إياد أبو شقرا: ظاهرة في لبنان.. اسمها سامي الجميّل

157

ظاهرة في لبنان.. اسمها سامي الجميّل
إياد أبو شقرا/الشرق الاوسط اللندنية/10 نيسان/16

ما حظيت أسرة الجميّل، التي برز منها عبر عقود عدد من الشخصيات في معترك السياسة في لبنان، في يوم من الأيام بإجماع وطني عريض. والسبب الأساسي أن الشيخ بيار الجميّل، عميد العائلة وأحد أبرز وجوهها، أسس عام 1936 حزبًا سياسيًا ذا هوية طائفية صريحة. وعلى امتداد زعامته الطويلة له، تأكدت هذه الهوية أكثر فأكثر مع أنه – مثل معظم الأحزاب الناجحة – تمكن من إيجاد صيغة آيديولوجية أقل ارتهانا للحدود الطائفية الجامدة وأكثر تقبلاً للآخرين.. تجسدت في تشديده على الهوية «اللبنانية» في مواجهة «السَّورَنة» و«العروبة». لقد تطور حزب «الكتائب اللبنانية» بفضل بيار الجميّل، الذي شاركه تأسيسه شخصيات سرعان ما نأت عنه واختارت نهجًا أكثر استقلالية مثل شارل حلو، رئيس الجمهورية اللبنانية بين 1964 و1970، والصحافي والمثقف الكبير جورح نقاش، من تنظيم شبابي رياضي إلى حزب عالي التنظيم وواسع الحضور، صار بين 1960 وحتى 1990 أقوى قوة سياسية مسيحية في لبنان. بل إن نجلي المؤسس بيار الجميّل، بشير ثم أمين، انتُخبا رئيسين للبنان. ثم دخل الحفيد بيار أمين الجميّل البرلمان، وتولى الوزارة ورئاسة الحزب قبل اغتياله شابًا، في سن الرابعة والثلاثين، عام 2006. واليوم تتمثل العائلة في البرلمان بحفيدين آخرين هما سامي أمين الجميّل ونديم بشير الجميّل، ويتولى الأول رئاسة الحزب.

عندما كان بيار «الحفيد» في الواجهة السياسية، كان شقيقه الأصغر سامي مُنشغلاً بجماعة شبابية ذات شعارات جريئة رأى كثيرون حينها أنها مثيرة للجدل وهامشية. وبدت، حقًا، أقرب إلى الاعتراض منها إلى الطرح السياسي المتكامل الذي يمكن أخذه بجدية في مجتمع تعددي، طوائفي منقسم على ذاته، زادته حرب أهلية – إقليمية طالت 15 سنة انقسامًا وهواجس وتعصبًا وميلاً إلى الإقصاء والتخوين.

بيار «الحفيد» كان قد أعاد تأسيس الحزب ورص صفوفه إبان وجود أبيه في منفاه الفرنسي، وأفلح – كما يقول كثيرون من المناصرين والمحازبين – بإعادة «الكتائب» إلى درب استعادة مكانته كأكبر قوة مسيحية منظمة في لبنان. وكان الحزب في تلك الفترة قد تأثر سلبيًا بالخلافات السياسية التي عصفت به، ووصلت إلى حد انشقاق وابتعاد قيادات ارتبط بعضها بما كان يُعرف بـ«النظام الأمني اللبناني – السوري». كذلك تأثر سلبيًا ببروز المنظمات المقاتلة الخارج بعضها من تحت عباءة الحزب، مثل «القوات اللبنانية»، وظهور «الحالة العونية» عبر مزايدات الجنرال ميشال عون «مسيحيًا» على كل الشخصيات والمؤسسات المسيحية، بما فيها البطريركية المارونية.. ولا سيما لجهة رفضه «اتفاق الطائف» للوفاق الوطني. وبالتالي، كان اغتيال بيار أمين الجميّل، في مرحلة الاغتيالات المُسددة ضد انتفاضة الاستقلاليين في لبنان على الهيمنة الأمنية لمحور دمشق – طهران، خطوة مدروسة بعناية.

في حسابات القتلة كان لا بد من نسف «مشروع زعامة» مسيحية شابة تستطيع اختراق الحواجز الدينية والمذهبية، خاصة أنها لم تُشارك مباشرة في القتال كحال «القوات»، ولا هي على عداء وجودي مفتوح ضد مكونات لبنانية أخرى كميشال عون. ولبعض الوقت نجح رهان القتلة… وارتبك «الكتائب»، وبخاصة، إن قلة توقعوا أن يملأ الشقيق الأصغر سامي الفراغ.

غير أن سامي أمين الجميّل تمكن بسرعة مفاجئة من فرض وجوده، أولاً داخل الحزب، وثانيًا على مستوى لبنان. وهنا قد يقول قائل إن «الغريزة السياسية» المتوافرة عند مَن ينشأون ويتربّون في بيوتات سياسية تقليدية – وما أكثرها في لبنان – تساهم في «قطع المراحل»، وتساعد على تسريع مسار النضج. وعلى الرغم من حماسة الشباب التي تطل بين الفينة والفينة، يثبت سامي الجميّل حاليًا حضوره مستفيدًا من مزيج يجمع الثقة بالنفس، ووضوح الرؤية، والصراحة، وخيبة أمل كثرة ممن راهنوا على البدائل في الشارع المسيحي.

سامي الجميّل الذي صدم كثرة من اللبنانيين بطرحه «الفيدرالية» عندما كان ينشط قبل 2006 على هامش السياسة العملية، لم يتخلَّ عن جوهر ذلك المبدأ، لكنه بات الآن أكثر دبلوماسية ونضجًا في طرحه وترويجه. أضف إلى ذلك أنه، في أعقاب الكارثتين العراقية والسورية، ما عادت كلمة «الفيدرالية» تلك «الفزاعة التقسيمية» المخيفة، ولا «فعل خيانة».. في ظل مشروع الهيمنة الإيراني المتمدد وتهديد «الداعشية» الظلامية. ثم إن «اتفاق الطائف» نفسه نص على «اللامركزية الإدارية الموسعة»؛ لأنه لحظ استحالة فرض الاندماج الكامل بعد حرب أهلية مدمرة، قبل طمأنة الخائف ووضع حد لأطماع المُنتشي بالنصر.

اليوم، لا بد من القول إن رهان الدكتور سمير جعجع، زعيم «القوات اللبنانية»، على إحداث اختراق سياسي بعقده «مصالحة مسيحية» مع العونيين فقد بريقه، إن لم نقل صدقيته؛ لأنه بدلاً من إقناع عون بالكف عن الاستقواء بـ«حزب الله».. منح إيران عبر «حزب الله» مزيدًا من التغطية المسيحية لاستراتيجيته القائمة على «التعطيل، فالفراغ، فالهيمنة». وبدلاً من إحراج أدوات إيران وجماعة 8 آذار في الداخل اللبناني.. وتَّر العلاقات داخل جماعة 14 آذار وهزَّ الثقة بين مكوناتها.

وهكذا، بات سامي الجميّل الصوت المسيحي الأكثر صراحة وواقعية.. أولاً، في تشخيص أزمة لبنان مع اقتراب الفراغ في رئاسة الجمهورية من السنتين! وثانيًا، في وصف حقيقة «حزب الله» كتنظيم ودور وفلسفة وولاء.. وثالثًا، في التعامل مع المخاوف حول مستقبل لبنان في أيام تساقط المحظورات، وإعادة تعريف الهويات، وشطب الحدود، واتساع نطاق التهجير والتغيير الديموغرافي.

في ظل التطورات الإقليمية وانعكاساتها على الداخل اللبناني، كثيرون من اللبنانيين يدركون اليوم تمامًا أن ملعب «حزب الله» أكبر من لبنان، وأن قراره السياسي والأمني خارجه، وأن ولاءاته والتزاماته وارتباطاته ومفاهيمه لا علاقة لها لا بلبنان ولا دستوره ومؤسساته.. لكنهم لا يجدون أنفسهم مضطرين إلى التكلم بصراحة. سامي الجميّل وحده يتكلم بوضوح، مع علمه تكلفة الصراحة في بلد ما عاد يتسع صدره لانتقاد كوميدي من هنا أو رسم كاريكاتوري من هناك، ووحده – ربما – يبدو مستوعبًا عبثية «حوار الطرشان».