الكولونيل شربل بركات/هدايا الماضي القريب: صفحات من تاريخ بلدة عين إبل في الخمسينات من القرن الماضي 

107

هدايا الماضي القريب: صفحات من تاريخ بلدة عين إبل في الخمسينات من القرن الماضي 
الكولونيل شربل بركات/30 أيار/2021

في الخمسينات من القرن الماضي، وبعد عودة المهاجرين من حيفا بسبب نشوء دولة اسرائيل وحروب العرب معها وما تبعها من تهجير، فتح سوق العمل في الكويت أول دولة خليجية استقبلت لبنانيين بعد بدء انتاجها النفطي، ومن ثم تبعتها قطر وعدن، وهي مراكز كانت بريطانيا لا تزال تديرها. ولذا فقد ساهم وجود الشركات الأنكليزية العاملة في هذه الدول باستيعاب بعض من عمل في حيفا سابقا، لخبرتهم في العمل معهم من جهة، ولتوفير مجال لتحسين أوضاع من تأثر من تغيير السلطة في فلسطين وخسر مصدر عيشه من جهة أخرى.

كان العينبليون أكثر من دفع ثمن تسكير الحدود، كون الجالية العينبلية في فلسطين كانت فاعلة ولها أعمالها ومشاريعها في المدينة. فأول العاملين فيها من بيت شحادة أو بيت الأشقر دياب أو بيت عتمه وغيرهم كانوا قد بدأوا الهجرة إلى المدينة الناشئة قبل بداية القرن العشرين، وبوجود جالية ألمانية كانت أستقرت فيها أثناء التفاهم بين الأمبراطورية الألمانية والسلطنة العثمانية، وأسست مشاريع زراعية وعمرانية ساهمت في تطويرها وجعلها أحدى المدن المهمة على شاطئ المتوسط الشرقي. ولكن بعد خسارة المانيا الحرب ودخول الأنكليز إلى المدينة بدأ انحسار الوجود الألماني فيها شيئا فشيئا، ليكبر سوق العمل مع تطوير سكة الحديد والمرفأ، ووصول خط النفط العراقي إليها، واقامة مصفاة لتكريره على المدخل الشمالي للمدينة. فبعد أن كان العينبليون المهاجرون عملوا مع الألمان بمجال الزراعة في البدء، أو الوظائف الادارية البسيطة، تحول من قدم لاحقا وبعد كارثة العشرين إلى مجال الخدمات والاعمال الحرة من جهة، والوظائف الصناعية، خاصة في سكة الحديد والمصفاة من جهة أخرى. وتعلم الكثيرون منهم مهناً ارتبطت بمجال التصنيع أو البناء والصيانة. ومن هنا، ويوم فتحت أسواق العمل في الدول العربية، خاصة عدن وقطر والكويت، كان هؤلاء من أوائل المنتقلين إلى هذه الدول للعمل. فهم لم يقدروا أن يتقبلوا العودة إلى العمل الزراعي في البلدة، والذي كان أغلبهم قد تركوه منذ زمن، واتجهوا إلى الأعمال التي تعج بها المدن، وهي الخدمات والوظائف في الشركات الكبرى.

وقد كانت السنوات الأولى بعد 1948 ثقيلة على العينبليين. ففي بدايتها استقبلوا، ليس فقط ابناءهم، ولكن أفواج اللاجئين الهاربين، حيث شحت المياه والأكل بسبب كثرة النازحين، ومن ثم جاء جيش الأنقاذ ليزيد على الطين بلة، فيعبث بمصادر رزق هؤلاء الفلاحين، ويعتدي على الأملاك، ويخرّب التنظيم الاجتماعي الذي كانت البلدة تقوم عليه. لذا كان هناك تحرك لرفع هذا الثقل. وما لبث جيش الانقاذ أن غادر ثم بدأت الدولة تنشيء مراكز ومخيمات للاجئين حول المدن الكبرى وتستوعب هؤلاء الذين بدأوا يتركون شيئا فشيئا القرى الجنوبية ليستقروا في مخيمات الأنوروا. وقد بقيت شاحنات الاغاثة الزرقاء التابعة للأنوروا والتي تحمل علم الأمم المتحدة تزور عين إبل شهريا لتقدم، لمن يقيم فيها من الأهالي الذين كانوا يسكنون في فلسطين، حصة عذائية تكونت من الطحين والزيت والسكر وبعض الحبوب وأحيانا البطانيات والألبسة الشتوية وحتى الأحذية.

في الكويت خاصة، عاش العينبليون في البدء في ما يشبه مخيمات العمل، وكانت كناية عن غرف تأويهم للنوم ليلا تسمى الحوش، ولا وجود لمكيف أو حمامات حديثة فيها، وكانت المياه تغلي في حرارة الشمس، وينتظر هؤلاء العمال قدوم الليل لكي يقدروا على استعمالها للغسيل والحاجات الأخرى، ومن هنا صعوبة تلك المرحلة. ولكن عندما يعود بعضهم بعد سنوات من العمل لقضاء شهرا من فصل الصيف في عين إبل، كان القادم، والذي عادة ما يرسل بعض المال لعائلته خلال السنة لدعمها وتحسين وضعها المعيشي، يعود إلى البلدة وقد ارتدى البنطلون المكوي والقميص الأبيض تلات خمسات المنشى، ويضع في جيب قميصه علبة دخان لوكي سترايك، ويحمل أحيانا كثيرة كاميرة تصوير ونظارات شمسية، ويضع على شعره بعض البريل كريم الذي يبقيه مصففا ولماعا كممثلي الأفلام، ما يجعل الكل يتمنى أن يتشبه به، وخاصة اذا ما أحضر معه هدية للأقارب أو للمختار.

وكانت الهدية الأفضل قلم حبر ماركة باركر أو قداحة رونسون أو اشارب للنساء وقميص للرجال وهذه بأغلبها لم تكن موجودة في دكاكين الضيعة، ومن هنا أهميتها. وكان أيضا من جملة الهدايا التي تظهر كرم القادم الجديد لرفاق جيله جروس دخان من الدخان الأميركي خاصة اللوكي سترايك يوزع بعض علبه للأصدقاء المقربين ويستعمل ما تبقى خلال وجوده في البلدة. وكان هذا المظهر للعائد من الغربة، وخاصة إذا كان لا يزال أعذبا ويشكل مشروع زواج، مهم جدا لأنه يعطي فكرة عن وضعه المادي الذي تحسّن كثيرا بسفره إلى بلاد النفط. ما كان يبعث عند الصغار الرغبة في الهجرة إلى تلك البلاد وبناء الأحلام الجميلة عن العمل والثروة، خاصة من كان يعاني من مشاكل مع الاساتذة والمعلمين في المدرسة. من هنا وفي كل سنة كان بعض التلامذة يتركون صفوفهم أو يهربون من المدرسة ليلتحقوا بقوافل المهاجرين إلى الكويت، معتقدين بأنهم سيجدون هناك أعمالا سهلة. ولكنهم كانوا يصدمون من صعوبة العمل تحت أشعة الشمس المحرقة، ويندم الأغلب عن قراره المتسرع، ولكنه كان يضطر بعد اقناع الآخرين له بأنه لا يجب أن يعود قبل أن يجمع، على الأقل، النيلون لكي لا يكون عرضة للسخرية في البلدة. وهكذا يعتاد على العمل والانتاج، ومن ثم، وعندما يعود إلى البلدة وقد حمل الهدايا وذلك المظهر الأنيق الذي يبعث على احترامه، تهون عليه الأيام الصعبة التي قضاها في حرارة الشمس يعمل بدون كلل لينعم بتلك الابتسامة وذلك التقدير من أبناء البلدة الذين يعتقدون بأنهم يجهدون أكثر منه.

هذه المظاهر جعلت الكثيرين يتركون المشاريع الزراعية الصغيرة التي اعتادوا على ادارتها والتي كانت تكفي حاجة أصحابها وعيشتهم المستورة في البلدة بين الأشجار الوارفة الظلال والنباتات الطيبة المذاق والطقس المعتدل الجميل، وقد تعلموها وورثوها من الآباء والأجداد بدون كثير من العناء، ولكنها بالطبع لم تكن تدر عليهم ما يسمح بشراء عدة التباهي تلك، التي تميز المهاجرين إلى بلاد القيظ وصحاري الرمل وزوابع الغبار الخانقة أحيانا. ما جعل الأراضي تبور شيئا فشيئا والأعمال تنحصر في الوظائف العامة القليلة، وأحلام الشبيبة في التوجه صوب المدن ومحاولة العمل في مهن تؤمن أجرا ثابتا لا في مجالات الانتاج التي قل دخلها بتدفق البضائع الرخيصة واغلاق الحدود الذي قلص مجالات التجارة وحصر الحركة باتجاه واحد جعل هذه المنطقة في آخر الدنيا وقد منع حتى على اللبنانيين زيارتها بسب حالة العداء المستوجبة ووضع المنطقة العسكرية المفروضة.