الياس الزغبي: الرئاسة الخفيفة

152

الرئاسة الخفيفة
الياس الزغبي/لبنان الآن/11 حزيران/16

لم يحدث على مدى 90 عاماً، منذ أن بدأ يكون للبنان رئيس جمهوريّة، أن شهد الاستحقاق الرئاسي انحداراً في أسلوب السعي والترويج والأداء السياسي، كما يحصل الآن.

بدأ الاستحقاق، قبل أكثر من عامين، بمستوى رفيع وشفافيّة سياسيّة وطريقة حضاريّة على طرف واحد من الثنائيّة السياسيّة اللبنانيّة بين 14 و 8 آذار.

فقد أقدمت “14 آذار” على تسمية مرشّحها للرئاسة علناً ومن دون مواربة أو تلطٍّ، هو الدكتور سمير جعجع، الذي لم يتأخّر في إعلان برنامجه الواضح والشامل بأبعاده الوطنيّة والسياسيّة والدبلوماسيّة والاقتصاديّة والبيئيّة والتربويّة والثقافيّة، والإنمائيّة التطويريّة العامّة.

بينما نام فريق “8 آذار” على مرشّحه وبرنامجه، واعتمد طريقة التسريب والاستنتاج، وكأنّما الرئاسة مسألة فيها نظر أو خجل. وظلّ المرشّح “المعلوم – المجهول” يمرّر اسمه من تحت الطاولة عبر أنصاره تارةً، وعبر “حزب الله” تارةً أُخرى. واتّسم أداؤه بالتستّر، حتّى في ذروة سعيه إلى كسب ودّ رئيس “تيّار المستقبل” سعد الحريري، والهرولة إليه في أوروبا ووادي أبو جميل. وكلّ ذلك من دون كلمة واحدة عن الرؤية الوطنيّة والسياسيّة، اعتماداً للقاعدة البائدة: “الشخص هو البرنامج”!

واستمرّ أداء فريق “14 آذار” مع مرشّحه حضاريّاً ديمقراطيّاً، في دأبه على حضور جلسات الانتخاب، الواحدة تلو الأُخرى، والاحتكام إلى صندوقة الاقتراع، بينما انحدر أداء “8 آذار” إلى المقاطعة وتعطيل النصاب تحت ستار الحقّ في تغيّب النائب عن واجبه، إلى ما شاء الله، أو حزبه!

وقد نجح المقاطعون في خفض مستوى الاستحقاق الرئاسي إلى مستوى البازار المفتوح: لا ننزل إلى الجلسة إلا إذا كفلنا وصول من نريد، فيكون التصويت مجرّد فولكلور للبصم على فرض مرشّح بعينه، ودائماً تحت الشعار الخادع: الميثاقيّة. فكم من الأخطاء والخطايا ارتُكبت وتُرتكب باسمها!

خصوصاً بعد افتضاح أمر “حزب الله” في تكريس حال الفراغ الرئاسي، ولو على حساب حليفيه.

والأسوأ أنّ المرشّح “الميثاقي” غير سيادي، طالما أنّه مرتبط بسلاح غير شرعي يقوم بوظيفة خارجيّة خارقة للسيادة اللبنانيّة، فتصطدم الميثاقيّة بالسياديّة في الشخص نفسه.

لكنّ الأمر ظلّ مقبولاً في إطار التجاذب الإقليمي حول الرئاسة اللبنانيّة، إلى أن جاءت الصدمة السياسيّة بترشيح “بيت الوسط” سليمان فرنجيّة من حيث لا يحتسب كثيرون، ودائمأً بحجّة كسر الفراغ، ولو بأيّ ثمن، وعاجلتها صدمة أُخرى لا تقلّ عنها قوّة، بترشيح ميشال عون من “معراب”.

هنا، تحوّل ما كان مقبولاً ومحمولاً، إلى مأزق لا يعرف أيّ فريق سبيلاً للخروج منه. وبدأ الاستحقاق الرئاسي يهبط نزولاً، في الأداء والمستوى وحسابات الدكّان.

والمضحك المبكي أنّ مرشّحاً يجلس على أريكة شرفته، ويبدأ بالتقاط كلمة هنا وإشارة هناك ودعوة عشاء هنالك، كي يبني بيتاً من وهم، وينام على حلم يقظة في أريكة قصر بعبدا.

لقد باتت الرئاسة الأُولى في لبنان، معقودة على لسان وزير، أو سفير، أو هبوط حظّ غريم، أو كلمة عابرة من كريم… وهكذا هبط مستوى الرئاسة إلى وضع الغريق المتمسّك بحبال الهواء، والتبصير بفنجان العرّافين، أو الغرق فيه.

والعودة إلى المستوى الرئاسي المطلوب ليست مستحيلة.

فطالما أنّ المراجعة بدأت في نتائج الانتخابات البلديّة بإخفاقاتها ونجاحاتها، خصوصاً على مستوى رصد إرادة الناس وتوجّهاتهم الحقيقيّة، لا بدّ من الربط بين الإخفاقات والخيارات الرئاسيّة التي اتُخذت، وعدم إهمال أنّ الترشيحَين الرئاسيّين كان لهما صدى سلبي قويّ في صناديق الاقتراع. هذا ما حصل في طرابلس من جهة، وفي غير منطقة مسيحيّة من جهة أُخرى.

وبالتأكيد، ليست المكابرة صفة العقلاء، بل النقد الذاتي أو فحص الضمير. والشجاعة السياسيّة تقضي بالاعتراف بأنّ نتائج صناديق البلديّات حملت رسالة رئاسيّة، وليس نيابيّة وإنمائيّة فقط، وكان النموذج  الطرابلسي خير دليل. فالطرابلسيّون صوّتوا بلا مزدوجة للمرشّحَين، إلى جانب التصويت السياسي والإنمائي.

ولعلّ آخر الرسائل جاءت من كسروان في مناصفة صندوق اتحادها، حيث أنقذ محسوبان على “الكتائب” ماء وجه المرشّح، مرّةً ثانية، وعلى الحافّة، بعد بلديّة جونية.

كلّ هذه المؤشّرات تؤكّد أنّ الملفّ الرئاسي بات في حاجة إلى إعادة إحياء وتجديد بمستوى المقاربة وأحقيّة التمثيل ووحدانيّته، وإلى ضرورة التدقيق والتبصّر في معنى الميثاقيّة الحقيقيّة التي لا تناقض السيادة، وفي واقعيّة الأرقام والأكثريّات “الساحقة” والأقلّ سحقاً.

والأهم، تخليص الاستحقاق الرئاسي من خفّته، ومن خطّة تسخيفه، والعودة به إلى مرحلة القيم والأفكار والأُسس والأداء النبيل، التي بدأتها قوى “14 آذار” بثوابتها ومبادئها، ومرشّحها الأصيل، وبرنامجه.