عقل العويط/لغسان سلامة التهاني القلبية لأن الدولة لم تتبنّ ترشيحه للأونيسكو لبنان الشاعر أرضاً للسقوط المريع في مكبّات الزبالة والأحضان الحيوانية

216

لغسان سلامة التهاني القلبية لأن “الدولة” لم تتبنّ ترشيحه للأونيسكو لبنان الشاعر أرضاً للسقوط المريع في مكبّات الزبالة والأحضان الحيوانية
عقل العويط/النهار/11 نيسان 2016

كان لبنان إلى فترة سابقة قصيرة، بلداً قادراً على أن يجمع في تناقضاته العجيبة الغريبة، أرفع مراتب الخلق والإبداع والحرية والعلم والحداثة، وأدنى مراتب الجهل والحيوانية والخساسة واللؤم والعهر والانحطاط. اليوم، بات لبنان، على مرأى من ذاته، ومن ذات العالم، مرتعاً حصرياً بامتياز لكل أشكال السقوط المادي والمعنوي، خانقاً، باعتزازٍ لا مثيل له، علامات الأنسنة والضوء والتفرّد، للتمرّغ في ليل الأحضان الحيوانية. يعيش العالم اليوم على وقع “أوراق بنما” وفضائحها المالية والقيمية. هذا العالم السعيد، من شماله إلى الجنوب، سيجد الوقت والإثارة الكافيين ليتسلى بانكشاف الفضائح وغوامض الأسرار حول مواقف الدول ورجال المال وأصحاب الصفقات وتجّار السلاح وباعة البشر والأطفال منهم والنساء خصوصاً. لن يضجر هذا العالم السعيد، بل سيقهقه طويلاً وبصوتٍ عالٍ، عندما يشاهد من الوقائع ما يشيب الرؤوس ويزلزل العقول والنفوس. القمة الانسانية العالمية التي ستنعقد في اسطنبول (World Humanitarian Summit) في 23 و24 أيار المقبل ماذا تقول لهذا العالم السعيد؟ هل تبشّره بانتهاء الحروب وبوقف التسلّح النووي وبدنوّ السيطرة على الأمراض وباقتراب زمن السعادة؟ أم تبشّره بإعادة الإعتبار إلى الإنسان، من خلال سلّمٍ جديد للقيم؟ ماذا تروي له، مثلاً، حكايات الاتجار بالبشر، وتدمير التراث الحضاري في بلاد ما بين النهرين وفي سوريا الطبيعية؟ ووقوع أوروبا برمّتها فريسة الهول الظلامي؟ وماذا تحكي له عن مصير أرض فلسطين التي ينتهكها يومياً الوحش الصهيوني الإسرائيلي، ويقضم ترابها، ويجرف زيتونها، ويزهق أرواح أطفالها ونسائها وشبابها؟ ماذا تقول له عن صعود نجم المرشح الرئاسي الأميركي دونالد جون ترامب، المهووس بأمراض العنصرية والرجعية والاعتداد بالعنف والتخلف والقتل؟ هل تعده بالمنّ والسلوى لأن صاحبنا رجل أعمال، وملياردير، وشخصية تلفزيونية، ومؤلف، ورئيس منظمة للعقارات، يدير مشاريع وشركات ومنتجعات للترفيه والعديد من الكازينوهات، والفنادق، وملاعب الغولف، والمنشآت الأخرى في جميع أنحاء العالم؟

“أوراق بنما” ستُغرِق العالم بأسره في النتانة المقيتة. هذا أكيد. والقمة الإنسانية ستبوء بالفشل الذريع لأن المنتدين هم ضدّ الإنسان أصلاً وفصلاً. ليس من شكّ أو التباس في هذه المسألة. لن يكون ثمة حلٌّ ممكن لمأساة البيئة الكونية، ولا لكارثة التلوّث. فاطمئن أيها العالم. لن يحصل شيءٌ من هذا، لا في القريب ولا في البعيد. فما كُتِب قد كُتِب. وما لم يُكتَب، هو في قيد الكتابة، على أيدي القتلة والدجّالين وصغار النفوس. لن يتمكن الإنسان من التغلّب على حيوانيته المريضة، إنقاذاً للعالم من المصير المحتوم.

الفرسان ينقرضون. النبل يموت في العالم. اطمئنوا: الأمثلة المفجعة ستبرز تباعاً.

“أوراق بنما” اللبنانية
لن أطيل الكلام عن أحوال الأمم، وخصوصاً ما يُرتجى لهذا الشرق المثخن الجريح، ولأممه ودوله وشعوبه. ففي لبنان، عندنا من “أوراق بنما” المحلية، “شغل بلدي”، ما يجعلنا موضع افتخار. اطمئنوا. لن نشعر بالغبن، فـ”أوراق بنما” لن تغطّي على أوراقنا، ولن تفسد علينا سبل الزهو المريض. فشر! العبقرية اللبنانية (والعبقرية العربية، ومثلها العبقرية الإسلامية، تحصيل حاصل) ستكون في المرصاد. وهي قد حققت أشواطاً كبيرة في هذا المجال. “لبنان أولاً” مزهوٌّ من أقصاه إلى أقصاه بشبكة الدعارة “الوطنية” التي وصلت مواصيلها إلى جهات العالم الأربع. على كلّ حال، هذا ليس هو الموضوع. إذ ثمة ما هو أجدى. والحال هذه، يجب أن تعبروا يومياً في ضاحية بيروت الشمالية، كما في مداخل بيروت الجنوبية، لتشمّوا الهواء العليل، الخالي من التلوّث، ومن الروائح المكروهة أو غير المستحبة. هنا العطور على أنواعها ومراتبها، بحيث يستطيع أهل السلطان والسياسة والمال أن يمرّوا من هناك وهناك متباهين بأن المنطقة تنتمي جغرافياً ورمزياً إلى “جبل لبنان”. وما أدراك ما آل إليه جبل لبنان هذا، وهو أرض البخور واللبان، على أيدي ممرّغيه وساسته ومافياته وتجّاره ورجال عظمته! مكبّ برج حمود المستجدّ، يغني عن كلّ شرح وتوضيح وتفسير. زعماء بيروت وزعماء المتنَين الجنوبي والشمالي، يمكنهم أن يتريّضوا في هذه الديار، كما يمكنهم أن يدعوا أهل الاغتراب والسياح لتمضية الأوقات العزيزة اللذيذة في الربوع. ثم إن الصيف على الأبواب، وقد لاحت تباشيره في هذه الأيام القليلة الماضية، بحيث أن العطور، عطور المكبّ التاريخي الشهير، باتت في غنى عن كل تقريظ. ولن أتحدث عن البحر هناك، وفي الجوار. فالسمك وآكلوه أدرى بالحقيقة وبالفحوى و… المآل. ما أقوله عن مكبّ برج حمود ينطبق على الكوستا برافا والناعمة. وهلمّ.

لكن ما لي وللمكبّ هذا، أو لغيره من المكبّات. يسعدني أن أتحدث عن إنجازنا الوطني اللبناني في منظمة الأونيسكو. أريد لغسان سلامة أن يفتخر لأن بلاده لم ترشّحه للمنصب المعلوم. تصوّروا أن “الدولة” رشّحت غسان سلامة “رسمياً”. تصوّروا أن البعد “الرسمي” هو الذي يقف وراء ترشيح غسان سلامة؟! إضحك في عبّك، يا صديقي غسان، لأنك لم تقع في هذا المطبّ. اطمئن. أياً كانت النتيجة التي سيرسو عليها موضوع الترشّح والانتخاب. يكفيك اعتزازاً أن الدولة لم ترشّحك للمنصب. تهانيّ القلبية.

ماذا بعد، أيها اللبنانيون؟! هل يجب أن أذكّركم بأن الصحافة المكتوبة هي، “والحمد لله”، بألف خير؟ وبأنها ستشهد، قريباً جداً، المزيد من أسباب التمكن والازدهار؟ هل يجب أن أحدّثكم بالتفصيل عن “أوراق بنما” اللبنانية في هذا الشأن، وعن المكتبات ودور النشر والملاحق الثقافية المقفلة، أم عن أحوال الصحافيين الذي يضطرون إلى الوقوف على الأبواب، أو “الركوع”، من أجل الحصول على لقمة خبز، لكنهم لا يحصلون على هذه اللقمة؟ هل من الضروري أن ألفتكم إلى أحوال الأدب والأدباء، وما هي التكلفة المادية و”المعنوية” لكي يتمكن شاعرٌ جدير، اليوم، من أن ينشر ديواناً له، وكيف باتت تعامله دور النشر… فضلاً عن القرّاء؟

هل يجب أن أذكّركم بأن طبقتنا السياسية ترضخ منذ سنتين تقريباً للأمر الواقع، باعتزازٍ لا مثيل له، فترضى، موضوعياً، بعدم انتخاب رئيس للجمهورية، لأن “حزب الله” لا يريد للرئيس أن يُنتخَب؟ ثمّ، ماذا يضيرنا، والحال هذه، أن نرفض الرضوخ لإجراء الانتخابات البلدية؟ فلأيّ هدفٍ نجريها، أو نوافق على إجرائها؟ أليس الأجدر “تفريغ” الجمهورية برمّتها من مؤسساتها “الشرعية” و”الدستورية” و… “الميثاقية”، تحقيقاً لشعار “الدولة المارقة”، أو “الدولة الفاشلة”؟ أليس الأجدى استقالة النوّاب الذين لا يوافقون على هذا “الأمر الواقع”، تسريعاً لهذه الغاية أو لمنعها؟ وممّ الخوف؟ من الوصول، موضوعياً، إلى مبتغى “حزب الله” في المثالثة، أو في الفراغ الشامل، تمهيداً لفرض شروطه على الأطراف الآخرين؟ فليكن ما يكون، يا سادة. ثمّ، هل يجب أن ألفت أنظاركم الكريمة إلى أن وزير خارجيتنا العنصري المالك سعيداً، يرفض استقبال الأمين العام للأمم المتحدة… لأيّ سبب كان؟!

هل ضاقت في أعيننا حقاً، “كذبة نيسان” في جريدة “الشرق الأوسط”؟ في رأيي، أن الكاريكاتوريست قد ارتكب ما ارتكب حين “مزج” بين “دولة لبنان” والعلم اللبناني. هو يستطيع أن يرتكب وأن يخطئ. بل “حقّه” أن يرتكب ويخطئ، فيُنتَقد ويُحاسَب. أما أولئك الأشاوس الذين انتهكوا حرمة مكاتب الجريدة، والذين لا وصف “يليق” بهم، فهم، والحقّ يقال، بعض هذا المكبّ العميم العطر، الآنف ذكره في هذا المقال. ماذا بعد، يا أهل لبنان؟ هل يمكنكم أن تتخيّلوا، مثلاً، أن إحدى جامعاتنا العريقة جداً جداً، لا تجد على مقاعدها أكثر من طالبة، أو طالبين، أو ثلاثة، في الأكثر، لاختصاص الأدب واللغة العربيين، هي التي كانت طوال قرن وأكثر من ربع قرن، منارةً للإشراق في هذا الباب؟! ثمّ، هل يمكنكم أن تتخيّلوا، مثلاً، أن أساتذة للأدب العربي من حملة الدكتوراه في “جامعتنا الوطنية” يصدر بعضهم كتباً ملأى بأخطاء النصب والرفع والجر؟ طبيعي. “شو عليه”، سيقول قائل، طالما أن لبنان الشاعر ضريحه الأشواك اليابسة والمراحيض و… مكبّات الزبالة!