ساطع نور الدين: لبنان يحتضر/علي الأمين: هل قامت الثورات ضدّ الإستبداد حتّى لو كان دينيًّا/حازم الامين: رائحة غامضة في بيروت من عوارض موت وشيك

291

 لبنان يحتضر
ساطع نور الدين/جنوبية/الأحد 10/04/2016

علامات إحتضار لبنان متعددة. الأدلة تكاد تكون يومية. وهي تبدو أقوى من تلك البراهين التي قدمتها الحرب الاهلية، والتي تحضر ذكراها هذه الايام في الروائح الكريهة المنبعثة من كل مكان، والمحفزة على المقارنة، بل المخاطرة في التعبير عن الحنين الى تلك الحقبة السيئة الذكر.العلامة السياسية على ذلك الإحتضار ليست سوى تعبير عن انحدار اقتصادي لم يسبق له مثيل، حتى في ذروة المعارك على الجبهات وخطوط التماس، وتفكك طائفي-مذهبي متجدد زرعت الحرب الاهلية بذوره وحان موعد حصاده الجديد. السلطة الراهنة هي نتاج تلك الحرب، ورموزها هم الورثة الشرعيون، والجمهور في غالبيته الساحقة، ما زال يحارب ولكن باشكال أخرى. الطارىء الوحيد الذي يغذي ذلك الاحساس الداخلي، والتقدير الخارجي (العربي والاجنبي) الذي يتردد في مختلف العواصم الكبرى، بان لبنان على وشك الانهيار، هو الانفجار السوري الذي دمّر دولة الجوار اللصيق، التي كانت وستظل تمتلك شروط بقاء لبنان واستمراره مهما كان نوع نظامها المقبل وطموحه. الدولة اللبنانية التي تُشيّع اليوم بمرثيات صاخبة، لم يكن لها وجود فعلي سابق، كانت هناك محاولات متكررة لبنائها، او بالاحرى لاعادة بنائها حسب التعبير المهذب، لكنها كلها باءت بالفشل. وكذا الامر بالنسبة الى الاجتماع اللبناني الذي لم يقدم يوماً أدلة دامغة على الوحدة والتماسك ولم يعثر على الكثير من القواسم الوطنية المشتركة. الانفجار السوري فضح الجميع في لبنان، وأربك الجميع خارجه. ولعل الردح اللبناني المتواصل حول تورط حزب الله في سوريا وتدفق مئات الالاف من النازحين السوريين الي الاراضي اللبنانية، هو أقل شأنا من الازمة الاعمق التي يجتازها الكيان اللبناني. وقد يكون هذان الحدثان، اللذان سبق للبنان ان أختبرهما بالتحديد مع التورط اليساري السابق خارج الحدود اللبنانية ومع الهجرة الفلسطينية داخلها، من المعالم الايجابية، ليس بإعتبارهما درساً او عبرة، بل بصفتهما نداء موجهاً الى وسطاء الحل السوري، لوضع لبنان على جدول الأعمال، لا بإعتباره واحداً من خطوط التماس الخلفية السورية، ولا بصفته محافظة سورية ذات حكم ذاتي خاص، على ما يردد بعض الغلاة السوريين، بل بوصفه كياناً ملحقاً بالكيان (الكيانات) السوري العتيد. ثمة إجماع لبناني على أن الانفجار السوري هو أحد أهم أسباب الإحتضار اللبناني الراهن، على الرغم من الخلاف حول مسؤولية الوصاية السورية او الخارجية، وغيابهما المأسوف عليه من غالبية لبنانية وازنة. لكن ذلك لا يعني بالضرورة ان حلول السلام السوري يقود حكماً الى إستقرار وإزدهار لبناني جديد. والاعتماد على الهدوء النسبي الذي ينعم به لبنان بالمقارنة مع الاضطراب السوري والعربي الشديد، لم يخدم أي غرض ولم يؤسس لغير الموت البطيء للكيان اللبناني، حسب تعبير أشد العرب والاجانب حرصاً على بقاء لبنان. ثمة حاجة الى مخيلة سياسية واسعة تبتكر إلحاق لبنان بعملية السلام السورية التي تخطو خطواتها الاولى المتعثرة. ليس المقصود بذلك ان يتحول حزب الله الى مفاوض او شريك في تلك المفاوضات، لان مستقبله السوري لا يمكن ان يشكل ورقة مؤثرة على أحد من السوريين، كما ليس المقصود ان يتواصل الزجل اللبناني حول خطر توطين النازحين السوريين. فالقضيتان خاسرتان، لان الحزب أصغر من أن يكون حاسماً في الداخل اللبناني، بالرغم من كل ما يقال من جانب خصومه عن تحكمه بمفاصل الدولة، ولان النزوح السوري يمكن ان ينقلب الى نزوح لبناني في إتجاه سوريا، في اللحظة التي يتغير فيها النظام في دمشق. أسوأ ما في حالة الإحتضار اللبناني الراهنة أنها تزعم أن إختيار رئيس وتشكيل حكومة واجراء انتخابات بلدية او نيابية هي الشروط الالزامية الوحيدة لقيامة لبنان..الذي لا يزال يعيش في مرحلة ما قبل اختراع فكرة الدولة، ولا يزال يحتقر تلك الفكرة، ولم تنفع جميع التجارب السابقة في إنتاجها.

هل قامت الثورات ضدّ الإستبداد؟ حتّى لو كان دينيًّا؟
علي الأمين/جنوبية/10 أبريل، 2016

تعرّض الإسلام، كدين سماوي، لتشوّهات عديدة من قبل الذين رفعوا لواءه، أكثر ممّا تعرّض من أولئك الذين خاصموه. تشوّهات نعانيها اليوم في العالم العربي والاسلامي، وصدّرها أنفسهم الذين مارسوا السياسة باعتبارها فعلاً إلهيًا مقدسًا، بهدف إضفاء قداسة دينية ما على قراراتهم السياسية والإدارية، والتي تعبّر عن نصالح شخصية وحزبية ضيّقة أيضاً. وهذا ما جعل الإسلامويين يعتبرون المعترِض عليها معترضًا على إرادة الله وضاربًا بعرض الحائط بما هو مقدس. بالتأكيد هذا لا يعني أنّ من عارضوا الإسلام السياسي كانوا على حقّ. ولا يعني أنّ الخيارات الأخرى كانت مصيبة، سياسية كانت أو فكرية، وتبعت لأنظمة حاكمة أو لمؤسسات عسكرية أو اجتماعية أو فكرية. أبرز مظاهر التشويه لحقت بالإسلام السياسي من الإجتهاد، مقرونًا بإضفاء القداسة على التراث الديني، في ظلّ خلاف حول هذا التراث. إذ يجمع الفقهاء على أنّه تراث مختلف عليه بين الفقهاء أنفسهم وبين المذاهب الاسلامية في ما بينها، يصل إلى حدّ التكفير المبتادل. أزمة الخلاف حول التراث الإسلامي تجعل كل مسلم، تحديدًا من هو طامح لتطبيق الشريعة، يبحث في خزائن هذا التراث فيجد ما يحتاجه كي يبرر أفعاله، ايّاً كانت… وإلى القراءة القاصرة للنص الديني وتجلياته في التاريخ ومراحله المتنوعة، تصبح النزعة الإنتقائية من خزائن القرآن والسنة، ومن التراث اللاحق بهما، طاغية ومغرية لكل من يشاء. بحيث أنّ أيّ سلطة، مهما كانت مسيئة، تظلّ قادرة على إضفاء شرعية دينية على سلوكها. والنماذج في عالمنا العربي لا تعدّ ولا تُحصى. كما هي حال جماعات الإسلام السياسي على إختلافها. فهي لم تعجز، أمام أيّ موقف تتخذه، عن إضفاء البعد المقدس عليه. هكذا يصير الإسلام السياسي، او مشروع الدولة الدينية الإسلامية، مشروع استبداد في أحسن الأحوال أو مشروع قسمة للمسلمين أقلّه، قبل أن يكون مشروعًا لحروب أهلية بين المسلمين وغير المسلمين.
الثورات العربية
وإذا كان من فضيلة يمكن أن تخرج من هذا التصدع السياسي والإجتماعي وحتى الديني، في عالمنا العربي، فهو أنّ الإسلام تشوّه حين أصرّ البعض على اعتباره سلطة ومصدر شرعية الدولة. ولا يمكن نزع التشوهات عنه إلاّ حين يتم الفصل الموضوعي بين مساحة الإسلام كدين ومساحة الدولة وسلطاتها التي هي من اختيار المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات أيًّا كان انتماءهم الديني أو الإيديولوجي والسياسي…هما مساحتان مختلفتان واحدة منزلة من السماء وأخرى هي من صنع الناس وأنظمة مصالحهم واختياراتهم الحرة. المعضلة الأساسية إذًا تكمن في فشل مشروع الدولة الوطنية التي تقوم على أساس المواطنة، وتداول السلطة، التي تتأتى شرعيتها من المواطنين، وتستند إلى شرعية دستورية. ليست فلسطين مصدر شرعية السلطة ولا شعار الإسلام هو الحل، ولا شعار المقاومة، باعتبار أنّ هذه العناوين كانت سبيلاً لتثبيت الاستبداد. هذا ما تقوله التجارب الإيديولوجية التي حكمت في الدول العربية. الأزمة في الإستبداد نفسه، سواء كان باسم الدين او باسم المذهب او باسم القومية أو باسم تحرير فلسطين او باسم مقاومة المحتلّ. فشل بناء الدولة الوطنية وطوباوية الدعوة إلى الخلافة الاسلامية يتقاطعان عند عطب واحد، هو الاستبداد. الخلافة الاسلامية، أو دولة ولاية الفقيه، تقومان على اساس واحد يتقاطع مع فشل بناء الدولة الوطنية، وهو الاستبداد. الاستبداد هو الاصل في هذه النماذج، أي أنّ شرعية السلطة في هذه النماذج لم تستند إلى خيار المواطنين، فهي إمّا سلطة مستمدة من الله، أو سلطة تكتسب شرعيتها من الإيديولوجيا، سواء كانت قومية او وطنية أو دينية. الإستبداد هو ما يجعل “داعش”، على سبيل المثال لا الحصر، احتمالاً مستحيلاً للحكم. فالعرب يثورون على الاستبداد، وليس على نظام محدد. والأرجح، والأمل، ألا يكون للاستبداد مكان في مستقبلنا العربي.

رائحة غامضة في بيروت من عوارض موت وشيك
حازم الامين/الحياة/11 نيسان/16
ثمة رائحة كريهة تنبعث في أرجاء العاصمة اللبنانية بيروت. ليس في ما ورد هنا أي استعارة. فالجميع في بيروت يشمها، والجميع يحاول أن يتوقع مصدرها، هل هي النفايات المتراكمة منذ ما يقارب السنة في محيط المدينة وقد اختمرت في هذا الطقس المشمس وراحت تبعث غازاتها، أم أن مصدرها المرفأ حيث من المحتمل أن تكون قد رست باخرة تنقل المواشي. لا شيء في بيروت هذه الأيام سوى هذه الرائحة، وأحياناً يُطل علينا بيار الحشاش بواحدة من مآثره الوطنية فينسينا الرائحة لدقائق ثم تعود الأخيرة لتحتل موقعها في وعينا كحقيقة وحيدة في هذا البلد المُطفأ والذاوي. لبنان اليوم أقل من أن يكون مسرحاً لحدث، والرائحة المتفشية في أرجاء عاصمته ليست حدثاً إنما هي جزء من طبيعة الأشياء ومن خمودها وموتها. والعجز عن إحداث واقعة وعن تغيير مسارٍ هو امتداد لموت راح يُمعن في الفتك بكل شيء. ولا وظيفة لبلدنا اليوم سوى هذا الموت السريري، والموت لا يمكن أن يكون انتظارياً أو موقتاً، بل هو أبدي ونهائي.
وقائع كبرى عجزت عن أن تتحول حدثاً في ظل هذا الموت. كشف شبكة هائلة للإتجار بالبشر ليس حدثاً حياً، ذاك أننا جثة سياسية واجتماعية وأخلاقية، ومَن هذه حاله لا تهزه حقيقة أنه حاضنة لسقطات أخلاقية من هذا النوع.ثمة شيء مُفجع فعلاً في أن تعجز عاصمة بلد عن تفسير رائحة متفشية ومنبعثة في أرجائها! ما هي هذه الرائحة؟ من أين تأتي؟ وهل يعقل أن تعجز الحكومة والبلدية والأجهزة الأمنية عن تحديد مصدرها؟ الأمر لا يتعلق بالرغبة في الحد منها، فهذا طموح غير واقعي، بل بمعرفة طبيعة هذه الرائحة وسبب انبعاثها. صحيح أنها رائحة كريهة، إنما يمكن لأهل بيروت أن يتعايشوا معها في حال تم تحديد مصدرها.
هذا العجز هو جزء من عجز هائل راح يصيب كل شيء في لبنان. عجز عن انتخاب رئيس للجمهورية، وعجز عن منع «حزب الله» من القتال في سورية، وعجز عن جمع النفايات وعن ضبط الحدود. وبهذا المعنى، يجب أن نكفّ عن تسمية لبنان بلداً، فشروط الحد الأدنى لهذه التسمية غير متوافرة فيه. الرئيس والحدود والقدرة على جمع النفايات، هذه كلها غير متاحة للبنان، وما هو متاح له لا يزيد عن تظاهرة من خمسة أشخاص يقودها ممثل وطنيتنا الصفيقة بيار الحشاش يقدم فيها على تخريب مكاتب صحيفة وعلى وصف اللاجئين السوريين بأقذع العبارات عنصرية وابتذالاً ورثاثة. وهناك أيضاً شيء آخر متاح في هذا البلد السابق، هو أن يُقدم مواطنون منه على خطف بشر وإجبارهم على ممارسة الدعارة. هذا حدث يجب أن لا ننساه، وإلا كنا غير عادلين بحق بلدنا الذي هو موطن بيار الحشاش.
وبهذا المعنى نحن أمام عناصر مواطنة تتراوح بين التفاهة والجريمة، وهذا لا يصنع بلداً، وإن كان يُنشئ «أمة».
والحال أن التفاهة بدأت تظهر على كل شيء في لبنان هذه الأيام، وليس على سياسييه وحكومته ونفاياته فقط. التفاهة بدأت تمتد إلى التاريخ أيضاً، ذاك أننا من هذه المسافة الزمنية المفعمة بهذه الرائحة الغامضة نستقبل هذه الأيام الذكرى الـ41 للحرب الأهلية اللبنانية، وبالأمس انتبه أحدنا إلى أن حربنا أيضاً كانت حرباً تافهة، وهي كذلك على رغم عنفها وامتدادها لما يقارب العشرين سنة، فحرب بهذا العنف وممتدة لكل هذه الفترة الزمنية لم تحقق شيئاً يُذكر، ولم تُشكل درساً ولا وعياً مختلفاً ولا ثقافة وحساسية لتفادي الحروب، هي حرب مأسوية من دون شك، لكنها حرب تافهة أيضاً على نحو تفاهة جنودها وقادتها. لم يعد لبنان بلداً، فهل تذكرون الرغبة بالاستعاضة عن البلد بـ «ساحة». كانت «العروبة» في حينها ساعية إلى هذه المهمة، وقد أنجزت على ما يبدو جزءاً منها. فلبنان اليوم ساحة بالمعنى الحرفي للكلمة. لا حدود للساحة ولا رئيس ولا أهل يمكنهم أن يتوافقوا على جمع النفايات. ومهمة تحويل البلد ساحة شهدت خطوة أخيرة قبل سنوات قليلة أكملت مشهد التحول. فُتحت الحدود للقتال في سورية، واقتضت الخطوة فراغاً في رئاسة الجمهورية، واستمراراً لعمل حكومة ميتة وعاجزة، وتأجيلاً لكل الاستحقاقات بانتظار إنجاز المهمة خلف الحدود، مع ما قد يعني إنجاز هذه المهمة من احتمالات إلغاء للبنان ولفكرته وتجربته.
لكن حال الانتظار قاتلة، ورائحة بيروت وحدها ما يملأ الفراغ الناجم عنها. ثم إن دولاً لا يمكن أن تبقى في وضع انتظاري من دون أن يزحف الموت إلى أرجائها. فلبنان الذي ينتظر عودة «حزب الله» من مهمته في سورية لكي ينتخب رئيساً ويشكل حكومة، ولكي يعيد ضبط الحدود وجمع النفايات، لبنان هذا، سيأكله العفن قبل أن يعود الحزب من سورية، ذاك أن الحرب هناك طويلة ومديدة ولا يبدو أن ثمة منتصراً فيها حتى الآن. صحيح أننا أثناء انتظارنا عودة الحزب الميمونة من سورية، قد نتعايش مع الرائحة بعد أن تكون قد تفشت في أرواحنا وأمزجتنا، لكن من يضمن بقاءنا على قيد الحياة، فالرائحة أشبه بغاز يكاد يُلمس لشدة قوته في بعض مناطق العاصمة.
ربما في الصورة الأخيرة استعارة لا تشبه واقعية تفشي الرائحة الكريهة في عاصمتنا الكبرى بيروت، لكن الاستعارة تقترب من الواقع حين نكتشف أن الزمن لن ينتظرنا لكي نعود من نزوتنا في سورية. فنهاية الحرب هناك قد تكون نهاية لبلدنا أيضاً، طالما أننا لا نملك حساسية كافية لتقدير معنى أن تفتح حدودك على حرب مشتعلة وعلى احتمالاتها. وقد يسبق الانهيار الأخير هنا نهاية الحرب هناك، فأسباب البقاء، بقاء لبنان، تنضب يوماً بعد يوم، وربما نموت ميتة تافهة من نوع الاختناق بغاز غامض.