدرسة الحربية أمام المعاون رزق الذي عاقب مرة أحد التلامذة لأنه “كان بنيته أن يبتسم”. ولكن جارتنا مرّون كانت تبتسم أحيانا للصغار إذا لم تكن مشغولة ولا يراها أحد، وهي من النوادر.

كانت مرّون، التي قادت “فصيلة” من الشغيلة الأشداء، وخرّجت مجموعة من العارفين بدقة المواعيد والكادحين لحث التربة على الانتاج تعاني من نوع من العصبي عقد بعض أصابيعها ولكنه لم يمنعها عن العمل. وقد نصب وحيدها الكروم كما السناسل على الخيط، ولم يشارك التراب في كرومه أي نوع من الحجارة، فكلها مشقوع على سناسله بانتظام، بينما تتغاوى أشجاره فوق حبات التراب الأحمر الخالي من اي نوع من الأعشاب الضارة، وحتى الربعان مستغلة بشكل جيد ومزروعة بشجيرات السماق أو بعض أشجار اللوز أحيانا حيث يعمل المنكوش عمله بينها. أما بناتها فقد اشتهرن بالعمل والانضباط والصوت العالي الذي يرتعد منه كل كسول، وكن خير معين لأزواجهن فيما بعد على الانتاج والعمل، يترافقون كل صباح إلى الحقول ويمعنون بتنفيذ برامج وضعوها لأنفسهم تؤمن خير المواسم بدون اضاعة الوقت بالتذمر و”الفلسفة المحمضة”.

لم يكن العمل والنشاط مقتصرين على بيت خريش فقط ويمكننا عندما نقوم بجولة أفق سريعة على وسع الأراضي وتنوع المالكين معرفة النشاط الذي رافق كافة العائلات العينبلية التأكد من تلك العدوى الجيدة التي تسمى الاندفاع نحو العمل المجدي، وعندما نرى الأراضي التي تبعد عن البلدة صوب جل الحداد والسلمي مثلا أو صوب خلالي النجار في الجنوب الشرقي ما بعد رميش باتجاه كفر برعم أو تلك التي مدت حدودها حتى راس المنصورة باتجاه يارون والقدام باتجاه بنت جبيل أو أملاك عيتا ودبل غربا وتربعت فوق المعتق من الجنوب ثم تجازوت شلعبون باتجاه عين سدير حتى حدود بركة كونين، كل هذه لا بد بأنها شهدت أياد واصرار على العمل الطويل والتعلق بهذه الأرض وحدها مصدر الرزق. وإذا ما تسألنا عن أرض بيت روكز ابن الخوري يوسف مثلا الذي ارتسم ثلاثة من أخوته كهنة (وهم الخوري ابراهيم قديس نيحا الشوف، والخوري بطرس العينبلي أحد مؤسسي رهبنة الكريم، وخليل الذي ارتسم على اسم ابيه الخوري يوسف وخدم رعية عين إبل بعده، ومن ثم ابن شقيقه بولس ايضا الذي ارتسم كاهنا باسم الخوري ابراهيم وهو من عمرت كنيسة السيدة الجديدة على ايامه، وأبنة عمه رفقة التي أخذت اسم زوجة عمها ونذرت نفسها لخدمة الله بعد أن التحقت بالرهبانية على مثال أبناء عمها ومن ثم، يقول التقليد العينبلي، بأنها عملت عدة عجائب وقد نالت فيما بعد عطر القداسة) فقد كان نشيطا بدون شك كما أخيه مخايل الذي توفي بدون عقب. ومن هنا اتساع أراضيه، ولو لم نكن نذكر من سلالته سوى الأخوات مرّون وسارة ومسيحية ولطيفة، أخوات كريم حفيد روكز من ابنه ابراهيم، لعرفنا بسهولة معنى استمرار ذلك “الشرش” النشيط والمصر على العمل والانتاج بدون تعب أو هوادة، وقد رافقناهن في العمل والتنظيم والدقة بتنفيذ المهمات. من هذا المثل البسيط نستطيع أن نفهم أهمية الجهد والمثابرة التي رافقت الجدود فأصبحت أراضي البلدة جنائن معلقة ومصدر خير وكفاية لمن تشبص بهذه الأرض الطيبة وعمل فيها وأحبها فبادلته حنوا وعطاء.

فهل يعرف الجيل الجديد معنى العمل والمداومة على الشغل بكل نشاط واندفاع لتزهر الأراضي مجددا وتفرح عظام الجدود؟ أم أننا تعبنا وصارت الأرض المشتاقة لمن يساعدها على العطاء تتململ من قلة وجودنا وتتحصر على من كان لها صديقا وفيا يعطيها اهتماما فتزيده خيرا وينعم بمداعبة ترابها فتحنو عليه وتبارك خطواته؟

الأرض التي جمعت بالعرق والجهد تترحم على من كان لها رفيقا، فهل نجدد النشاط وننتقل إلى طرق حديثة يرافقها الاصرار على التمسك بها وتحفيذها على العطاء مجددا؟ وهل تكون هذه الأزمات التي نمر بها حافذا لنا للعودة إلى دائرة الانتاج الطبيعية التي عاشها الجدود فتوسعت مجالات عملهم؟ أم أننا زوار قليلي الهمة سنهرب من التعب الذي يجوهر البدن إلى الكسل الذي يقتل النفوس ويغلق العقول ويجعل منا مجموعة معاقين يلزمهم من يطعمهم ويقودهم إلى الأسرة التي بها ينتهون؟

الحاجة كانت دوما سر النجاح والارادة وسيلته والمواظبة على العمل والاصرار الطريق الأقصر لتجاوز المحن. فهلا تكاتفت الأيدي ونسينا الاتكالية التي تعلمناها وشمرنا عن السواعد وبدأنا مشوار النهضة  والقيامة، بأفكار متطورة ووسائل بديهية تنمي فينا من جديد روح المبادرة والخلق، فنغير الواقع وننسى الاستزلام والتبعية وتعود لنا عزة النفس التي ترافق كل منتج يتكل على نفسه ويعمل بحرية واندفاع في مداه الطبيعي؟